تَهْوى النفسُ مَن يقومُ بتمجيد فَعالها ، و تهوى التميُّزَ بألفاظِ الغيرِ و
نظرتهم ، فتستشرِفُ المدحَ و الثناءَ من الآخرين ، كما أنها تُظهِرُ ذاتَها
بافتخارها بنفسها أو بتنقيصِ غيرِها ، فغايتها بُدوُّها في سُموٍّ مهما كان
السبيلُ .
المدحُ مِن الأشياء التي تهوى النفسُ سماعها ، و الوقوفَ عليها ، و هو مِن
أخلاقِ أهل الكمالِ يبذلونها لِمن يَسْتحقُّها بِحقِّها ، و لمِن يستحقُّها
بأملِ تحقيقها ، و يستنكفُوْنَ عنه لأنَّ التطلُّعَ إليهِ لا يتوافَقُ و
مقاصِدهم و غاياتهم ، و لا يسعى إلى نيلِ المدحِ ذو كمالٍ ، إذْ أنَّ الكُمَّلَ
يستجلبون المدحَ بصادرِ من الأفعالِ لا بالواردِ من الأقوالِ .
المدحُ قد يكون مِنْحَةً حِيْنَ يَكون الصِدْقُ سِمةً في المادحِ مَنْحاً و في
الممدوحِ أهليةً ، فصِدقُ المادحِ لا يكون إلا بِصدْقٍ في الممدوحِ ، و المدحُ
لا يكون منْحةً إلا إذا كان بلفظٍ معتدلٍ لا غُلُوَّ فيهِ و لا مجازفةً ، و
الأقوالُ نواطق بما في القلوب ، و عَدْلُ القولِ في تناغُمِ الظاهرِ مع الباطن
.
المدحُ مِنْحةً ما يكون مصروفاً نَحْو أفعالِ الممدوحِ ، و مقصوداً بِهِ صفاتُه
، و أما المدحُ للذواتِ و الأقوالِ فإنه ليسَ شيئاً محموداً عند أربابِ العقلِ
، لأنَّ المدحَ إبقاءٌ للممدوحِ لما امتازَ به من وَصْفِ الكمالِ و الأثَرِ ، و
لا يكاد ذلك كائناً إلا في الأفعالِ و الصفاتِ لكونها معانيَ أو قوالبُ معانٍ ،
و الأقوالُ و الذواتُ مما يذهبُ أدراج الرياح ، و لا يخلدُ شيءٍ إلا بصفةٍ
مُخلِّدة ، فالصفاتُ مُخلِّداتُ الذوات ، و الأفعالُ براهينُ الأقوال .
يكون المدحُ ذبْحاً ، حين لا يكون باذلُه صادقَ البذلِ فيه ، بأنْ يكون بقصدِ
الإرضاءِ أو التقرُّبِ ، تتجلَّى عليه علاماتُه و قَد يُدرِكُ الممدوحُ ذلك إلا
إن غلبَ عليهِ بريقُ اللفظِ فهامَتْ النفسُ في صحراءِ الزَّيْف ، و يتجلَّى ذلك
بمزيدٍ حينَ يكون الممدوحُ ليس أهلاً لذيَّاك المدح ، و الكريمُ يُمَرِّرُ ذلك
جبراً لخاطرِ المادحِ المتقرِّبِ ، و لا يعتريه من وهَنِ المدحِ ما يجعله في
هوان الذبْح .
و لا يطرُقُ مسالكَ المدحِ الذابِحِ إلا مَن تعلَّقَتْ نفسُه بمظاهرِ الظواهرِ
، و أغفلَ حقائقها و دقائقِ المخابرِ ، فيمدحُ لينالَ مظهراً بظهرٍ متين ، و
يبرُزَ برمزٍ معروفٍ ، وما يكاد يبرُقُ وميضُ سناه حتى يَخْفِتَ في أفولٍ فلا
تُجلِّيْهِ عن كسوفِهِ مُجلِّيَّة ، بِعكسِ الرائمِ مدحاً مَنحاً لاستحقاقٍ فهو
باقٍ ببقيةٍ من مقاصِدِ الممدوحات ، و هو بذلك مادحٌ نفسَه برؤيته خوافيَ
المعاني المُرْتَقَى إليها ، و ' المرءُ معَ مَن أحبَّ ' لكمالٍ و جمالٍ ، و ما
شأنُ المحبوبِ الممدوح إلا مُنيلاً المُحِبَّ المادحَ أثراً و تأثيراً .