|
حدَّثنا أبو الطَّيِّبِ الوائليُّ ، قال : ركبتُ راحلتي مع الصباح ، مُستفتحاً
أبوابَ الفلاح ، متوجِّهاً نحوَ بَغداد ، أرض الجمهرةِ الأسياد ، فانتهى بي
المسيرُ ، إلى حائطٍ صغيرٍ ، له ظلٌّ لا يُظِل ، و قاصِدُه يَضِلُّ ، فأنختُ
ناقتي ، و توسدْتُ عمامتي ، فزارني نومٌ خفيف ، ذو شأنٍ ظريف ، فنعمتُ به بعد
التعبِ ، و أنستُ دُبُرَ العَطَبِ ، و بينا أنا بين إغفاءة و أختها ، و فتحِ
عينٍ و غمضتها ، سمعتُ من هتفَ بالسلام ، فشردَ عني لذيذُ المنام ، قائلاً :
السلام عليك أيها الغريب ، سلامُ محبٍّ لحبيب ، فرددتُ السلام بأكملَ من سلامه
، و بكلام أطيب من كلامه ، فقال : أراك لا دار و لا أهل ، و إنك لمن أهل الفضل
، فمن أنتَ ؟ ، و من أين أقبلتَ ؟ ، فقلتُ : رحالةٌ بين الديار ، فلا يقرُّ لي
قرار ، أنالُ مِن الناسِ حُبَّاً و بُغْضاً ، فلا غيرَ الشمسِ أرْضاً أرضى (1).
فقال : ثِبْ واثباً ، لتغدوَ طالباً ، حيثُ تُطرحُ العلوم ، و تتلاقح الفُهوم ،
فسرتُ معه على تخَوُّفٍ ، و نفسي لما يذكرَ في تشَوُّفٍ ، فإذا بِهُ مُقْبِلٌ
على دارِ الخلافةِ ، و منزلِ الأنافة ، فرابني الرُّعبُ ، و عظُمَ عليَّ
الخَطْبُ ، فدخلَ دخولَ الأكابر ، و جلسَ جِلْسَةَ أهل المفاخر ، و كنتُ في
كلِّ الحالِ بِهِ لصيقاً ، نائلاً بصحبته مقاماً عريقاً ، فإذا في المجلسِ
أديبٌ كبير ، يُقرِّرُ المعارِفَ أجلَّ تقرير ، فما أخطأت الناسُ قَصْدَه ، و
لا حُرِموا ما عِنده ، إذ كان ينسابُ منه العلمُ انيساباً ، فيُسيْلُ من
العاشقِ لُعاباً ، و كنتُ في حسنِ الحظِّ ، عندَ بَدئِهِ بأولِ اللفظِ ، فلم
تُغادرني منه فائدة ، و لم تنفكَّ عني شاردة .
فبدأ المجلسَ بالحمدلةِ ، و الصلاةِ و الحَسْبَلَةِ ، ثُمَّ أتبَعَ كلامَه ، و
حرَّرَ نِظامه ، بجملٍ غرائبَ ، و كَلِمٍ كالترائبِ ، على ما أُنشدَ من القريضِ
المأثورِ ، و الشعرِ الرفيع المشهورِ ، لأبي الطيِّب المتنبي ، ذي النسبِ
المُنْبِي :
و لَمْ أرَ في عُيوبِ الناسِ عَيْباً *** كنقْصِ
القادرين على التمامِ
فأوضَحَ ما فيه من الوجوهِ ، و نفى عنه المعنى
المشبوه ، فقال في ضمن قيلِهِ ، لا ذاقَ خليلٌ فَقْدَ خليلِه :
أيها الذين قد حضروا ، و مجلسَنا قد نوَّروا ، قد خاضَ الناسُ في معنى هذا
القصيد ، و جنحوا عن مواردِ التسديد ، فراموا بُعْداً و إقصاءَ ، و حُرموا
مدحاً و ثناءَ ، فما كانَ لأبي الطيبِ أن يرومَ القدحَ ، و لا أن يحجبَ المدحَ
، و إنما كلامُه حمَّالُ أوجهٍ و معاني ، و إن التقت بالحَذْو المباني ،
فالمعنى في بطن الشاعرِ مدفونٌ ، و محرومهُ مغبونٌ ، فإذا درَيْتم ذلك ، و
علمتم ما هنالك ، فإنَّ لهذا البيتِ مراداً نفيساً ، و قصداً أنيساً .
فأُسُّ المعاني ، المُستقاةُ من رصفِ المباني ، ما أفصح عنه البَرْقُوْقِي ، في
شرْحِهِ المَرْموقِ، أنَّه ذمٌّ لكثرةٍ قبيحة ، ذات عارٍ و فضيحة ، لمْ تَرُمِ
التمامَ و قد بان ، و من السهولة عندهم بمكانٍ ، فلم يَقُمْ بِهمْ عزمُ
الأكابرِ ، و اعترتهم الأمورُ الصغائر ، فرَضوا بالحضيض ، و أقاموا للشيطانِ
حجة التحريض ، و كان الأقومُ بهم حالاً ، و الأصدق فيهم مقالا ، أن يُهْرعوا
للسباقِ ، و يُعجِّلوا بالصَّداق ، فالتمامُ مناخُ الرجال ، و مرتعُ الأبطال ،
و من لم يَرُمْه صادقاً ، و في مشيه واثقاً ، فهو المذمومُ في المجالس ،
المحرومُ من النفائسِ :
وَ مَنْ يَجِد الطَّرِيْقَ إلى المعالي *** فلا
يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنامِ
و لا أقبَح في الخِصال ، و لا أذَمَّ في الخِلالِ
، من ذاتٍ سَنِيَّةٍ ، ذاتِ (2) صفاتٍ عَلِيَّةٍ ، اعتراها العجزُ عن الوصولِ ،
حيث المأمولُ ، و لقد أنشدَ كعبُ بن زُهَير ، في " بُرْدَةِ " الخيرِ (3) :
و مِن العجائبِ و العجائبُ جمةٌ *** قُرْبُ
المُحِبِّ و ما إليه وصولُ
ألا تباً لذي قُدرةٍ لم تنهضْ بِهِ همته ، و
كُرْها لهمَّامٍ خَارَتْ عزيمته ، ينامُ مِلْءَ الجفنِ عن شرفه ، و يرضى
بالحقيرِ من تَرَفِه .
و لأبي الطيِّبِ تفرُّسٌ ، و في أحول الناسِ تمرُّسٌ ، فهو الخابرُ حالَهم ، و
العارفُ فَعالَهم ، فكأنَّه أضمَرَ في بطن المبنى ، ما إياهُ الكبيرُ يُعنى ،
فوصفَ حال الكُمَّلِ السُّعاةِ ، و النُّخْبَةِ البُناة ، الطامحين نحو المعالي
، و القاطنين ذُرى العوالي ، فإن صاحبَ التشمير في السعاية ، يُلاحظُ النقْصَ
في حُسْنِ الرعاية ، فَتدفعه الهِممُ العالية ، نحو المقامات السامية ، فيسعى
إليها جاهداً ، و على قدرِ مسيره يزدادُ بذلُه ، و بقدرِ عزمه يكون نَقْلُه ،
فهذا الهمامُ الشريف ، و الطموح المنيف ، يُدركُ أن التمامَ ليس له حدُّ ،
فتهفو إليه نفسُه و عزمهُ الجِدُّ ، و لن يَقِفَ إلا على عتبةِ الآخرة ، و
المفاخرُ لديه وافرة ، فليس للكمالِ في عينه نهاية يقف عندها ، و ليس للتمامِ
غايةٌ يَجدها ، فلا يزال في تطلابِه و بحثه ، يئِنُّ بآهاتِه و بَثِّه :
فَعَلِمْنا أن ليسَ إلا بِشِقِّ النَّفْـ *** ـسِ
صار الكريمُ يُدعى كريماً
طلبُ المجدِ يُورِثُ النَّفْسَ خَبْلا *** و هموماً تُقَضْقِضُ الحَيْزوما (4)
و مما أبطنَه الكِنديُّ في بَيْتِهِ ، و أبانَ
بِوسمِهِ و نَعْتِهِ ، أنَّ ذاك التمامَ المقصود ، و العيبَ المورود ، بِحَسْبِ
أحوالِ الناس ، و اختلافهم في إتلافِ الأنفاس ، و تنوُّعِ المقاصِد ، و تبايُنِ
المواردِ ، فليسَ كلاً موفقاً لكلٍّ ، و ما أحدٌّ للجميعِ بأهْلٍ ، فللمرءِ
طاقةٌ معلومة ، محالُّها لديه مرسومة ، فالمذموم مَن قَدِرَ فأحجمَ ، و قويَ
فلمْ يُقْدِم ، حجَبَهُ فَرَقُ الطريق ، و فُقدانُ السعةِ و نيلُ الضيق ، و ما
الأمجادُ إلا بِعاد ، و ما المعالي إلا بإجهاد :
ذَرِيْني أَنَلْ ما لا يُنالُ مِن العُلى
فَصَعْبُ العُلى في الصَّعْبِ و السَّهْلُ في السَّهْلِ
تُرِيْدِيْنَ لُقْيان المعالي رَخِيْصَةً
و لا بُدَّ دوْنَ الشَّهْدِ مِن إبَرِ النَّحْلِ
فهذا ما فاهَ به أهل الشَّرْحِ ، و أبانوه بغايةِ
النُّصْحِ ، فبيتُ أبي الطيب أنْزَه ، و هو حمَّالُ معانٍ و أوْجُهْ ، و بذا
تمَّ المقام ، و استحلى لنا المُقام ، و الموعدُ اللاحقُ جامعٌ ، و المَوْرِدُ
الآتي نافعٌ ، دامَ الكلُّ بالرعاية ، و بقيَ الجميعُ بالعناية .
فألقى السلام علينا مُعادا ، و قفَلَ ذاهباً متبوعاً جموعاً و آحادا ، فأقبلتُ
عليه كما الناسُ ، و تعطرَتْ به مني الأنفاسُ ، و أبديتُ التحيَّةَ المُعظَّمة
، و المصافحةَ المُفَخَّمة ، و أثنيتُ على ما جادتْ به قريحته ، و ما أبانت عنه
فصاحته ، فشكرَ و ابتسم ، و الجلالَ التَزَمْ .
فقلتُ لصاحبي : سرَّ الله يومَك ، و رئستَ أهلك و قومَك ، لَقْد كان الأديبُ
زهرةً فوَّاحة ، و لأهلِ بغداد مَفْخرَةً صدَّاحة ، جلَّى عن القلبِ الدرر ، و
أبرزَ الأسرارَ الغُرَر ، فجزاكَ عني اللهُ كلَّ نائلة ، و أسبلَ عليك السحابَ
وابلة ، و هل لي بمثلِكَ أيها الأجلُّ ، و الخليلُ الأظَلُّ ، جمعَ الله أيامنا
سواء ، و أبقانا في هناء ، فقبلتُ على رأسه و يَدِه ، لشرفِهِ و كريم
مَحْتَدِهِ .
فانقفلتُ راجعاً نحوَ بَيْتي ، عَريني مُقَيِّظٌ مُشَتِّي (5) ، متلذذاً
باللفظِ البليغ ، متذوقاً المعنى النبيغ ، فغفوتُ إغفاءةَ الطَرِبِ ، و نمتُ
نومةَ الذَّئِب ، و أستودع الله أيامكم ، و أستغفره آثامكم ، و مُنِحْتُمُ
المسرةَ دِيْمة ، و غدوتم بِلا قِيْمة (6).
حبرها
عبدُ اللهِ بنُ سليمان العُتَيِّق
21/7/1428هـ
-----------------------------------------
الهوامش :
(1) مُقْتَبَسٌ من بيتٍ .
(2) الذاتُ الأولى بمعنى النفس ، و الثانية بمعنى الصاحبة .
(3) هي قصيدته المشهورة بـ : " بانت سعاد " ، و وُسِمت بـ " البردة " لأنَّ
النبيَّ صلى الله عليه و سلم أهداه بُرْدَتَه لما أنشده إياها .
(4) الخَبلُ : الفساد ، و القضقضة : كسر العظام ، و الحيزوم : الصَّدْرُ .
(5) مُقْتَبَسٌ مِن قول الشاعرِ :
مَنْ يَكُ ذا بَتٍّ فهذا بَتِّيْ *** مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّيْ
(6) يُرادُ بذلك أنَّ المقصودَ لا يُقَدَّرُ بقيمة ، لغلائه في النفوس ، و ليسَ
أنه لا يُساوي قيمةً .