|
في كتابِه " المُتنبِّي " حرَّرَ الأستاذ الكبيرُ : محمود شاكر المِصْرِي ،
تَذوُّقاتِهِ لأشعارِ أبي الطَّيِّبِ _ رحمهما الله _ ، و تَذوُّقاتُه كانتْ
أدبيةً ، تَلْمَحُ في طَيَّاتِها نُفوذاً إلى نَفْسِيَّةِ أبي الطيب ،
فَتَخْتَلِجُ النَّفْسَيْنِ رابطةٌ يَخالُهُما القارئ نَفْساً واحدةً ...
و في كتابَيْهِ _ " في أثر المتنبي " ، " أبا العلاء .. ضجر الركب " _ كشَفَ
الشيخُ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري _ رحمه الله _ بُعْداً في
التَّذوُّقِ جديداً ، فاتَّسَعَت الآفاقُ ، و الأيامُ حُبْلَى ، و هو "
التذَوُّقُ الزمني " .
" التَّذَوقُ الزَّمَنيُّ " يدفعُ إلى إحداثِ صِلَةٍ ذاتِ عُرْوَةٍ وُثْقَى بين
الزَّمنِ الآفِلِ و الزمنِ الماثلِ ، بين السِّنين الماضيةِ و السِّنين
الحاضرةِ أو اللاحقةِ ، يَقْتَبِسُ أنوارَهُ ذُوْ فَهمٍ دقيقٍ ، و تجرِبةٍ
متينةٍ ، فَهو مِن الصعوبةِ بمكانٍ لا نظيرَ له ، و لِقِلَّةِ رجالِ ميدانِهِ
...
أمنيةٌ يتمنَّاها كلُّ عربيٍّ يريدُ الارتباطَ بسابِقِيْهِ ، فكانت مبادرةُ
تحقيقها من الشيخِ _ رحمه الله _ ، و الذي قَدِ اقتفى آثارَ شاعرَيْنِ كبيرين ،
أبي الطيِّبِ المتنبي ، وَ أبي العلاءِ المعَرِّي ، فأخذَ شيئاً مما نُثِرَ في
دواوينهما ما يكون مدخلاً له عليهما انطلاقاً مِن حاضره إلى ماضيهما
ليَسْتَعْبِرَ نظرَهما إلى مستقبلٍ يَجهلانِ ما تحملُه أيامُه و ليالِيْهِ ،
فَيُجَلِّي عَن بعضِ ما قالاهُ غُباراً سَفَتْهُ رياحُ الحوادث ، ثُم يأخذُ ما
اعتَبَرَه لِيُصحِّحَ زمانه وَ وَقْتَهُ و يبني قانوناً يُسارُ عليه في
مُستقبَلِ الأزمنةِ ، و هي فلسفةٌ أملتها عليه الصحراءُ ، فَهو : ساكنُ الخيمةِ
، و صاحبُ الجملِ ، و مُناغِي النجومَ ، و مُهاتِفُ القمرَ ، حالَ ابن الصحراءِ
...
يُضَمِّنُ الشيخُ في تأملاتِهِ رسائلَ إلى أبناءِ زمانِهِ ، تنتظمُ دررَها في
عِقْدٍ واحدٍ ، أن يكونوا في تطلُّعٍ للمستقبَلِ معَ ثباتٍ على أصولِ هويتهم و
مروءاتِ أهلهم ، فليسَ التطلُّعُ إلا إبقاءٌ على أصلٍ و تنميةٌ لَه ، و يعتَبُ
ذامَّاً مَن غادرَ هويتَه معرضاً عنها بزهدٍ ، و التي يُعَبِّرُ عنها بصحراءِ
الدهناءِ و اليمامةِ ، و بالجملِ ، و الربيعِ ، فليستْ إلا ظروفاً قيمتها فيما
يضعه الإنسان ، فقيمته الحقيقة تكمنُ في الإنسان .
هذا سرُّ التذوُّق الزمني عند الشيخ ، رسالةٌ يُبْقِيْها في تضاعيفِ كتُبِهِ ،
لينهلَ منها مَن بعده .
حقيقةً ، و أنا أقرأُ في الكتابَيْنِ : " في أثَرِ المتنبي " وَ " أبا العلاء "
يأخُذُ العَجَبُ مني كلَّ مأخَذٍ ، فأطرَحُ تساؤلاً _ كما صنيعُه معَ
أُستاذَيْهِ _ : كيف اهتدى الشيخُ إلى هذا " التذَوُّق الزمني " ؟ ، و كيف كان
الرَّبْط الدقيق بين الزمنين ؟ ، و كيفَ ، و كيفَ ؟
يُهاتِفُني التاريخُ ناشراً جوابَ ذلك ، و كأنه يقتبسُ من تأملاتِ الشيخِ ، :
لا َشَكُّ في أنَّ الشيخَ _ رحمه الله _ كان يُمضي زمناً من يومه و ليلته في
التأمُّلِ و التَّفَكُّرِ ، و هي وظيفةُ العباقرة ، و بِها يَدلِفُوْنَ إلى
غياهِبِ الأسرار ، و لكن تأمُّلات الشيخِ نوعاً فريداً ، فهو يتأمَّلُ الماضي و
الحاضر في آنٍ ، و يَخْرُج مِن تأمُّلِهِ بتأمُّلاتٍ ، تفرُّدُهُ المُمَيِّزُ
في قوَّةِ الرَّبْطِ بين الزَّمنين رَبْطاً دقيقاً ، و خروجِهِ منهما
بتأمُّلاتٍ مُسْتَقْبَليةٍ ، فلم يكن تأمُّلُه في الماضي أو الحاضرِ فقط ، و لم
يكن فيما ينتجُ من الربطِ بينهما ...
و التجارِبُ التي مرَّ بِها الشيخُ في حياته كانت كفيلةً بتذَوُّقِهِ الزمني
البديع ، إلى جانبِ ثقافةٍ مُوَسَّعَةٍ ، يَعْضُدُ ذلك أملٌ _ في طَيِّ ألَمٍ _
، و الحياةُ مدرسَةٌ ، و الشيخُ ذاته مدرسَةٌ ، فأَعْجَبُ مِن مدرسَةٍ في
مدرسَةٍ ، و حقُّ المدرسَةِ الإعمار لِتبقى معيناً ثَرَّاً تَنْهَلُ مِنْهُ
أجيالٌ ، و لقد أدركَ الشيخُ كونه مدرسةً فكان تسطيرُه اقتفائه آثار
أُستاذَيْهِ ، فَلْيَكُنْ لمدرستِهِ تلامذةً يَقْتَفون الأثرَ ...
هذا المسلكُ الذي انتهجَه الشيخُ يكشِفُ لنا نفْط العقولِ ، و حضارةَ الفكرِ ،
و يُعطينا شاهداً محسوساً على أنه لا حاضرَ إلا بالماضي ، و مَنْ ليسَ له ماضٍ
فليسَ له حاضرٌ ...
أزْعُمُ أنَّ كِتابَيْه هُما منثورُ رُؤاه و نظراتِهِ ، لما تَضمَّناهُ مِن
الحِكَم _ و هو المُجَرِّبُ _ ، و ما أحسن الحكمة إذا حاكَتْها تجرِبَةُ
اثنَيْنِ _ أو أكثَر _ ، و لاكَتْها ألسنةُ الشعرِ و النَّثْرِ ، و هذا ما كانَ
مِن " التَّذَوُّق الزَّمني " مِن المُقْتَفَى و المُقْتَفِي ، اقتَنَصَ يراعي
شيئاً طيباً من عيون كلام الشيخِ فِي قَفْوُهِ الأَثَرَ ... لها موضعُها ...
قد كُنْتُ كتبتُ شيئاً عَن " ذَوق الشِّعرِ " ( www.Islamtoday.net ) منطلقاً
من تأملاتِ الأستاذ محمود شاكر ، و كنتُ أرمي بِهِ أن يكونَ مَدخلاً لرحلةٍ لي
مَع أبي الطَّيِّبِ ، وهذه كتابةٌ جديدةٌ لتذوُّقٍ آخرَ منطلقاً فيه من تأملاتِ
الشيخ عبد العزيز التويجري يُضافُ إلى الأول ، و لا زالَ الشِّعْرُ بَعيدٌ
شأوُهُ في تذَوُّقاتِ مُحِبِّيْهِ ، و تأمُّلاتِ عاشِقِيْهِ ...
بقيَ سؤالٌ أنتظرُ جوابَه ، فالشيخُ ذهبَ و لا أدري أأجدُ مَن يُجيبني أم لا ،
و سأبحثُ في طيَّاتِ تراثيات الشيخ عن جوابِهِ ، و هو : لِمَ اختارَ الشيخُ
هاتين الشَّخْصيتَيْن فاقتفى أثرَهما دونَ غيرِهما ؟
رَحِم اللهُ الشيخَ ...
عبدُ اللهِ بنُ سُليمان العُتَيِّق
20/6/1428هـ
الرياض
Tamooh1426@hotmail.com
جريدة الرياض
http://www.alriyadh.com/2007/07/16/article265360.html