ليس عيبا أن نذهب إلى الماضي لنستنير بتجاربه في مستقبلنا ، و العيب أن نذهب
إليه لنغرق فيه و نعتبره بر أمان لنا ، أو نعتبره سلاحا نبرر به سوءاً وقعنا
فيه في حاضرنا .
يتحجج الكثيرون بأن الماضي مليءٌ بالسلبيات ، و التفكير فيه بحد ذاته عيبٌ نفسي
و خللٌ ذاتي ، لما نطمح بفكرنا نحو ما يرشدنا إليه نظرنا نحو التنوير للمستقبل
زمناً و ناساً نكون مغادرين للماضي بكل أحواله ، لأن الماضي في فناء و غياب ،
فإذا غاب عنا واقعا فلنغيِّبه عنا فكراً ..
بعض الشخصيات تُعيِّشنا في الماضي و تبدأ في مناقشته الحدثِ و النتيجة ، و
ليتنا نناقش السبب و العلة التي بها كان ذلك الشيء المعتبر خللاً ، و هنا يتفرق
البعض عن البعض في فهم الماضي و العيش فيه .
التفكيرُ في الماضي له مدرستان :
الأولى :
التَّنَفُّسِيَّة ، و هي التي تعيشه لأنه بر الأمان لها ، فتهرب إليه لتتعلَّلَ
بالعيش فيه ، و هي تلك الشخصيات التي غابت عنها أهدافها ، و قتلها اليأس و
الأسى ، و غرقت في بحار الحزن ، فترى أن فيه متنفَّساً لها ، و لكنها لم تكن
مصيبةً في تلك النظرة ، لأنها ستزداد ضياعاً و تِيْهاً ، لأن الماضي لم يَعُد
موجوداً فهو عدمٌ ، و العدمُ ليس شيئاً إلا عند غير العقلاء ، فإذا هربَ إليه
الشخص يكون هارباً إلى فراغٍ فيزداد ضياعه .
الثانية :
التَّفكُّرية ، و هي التي تعيشه لكونه محلاً للتفكُّرِ و أخذِ التجارب ، فتقتبس
من نورِهِ ما تُضيءُ به الحاضر و المستقبل ، و لا تُغفل استخدام تقنية الحاضر
في تطوير تلك الفكرة و التجربة ، و هؤلاء هم الذين أبدعوا في الدنيا ، و مضوا و
قد أبقوا لهم ماضياً للمُستقبليين ، فكان حديثَ حُسنٍ و منفعة لمن أتى .
هاتان المدرستان موجودتان ، و نعيش مناهجها كلَّ لحظة ، و طلابهما بالكثرة التي
يصعُبُ حصرهم ، فِطنةُ اللبيب العاقل أن يغتنم الكلَّ في خدمته لتحقيق ما يريد
، فلا استزهاداً لماضٍ ، و لا إغراقاً فيه ، و لكن بالقدر المعتدل في العيش فيه
.