|
قال أبو الطيب المتنبي :
وَشِبهُ الشئِ مُنْجَذِبٌ
إليهِ --- و أشْبَهُنا بِدُنيانا الطَّغامُ
وَحْيُ البيت :
الشئُ لمثلِه و شِبْهِهِ يميلُ ، و عن ضِده ينصرفُ و ينحرفُ ، فلا يُعاكَسُ
شئٌ إلا بِضِدٍّ فيه ، و لا يُوافَقُ إلا بشئٍ يأتيه ، فالكريمُ للكرامِ
لاشتراكهم في الكرم ، و اللئيمُ للئامِ لاشتراكهم في اللؤم ، فكلٌّ يُحاكي
مُشابِهَه في جِنسِه ، سُنَّةٌ خَلقيةٌ ، و عادةٌ طَبَعِيَّةٌ .
و التشابُه بين الخلائقِ من المُستحسناتِ في المديح ، و من المُستقبحات في
الهجاء ، فعند المدحِ يُمدحُ بالشَبَهِ بالكرامِ ، و يَلْحقُ المدحُ كلَّ
شئٍ ، و عند الذمِّ كذلك ، لأن ” كل إناءٍ بما فيه ينضحُ ” ، و الذواتُ
تنضحُ بالصفاتِ ، و الصفاتُ إما تتشابَه و إما تتفارَق ، كما الذواتُ .
و التشابُه يجمع البعيديَن و يُفَرِّقُ القريبين ، كما الشأنُ في التفارق
، و قد قيلَ : رُبَّ أخٍ لك لمْ تلِدْهُ أُمُّك ، و الشأنُ أنَّ من التشابه
ما جمع بين بعيدَين فكانا كأخويَن ، و فرَّقَ بين أخوين كما لو كانا
بعيدَيْن .
و في المنقول من القرآن { الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات ، و
الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات } ، و في المأثور النبوي ” الأرواح
جنودٌ مجنَّدَةٌ فما تعارَفَ منها ائتلف ، و ما تناكَر منها اختلف ” فكان
التعارف لِتشابُهٍ ، و التخالفُ لتفارُقٍ .
و المرءُ مدني بطبعه ، و لا يميلُ ذو الطبع إلا لذي طبعٍ مثله ، حتى يستقيم
أمرهما ، و يدوم وَصلهما ، فالشِّكلُ لشِكلِه ميَّالٌ ، و الضِّدُّ
للضِّدِّ مُبايِنٌ مخالفٌ .
و التشابُه حيثُ كان كما بانَ ، فإنَّ تنوَّعَهُ على حَسْبِ حالِ الناسِ ،
فليسَ التشابُه و لا التفارُقُ على نَسَقٍ واحدٍ ، و لا على سابلةٍ واحدة ،
فقد يكونُ في الخَلْقِ ، و قد يكون في الخُلُقِ و هو الأكثر ، و قد يكون في
الحالِ .
و هو مدخَلٌ حسَنٌ للاتصال بالآخرين ، و التعارُف بينهم بعد التعرُّفِ
عليهم ، و هو من تحقيق الألفةِ بين الناسِ ، و تحقيق الصِلة بين سائر
الأجناس .
و هو كغيرِه ، يُمدَحُ و يُذمُ حيثُ يُوضَع ، و كغيرِه ، يُمدَحُ و يُذمُ
حيثُ يُوضَع ، فإن استغلَّ ذو شَرَفٍ مُشَابَهتَه في تنميةٍ و تعزيزٍ لشرفٍ
رامَه الله بِهِ فهو من المحامِد و الممادِح ، و إن وضَعَه في ضِدٍّ و
مخالفةٍ ، و استعمالٍ في سوءٍ لسوءٍ فهو من المذامِّ و القوداح .
و الأخلاقُ و الصفات تلتحقُ بذواتٍ و أجسامٍ تُشابِهها ، و لا تكون مع ذاتٍ
مخالفة ، و لا في جسمٍ مُبايِنٍ ، فكما قال أبو الطيبِ نفسُه :
و إذا كانت النفوسُ كباراً
--- تَعِبَتْ في مُرادها الأجسامُ
و النفوسُ بواطنٌ و الأجسامُ
ظواهرٌ ، فتشابُه يَجرُ شبيها ، و تفارقٌ يُحدثُ تفريقاً .
و كمال التشابُهِ المحمود الممدوح في اتفاقِ التشابُه بينَ الخلْقِ و
الخُلُقِ ، و الصورة و السُّورة ، و المظهرِ و المخبَر ، و في تفارُقِهما
مُفارَقَةٌ للحمدِ إلى الذم ، و للمدحِ إلى الهجاءِ ، و الجزاءُ من جنسِ
العملِ ، فبتشابُه القلوب تشابُه الأفعالِ .
و ليسَ انعدامُ التشابُه بعذرٍ لتركِ التشبُّهِ ، فرُبما كان التفعُّلُ
للتشبُّهِ كذاتِ التشبُّه ، و إنما الشئُ بتصنُّعِهِ و تخلُّقِ المرءِ بِهِ
، ” إنما الحِلْمُ بالتحلُّم ” ، و قد فاه أبو الطيبِ :
تَشَبَّهُ الخَفِراتُ
الآنِساتُ بِها --- في مَشيِها فَيَنَلنَ الحُسنَ بِالحِيَلِ
فكانَ نيلُ الحُسْنِ
بالتحيُّلِ و الوصولُ إليه بالتَّعَمُّلِ .
فالتَّفَعُّلُ للِتشبُّهِ كالتشبُّهِ ، بل هو سبيلٌ إليه ، و قد قيل قبلُ :
فتشَبَّهوا إن لم تكونوا
مِثْلهم --- إنَّ التشبُّهَ بالكرامِ فلاحُ
فإذْ بلغَ شأن التشابُه ما
سنا برْقُه لِعَيْنٍ ، و ما تشنَّفَ لحنُه لِسَمْعٍ ، فكونُ المرءِ
مُتَشَبَّهَاً بِهِ في خيرٍ نعتٌ لكمالِه ، و وصفٌ لِفَعالِه ، و السعيُ في
تحقيقِ ذلك ميسورٌ سهلٌ ، لا يتأتَّى إلا لذي أهلية و فضلٍ ، و هي مطمحُ
رغائبِ الكُمَّلِ ، و مَلْمحِ أنفُسِ الأفاضل ، طَرْقَاً لجادةِ الأوائل {
و اجعلنا للمتقين إماماً } ، و لم يَرْضَ بأن يكون مُتَشَبِّهاً ، حيثُ
أمكَنَه أن يكون مُتَشَبَّهاً به ، إلا من رضيَ بأن يكون ذيلاً لا رأساً ،
و سُفلاً لا عُلواً ، و أرضاً لا سماءً ، و ” اليدُ العليا خيرٌ من اليدِ
السُفلى ” و ” المعطيةُ خيرٌ من الآخذة ” و ” خيركما مَن بَدءَ بالسلامِ ”
و لا أبلغَ من سلامٍ في تَشَابُهٍ أن تكون مُعطياً له مأخوذاً منك ، و أن
تكونَ عالياً لِتُمْطِرَ لا سُفلياً لتلتقِطَ .