|
“النابغة لا يحتمل ، إذا لم يُضف إلى خصاله اثنتين
على الأقل : الشكران و النقاوة ” نيتشه
تميز الجنس البشري عن سائر
المخلوقات بما حُبيَ من الله بعقلٍ ، يُميز فيه بين الخطأ و الصواب و الضار
و النافع ، و يستعمله في عمارة ذاته و حياته ، و كذلك في بناء مجتمعه و
أمته ، و هذا العقل درجات متفاوتة لدى الجنس البشري ، فليس سواءً ، ففيها
من التمايز الكبير ، مما يدع الشخصَ مُنطلقاً في الزيادة العقلية ،ويدع
الآخر منفرطاً في النقصان ، فالأول يُمدحُ و الأخرُ يُذم ، و كلاهما وجهان
متجاوزان الحدَّ للشيءِ الوسط ، و لكنَّ الاعتبار في تقييمهما في نتائجهما
و آثارهما .لا كلام عن النوع الثاني ، فليس محلَّ اهتمام النوعين ( الوسط ،
و المتجاوز للزيادة ) ، و لا كلام عن النوع الوسط أيضاً ، لأنه ليس متميزاً
في ذاته بل هو على طبيعته ، و إنما الكلام عن النوع المنطلق في الزيادة ،
حيثُ يُرى هذا النوع من العقلاء أنهم يمتازون بشيءٍ ليس موجوداً في غيرهم ،
و في حقيقة الحال هم كذلك ، لكن من ناحية أنهم أبدوا و أظهروا تلك الزيادة
، في حين أن غيرهم كتمها و لم يُبدها ، و ما لم يُبْدَ كما لم يُوْجد .هذا
النوع المتميز بالزيادة في عقله ، هو النوع العبقري ، أو الذكي ، أو النابغ
، و هو ظاهرة إيجابية كبيرة في الجنس البشري ، لأن به يظهر ميزان العقل
الوسط و العقل النازل السلبي ، و من ثم كان محلَّ اهتمام الدارسين في كثير
من الأحوال ، و في عدة جهات ، منها الجهة الأخلاقية و السلوكية ، فالعاقل
النابغ الممتازُ عن غيره بزيادة الذكاء و العبقرية ينبغي أن تكون سلوكياتُه
سائرة مع تلك الصفة فيه ، فبقدر القوة العقلية ينبغي أن تكون القوة
الأخلاقية ، لكن حين نُمعن الكثير من النظر في أحوال أولئك نجد أنهم سلكوا
مسالك شتى ، فما بين نابغ ارتقى به ذكاؤه فصانه عن السفاسف ، و ما بين آخرَ
هوى به ذكاؤه حتى أوردَه السَّقْطَة التي لا قيام بعدها .قد يتقبل الناس
النابغة ، و يُفتنون به ، و يتبعونه أينما حلَّ و ارتحل ، لأنهم سيقفون منه
على جديد يُنوِّرُ عقولهم ، و يُكسبهم المزيد من أبعاد و أعماق نظرته
للحياة ، و لكن هذا لن يشفع أبدا له عندهم حين لا يكون مرتقياً السلوك
الحسن ، و الخُلُقَ الحميد ، بل سيجعلهم في نُفْرة منه ، و في منأىً عنه ،
و في مُنصرفِ القلب عن مودته ، و تلك مكمن خسارته ، لأنه سيكتسب صوراً
لأتباع ، و لكن يكتسب قلوباً و لا عقولاً ، ففي حال غيابه تغيبُ مودته معه
في قلوبهم ، فلا يرقبونه و لا يأملونه . أما إن كان على ارتقاء في أخلاقه ،
و اكتمال في سلوكه فإنه سيكسب في إطاره الكثير من الناس ، و سيتناقل
العالَم خبره جيلا بعد جيل ، لأنه أبقى معانيه بعد أن فَنِيَتْ مبانيه
.نوابغ الرجال عبر تاريخ البشرية كلها ، كانت على هذه السُّنة من السلوك ،
و يُعنى بهم هنا : الباقون سيرةً و خبراً ، فلا نظرَ في تخليدهم إلى شيءٍ
سوى معانيهم الباقية ، و الأخلاقُ أسمى المعاني ، فلا بقاء لمن صحَّ دينه و
قد ساءَ خُلُقه ، و لا لمن علا نسبُه و سفُل أدبه ، بل كانت الخالديةُ
الذِّكْرِيَّة لأولئك الذين لما ارتقوا بنبوغهم العقلي ارتقوا كذلك بنبوغهم
السلوكي و الأخلاقي .عودةُ النظر أخرى في حال أولئك النابغين ، الخالدين ،
نجد أنهم لا يمكنهم أن يرتقوا سُلَّم المعرفة إلا على أكتافِ آخرين ، و لا
يمكنهم أن يصلوا إلى منزلة إلا بدلالة غيرهم ، و لو قلَّ عنهم ، و هنا
تكمنُ حقيقةُ نبوغهم الأخلاقي و السلوكي ، فهم سيمنحون أولئك شكراً و ثناءً
و حمداً ، فمن لا يعرف للشكر لغةً لا يجدُ في النعمة بُلغةً ، فتراهم
يلهجون شاكرين لمن كان عوناً لهم ، بدءاً من الرب الأعظم جلَّ ، إلى آخرِ
من أرشدهم بإشارته ، و يصل الحال بأحدهم أن يستدلَّ بجماد على شيءٍ فينتزوع
في قلبه منزع الشكر له ، فلا يجد إلا أن يتوجه إلى الله شاكراً له أن دلَّه
على شيءٍ بشيءٍ لا يُؤْبَه به ، و الكاملون يرون في كلِّ شيءٍ كمالاً
.قلَّما تجد خصلة الشكر عند من يرى نفسه شيئاً عن غيره من جنسه ، لأنه
غارقٌ في بحرٍ لُجِّيٍ من الكِبر و الغطرسة ، فيرى أنه أرفعَ من غيره ، فلا
حاجة أن يشكر من قلَّ عنه ، و لا يرأف الله بمثل هذا ، فقانون الحياةِ أن
من حقَّر شيئاً حُقِّرَ يوماً ، ” لكل بطَّاح من الناسٍ يومٌ بَطوح ” ، و
حين يصل النابغةُ إلى هذا القدر أن يُعرض بخده عن شكرِ من صنعَ منه شيئاً و
لو لحظة فإنه ينادي على نفسه بتبديد و ضياع .آخرُ من الأشياءِ في النابغين
، كثُرَ من نفاها عن نفسه ، و لا تجدها إلا عند قلةٍ ، و الكرام قليل ،
صفاءُ الروح ، و نقاءُ النفس ، و تلك تعني سلامة القلبِ من حقدٍ و حسدٍ ،
لا يخلو جسد من سوء ، و لكن الكاملين يدفنونه بمفاخر أخلاقهم السامية ، و
الناقصين يحسبونه ميزةً فيُفاخرون بالردى ، و كلٌّ على ما تكوَّن عليه . لا
يصل النابغة إلى حد النقاء و الصفاء التام في حالاته ، القلبية و النفسية و
الروحية ، إلا حين يؤمن بأنه ليس إلا أثراً من آثار العناية الكبرى ، و
التي ميزته بهذا النبوغ ، و أنه ما كان ليكون كذلك إلا ليمنح الوجود أثراً
بما يُقذف في عقله من بديع المعارف ، و حين يصل إلى ذلك فإنه سيكون إلى
نقاءِ في طريقٍ واضح أبينَ ، لا ينغلق أمامه إلا حين يرى أنه شيءٌ بذاته ،
فعندها يُسلب ما لم يكن في حسبانه أن يُسلَبَه يوما .حين يتخلَّى النابغة
عن نبوغه الأخلاقي و السلوكي ، فإنه يُغلق على نفسه باب الزيادة من ذاك
النبوغ ، فليس النبوغ إلا شيئاً متى ما وُهِبَ و عُومل بأدبِه أعطى و منح
الأكثر ، و من دقائق منحه الأكثر جلبُ الأتباع المخلدين ، أنعتقد بأن من
خُلِّد من النابغين إنما خُلدوا بأنفسهم ؟ ، لا ، و إنما خُلدوا بالأتباع
الذين لزموهم ، و ما لزمهم الأتباع إلا لكونهم نابغين سلوكياً و خُلقياً
.لا يتجردُ عن النبوغ السلوكي و الأخلاقي أحد نبغ فكرياً إلا لاعتراء
النقصِ في شيءٍ من حاله ، ذاك النقصُ كامنٌ في تَيْنك الخصلتين اللتين
ذُكرتا ، إهمال الشكر و العرفان ، و تغييب الصفاء و النقاء ، و عند غيابهما
تسقط مهما كل قيمة للنابغة ، مهما كانت أثار نبوغه .