في لحظةٍ يَرتفعُ فيها الإعلامُ الرباني مُعلناً للنفوسِ المؤمنةِ أن تُطلِقَ
لنفسها العنانَ بَعد أن قامتْ بالإمساكِ نهارَ ذاك اليوم _ و كُلِّ يوم _
فتلتقمُ رُطَبَاً طيبةً ، و تطرُقُ بابَ ربٍّ رحيمٍ ، فرحها بإدراك تلك الساعة
لا يقلُّ شأناً عن فرحها ببلوغِ الشهرِ .
تَرتَشِفُ بِشفاهٍ طيبةٍ طاهرةٍ آنيةً صغيرةً جميلةً ، ذاتَ أشكالٍ لطيفةًٍ ،
تحتوي قهوةً عربيةً ، أصيلةَ العِشْرَةِ بالعربيِ ، تلك القهوة التي أخذتْ من
الأباءِ و الأجدادِ قلوبَهم فصيَّرُوها ضراتٍ غيرَ ضارَّاتٍ لآزواجهم ، و
جعلوها عشيقةً يتقصَّدونها بأشعارِهم ، و يتنافسون في تجويدِها .
راقَتْ لي يوماً و أنا أرتشفُ منها رشفةً تشنَّفت الأُذنُ بصوتِ معناها ،
موحيةً إليَّ خطاباً حُلواً جميلاً ، أدرَكْتُ المعنى المرسول ، و فَقَهْتُ
المنقول ، فكانَ أن كتبتُ ، و قيدتُ ، فنظرتَ ، فقرأتَ .
النَّبْتَةُ : القهوةُ نباتٌ ، يُدفَنُ ، فيُسْقى بَذْرُه ، فينمو ، بعد زمنٍ
مُقدَّرٍ لَه ، و في زمنٍ مُعَيَّنٍ ، و ليست كلمحِ البصرِ بَرَزَتْ ، كما أنها
لن تنبُتَ بجودةٍ ما لم تَذُقْ طعمَ الدَّفْنِ .
فَدَفْنُ الشئِ و إخمالُه ليكون ظهوره بجودةٍ و قوةٍ كمالٌ ، إذِ الدَّفنُ
حُسْنٌ في التربية ، و كمالٌ في الإنباتِ ، و الزَّرْعُ دونَ دفنٍ هلَكة .
فليَكُن مِنَّا دَفْنُ أمورنا ، و كتمانُ أسرارنا ، فإذا حانَ زمنُ الحصادِ كان
النتاجُ طيباً ، و الثمر مأكولاً ، و بالضِّدِ ضِدٌّ .
و ما كلُّ ما دُفِنَ مُمْتَهَنٌ ، فالدرُّ في الصَّدَفِ ، و الصَّدَفُ في قاع
البحرِ ، و لا يَصِلُ عُمْقَ البحر إلا ماهرُ غَوصٍ ، فالكريمُ يُخفَى كي لا
يُمتَهَن .
التحميس : تُقتَطَفُ القهوةُ ذات لونٍ نباتي ، فتُوْضَع على نارٍ لِتُحَمَّسَ ،
و نادراً ما تُرتَشف دون تحميسها ، فكمالُ لذتِها في إحراقِها .
البقاءُ على أصلِ شئٍ دونَ تغييرٍ له ليس محموداً في كلِّ الأحوالِ ، و دوامُ
الحالِ قد يكون ذماً ، و لا يظهرُ كمالُ الشئِ إلا بعد أن يُمتَحَنَ ،
فيُنتَفَعُ بِهِ ، فالإحراقُ إشراقٌ ، و كَيُ الذاتِ طَيُّ الهِنَاتِ ، و
كلَّما زِيْدَ في الكَيِّ بان الذهبُ ، و تميَّزَ الكبريتُ ، و الزيفُ طيفٌ .
لم يُقَصَد شئٌ من أشباهِ القهوةِ بالإحراقِ و التحميسِ ، لأنَّه ليسَ مرْغوباً
في كمالِه ، و لا مطلوباً ليُنتَفَعَ بِهِ ، فليسَ كلَّ محروقٍ ممحوق ، و ليسَ
كلَّ حَبِّ يُحَب .
اللون : أصلُها خضراء ، و عند التَّحميسِ لها على النارِ يبدو التذوُّقُ في
التفنُّنِ في تحميسها ، فإما أن تكونَ مائلةً إلى اللونِ البُنِّي ، و إما أن
تكونَ مائلةً إلى السواد _ على اختلافِ تدرُّجاتِهما _ ، و لا تُرْغَب في لونها
الأصلي _ إلا نادراً _ ، و لا تُستَطْعَم إلا بسوادها .
لكلِّ لونٍ أثَرٌ و فائدة ، ففي سوادِ الليلِ أُنْسُ المحبِّ ، و هدأةُ البالِ
، و سكينةُ القلبِ ، و في بياضِ النهارِ وُضوحُ الرؤيةِ ، و إبصارُ الدربِ ،
يُسْرُ العمل .
هكذا الحريقُ يُحدثُ لونَاً ، و لونُ المعنى أشدُّ من لونِ المبنى ، حُسْناً و
سوءاً ، جمالاً و قُبحاً ، فما كلُّ حمراءَ لحمة ، و ما كلُّ بيضاءَ شَحمة ،
فاللونُ غرارٌ خدَّاعٌ ، فالميزانُ ما خلْفَ اللونِ لا اللون .
المرارةُ : القهوةُ العربيةُ تميَّزَتْ بمرارتها ، و تميُّزها بها من أجملِ
صفاتها ، و أكملِ سِماتها ، فعلى كونها مُرَّةً إلا أن اللذَّةَ تأخذُ المرتَشف
بنشوةٍ لا يكادُ يُخفي معالمَها من على وَجهه . عَجباً لُمُرَّةٍ تُورِثُ لذةً
!
و لا يقفُ عندَ ارتشافها مرةً واحدةً بل يأخُذُه التَّكرارُ لذلك ، فيزداد
تلذُّذُهُ بمرارتها ، حتى لربما أتى على كمٍّ كبيرٍ من شُربِ آنيةٍ منها .
فليسَ كُلّ مُرٍّ سيئاً ، و ليسَ كل حلوٍ حَسناً ، فكانَ ما نُريدُه حلواً فهو
كذلك و لو كانَ علقماً ، و ما أردناهُ مُرَّاً فهو كذلك و لو كان عسلاً صافياً
.
حينَ نُصاب بالأمورِ المُرَّة ، و الأحوالِ العلْقَمية ، إما أن ندعها تسري
علينا كما هيَ ، فنكون في نظرتنا متأثرينَ ، مغلوبينَ ، في دَوْرِ الضحية .
و إمَّا أن نقفَ و نقلبَ المعيارَ و نتلذَّذَ بتذوُّقِنا للجانبِ الآخر ،
فنُصبحَ في دَورِ المُؤَثِّرِ الغالبِ المُنتصِرِ .
كم هي تلك الأحداث التي مرَّتْ بنا ، فأخذنا جانبَ الشؤْمِ ، و تركنا كثيراً من
الجوانبِ الحَسَنَةِ ، فقلْبُ المُرِّ إلى حُلْوٍ مُمكنٌ ، كما هو في القهوةِ .
الهالُ ( الهَيْلُ ) : يُوضَعُ معها ، بعد تمامِ غليانها ، و تجهيزها للتقديم ،
يُعطيها نَكْهةً كمالية ، تَدْعَمُ نكهتها الأصلية ، و البعضُ يَعُ القُرنفل أو
الزعفران ، قَد لا تُقَدم و لا تُشْرَب بدون شئٍ من ذلك ، إلا عند الضرورة ، و
الضرورةُ لا مُعَوَّلَ عليها .
الإطراءُ الحسَنُ يُعطينا شيئاً من الإقدامِ على الثقةِ بما نسعى إليه ،
فليكُنْ ترويجنا بتحسينٍ و تكميلٍ ، و إلا فلنْ يُقبَلَ شئٌ دونَ تبيينٍ
لميزاتِه و صفاته ، فالذواتُ تتشابَه ، و تتمايزُ بالصفاتِ ، فمن أظهرَ قدرَهُ
قُدِّرَ .
قهوةُ الإفطار : في ذاك الوقت ، و بعد ساعاتٍ من الانتظارِ ، تتمتَّعُ بقهوتك ،
لِتنطلِقَ في :
الارتشاف : هنا مَشْهدٌ جميل ، حينَ تَرتشِفَ القهوةَ من إنائها الخاصِّ بِها ،
تعتريكَ النشوةُ ، و تأخُذك اللذةُ ، متمتِّعاً بِـ : مرارتها ، و لونها ، و
حرارتها ، و إنائها ، فلم يمنعك سوادها عن التلذُّذِ بِها ، و لا حرارتها ، و
لا مرارتها ، حيثُ كانتْ رَغْبَتُكَ هي الباعثَةُ ، و همتُك هي الدافعة ، و
إصرارُكَ هو المعينُ .
فلْتَكُنْ في مسيرتِك لهدفك و غايتك كمسيرة القهوة عند الإفطار إليك ، و بعد
الارتشاف يكون انطلاقُكَ ، فلا ترْجِع إلا لغايةٍ ثانية ، و هدفٍ آخر ، و هكذا
في سلسلةٍ من مراحلِ بروزِ : قهوة الانتظار .
آهٍ ، كم هي المعاني في تلك القهوة ، أزدادُ يقينا بأنَّ كلَّ شئٍ فيهِ درْسٌ ،
فلنقتَبِس ، تحيتي لكَِ .