|
حدثنا أبو الطيب الوائليُّ قال :
جمعتني صروف الدهر السائرة ، و أحوال الزمان الظاهرة ، في بعض أراضي العرب ، و
دورِ أهل الأدب ، بجمهرة من نُخبِ الكرام ، و جَمعةٍ من عِلْية المقام ،
نُبدِّلُ حديثاً بحديث ، و نسري في شرفٍ أثيث ، حتى جنحنا نَحْو المفخرة ،
بالأنساب المُشتهِرة ، و قلبُ كُلٍّ في صفاءٍ ، و خاطرُه في نقاءٍ ، و أبدى
كُلُّ عِزَّ أصلِه ، و سوَّدَ (1) شأن أهلِه ، و انتهت مسيرة النوْبةِ إليْ ،
شرْط ألا ألوي اللفظَ لَيْ ، و أسلُك جادة الإيجاز ، و أطرُقَ سابلة الانحياز .
فقبلتُ الشرْط المُبْرم ، و لَزمتُ القرارَ المُحْكَم ، و لجأت بضعفٍ إلى قوي ،
و انتخيتُ بذاكرةٍ طواها الزمان طَيْ ، فعوَّدَتني النُّكوبَ ، عند ادلِهَّامِّ
الخُطوب ، فاعتليتُ مِنبر الخطابة ، مُرتجلاً حديثاً دون كتابة ، حامداً مولاي
على إعطائه و منعه ، مُستعظماً آثار صُنعه ، فقلتُ : وائل شعار الفؤاد ، و
دِثارُ أهل الواد ، سادَ رجالها الرُّجولة ، و قِيْدتْ بهم الركائبُ دُوْلة ،
شيَّد ذكرهم نبيُّ الهدى ، فأقصاهم عن مهيَعِ الردى ، و قطع بنُصرتهم (2) ، و
حكم بدولتهم ، فخاسِرٌ مَن رامَ دَحْرَهم ، و داحرٌ مَن نَحا خُسْرَهم ، و
صيَّرَهم أرفعَ بيوتا ، وساواهم بآلِه رِزقاً و قُوتا (3) ، فكسيرُهم مجبورٌ ،
وطرِيْدُهم إيواؤُه مشهور ، فلا يُبصرُ العِوَزُ إليهم طريقاً ، و لا العالةَ
لهم صديقاً (4) ، و لواؤُها مَعْقِدُ النُّصْرَة ، و رايتُها مَهْوَى ذوي
النُّضْرَة (5) ، و في ذِيقارَ بهم انتصافهم مِن الأعاجم ، بأوليةِ المكارِم
(6) ، مِن ، فمالُهم لاستمالةِ الأرواح للكمالات ، و الدُّنيا لارتقاءِ
الرَّفِيْعات ، فما لَها لقلوبهم ولوجاً ، و ألزموا الردى عنهم خروجاً ، و هم
القاصدوهُ بالإقبالِ بالاتصال ، و المستنجدوه مِن مَغِبَّةِ الانفصال ، حيثُ
فاه أكابرُهم ، بالغادي من مفاخرِهم ، " بيننا و بينكَ هذا الحيُّ مِن مُضَر "
، مانعونا بقطعِ طريقِ مسيرِ ذي السَّفَر ، و إنَّا من ربيعة العرَب (7) ، أهل
الكمالِ و الأدب .
شرُفَ انتسابُها لعدنان ، و انتماؤها لنزار عظيم الشان ، فهيَ في أصلِ العَرَبِ
و مَحْتَدِه ، و أفخَرِ النَّسْلِ و أَمْجَدِهِ ، جَمُلَتْ أخلاقُهم حُسْناً ،
و كَمُلَتْ محاسنهم ضِمناً ، أجملُ الناسِ وجهاً و شَكلاً ، و أفضلهم نَبتاً و
أصلاً ، لا واجداً لهم شبيهاً ، و أضحى أمثلهم وجيها ، منشورُ مناقبهم معروفة ،
و بالكمائل أرومتهم موصوفة .
فحازوا قصبَ سبْقِ الكرامة ، و أنيلوا مفخرة الإمامة ، فغدتْ بين الناس شامخة ،
و مفخرتهم في التاريخ راسخة ، فَهُم المجبولون على أخلاقِ الكمال ، و المصبوغون
بنعوت الجمال ، الباذلين المعروفَ بِلا حَدٍّ ، و المعطين المال بِلا عَدٍّ ،
الشجاعةُ تاجُ مجالسهم ، و العُلا عِشْقُ هواجسهم ، الشعرُ قريضُ الروح ، و
النثرُ لفظٌ نصوح ، و المروءةُ حليفَ ذواتهم ، و الشهامةُ مَنيفَ صِفاتهم ،
راموا في الكمال مقاصداً حِسانا ، ففعالهم لأقوالهم برهانا ، أصيلة المحتِد ،
رفيعة المشهد ، ولودٌ مِعطاءة بِسَعةٍ ، باذلةً مُهجاً بِمَنَعة ، فهنيئاً لها
شرف الأقدمية ، و لفروعها سُؤددُ الأكملية ، فَهُمُ المُجْمِلون في المنحِ ، و
المُجمِّلُونَ في الصَّفْحِ ، و لمحبٍّ إلحاق الفضيلة ، و كارهٍ قطع الوسيلة ،
فما أنا إلا بما جاء منقولاً ، محرَّرَاً مقبولاً ، بما لعتبان بن وصيلة ، من
مفخرةٍ سليلة :
فوارسنا مَن يَلْقَهم يَلْقَ حتفَهُ *** و مَن
يَنْجُ منهم يَنجُ وَ هو سليبُ
و إنك ألا ترْضَ بكرَ بن وائل *** يكن لك يومٌ في العراقِ عصيبُ
منحوا الشريف مدحاً صريحاً ، و الوضيعَ ذماً
قبيحاً ، أنزلوا المرءَ حَقيقَ منزلِه ، و سقَوْه عذبَ منهله ، فليس للظلم إلى
عِلْيَتِهم طريقاً ، و أضحى الكلُّ بين الورى صِدِّيْقا ، فكانوا في محلَّةِ
القبولِ ، و مقامِ المثول ، في محافلِ الفخرِ العالية ، و مجالسِ الشرفِ
السامية ، فحضورهم زينٌ ، و غيابُهم شَيْن ، فطأطأت لها الأصاغرُ نواصيها ، و
دانت لهم الأرض بنواحيها ، بلا استعلاءٍ انتخوه ، و لا كِبْرٍ نَحَوْه ،
لِخَيْرٍ نائلوه ، و شرَفٍ بالِغوه .
و هاكَ يا سامعَاً حرْفِي ، و دوْنَك يا واعياً وصفي ، ما كان لوائلٍ من عظيم
المفخرة ، و الشمائلِ المُشتهِرة ، من تقاليدَ منقولة ، و عاداتٍ مَرسولة ، حمى
الشرع حوزتها ، و صان بيضتها ، فللأضيافِ حقُّ قائم ، و واجبٌ دائم ، قِراهُ
ثلاثةٌ معروفة ، فأنفُسُهم بإكرامه موصوفة ، و تَمامُ الحالِ الظاهرة ، سَوْقُ
الملحة الفاخرة ، فأكرِم بضيفٍ هو مُضَيِّفُوه ، و قادمٍ هُمْ مُقْرُوْه ، و
للجارِ شأنٌ لا يُدْرَك ، و جِوارٌ لا يُهْتَك ، جرى به عليهم جاري الديانة ، و
واجبُ الرعاية و الصيانة ، و الإخاءُ مضبوطةٌ أواصِرُ إبقائه ، بأصلِ حُرمتهِ و
وفائه ، فللهِ دَرُّ مَن هو لهمْ خَوِيَّاً ، و ارتقى بهم مقاماً سَنِيَّاً ، و
الداخلُ على الوائلي محفوظٌ ، و جانِبُه بالحِمى مَلْحوظ ، و اللائذُ بالوجهِ
مُصانٌ ، فيُعصَمُ جانبُ المُهان ، و صَونُ حرمة الدارِ من موروثِ النجابة ، و
محمودِ المأخوذِ بالإصابة ، و لأسيرِ الحربِ مَنَعَةٌ راسخة ، و ذَودٌ رؤوسه
شامخة ، ناقضها مُعَابٌ بعارٍ لا يَزول ، و مذمومٌ بما لا يَؤُوْل ، و طلبُ
الوِصايةِ على أرومةٍ متينة ، و في عُنُقِ المُوْصَى مُقَيَّدَةً رهينة ، و
حليفُهم منهم و بِهم ، فعلَيْهِ ما عليهم و لَهُ ما لَهم ، تَلْزمُ بذَبْحِ
الشاةِ عهداً عَقْداً ، و يَلْحَقُ القومَ هَداً و رَدَّاً وَ وَفْداً ، فَذِهْ
شمائلُ كمالٍ مرْقومة ، و فضائلُ جمالٍ مرْسُومة ، لاذَتْ نفسي بِحُبِّ أهلٍ ،
و ذاعتْ لهم مناقبُ فَضْلٍ .
و أنشدنا الحادي ، و شدا الشادي ، لأبي الجُويرية العَنَزَي ، مُفْتخِراً
بانتسابه السَّنِي :
متى تُغْلِقُ الأبوابَ دوني يَكْفِني *** نَِدى
العَنَزِيِّينَ الطّوالِ الشقاشِقِ
هم مِنْ نِزارٍ حينَ يُنْسَبُ أصْلُهم *** مكانَ النواصِي من وُجوهِ
السَّوابِقِ
على المُوْسِرِيْنَ حَقُّ مَنْ يَعْتَرِيْهمُ *** و عِندَ المُقِلِّيْنَ
اتِّساع الخلائقِ
بِهم يَجْبُرُ اللهُ الكسيرَ و يُطْلِقُ *** الأسيرَ و يُنْجي مِن عِظام
البوائقِ
و على رِسلكم لا تُعجلوا يا قوم ، فما في مدحِ
الأصلِ لوم ، ما بقيَ الثناءُ عاطراً ، و الوداد ظاهراً ، فالعربُ أصلٌ جامعٌ ،
و المروءة حِصنٌ مانعٌ ، و كلٌّ في فلَكٍ سابحٌ ، و عيبُ العيبِ واضحٌ ، و
القصدُ مدحٌ لانتماء ، لا قدحٌ بولاء ، و آصرةُ الربط قائمة ، و مودة القُربِ
سائمة ، و لم أفِ بحقِّ الأهلِ حرفاً ، و لم أجنح لمزيدٍ وصفاً ، فحسبي جُودُ
الخاطرِ المكدود ، و كِفايتي ارتشافُ غَرفة الحوض المورود ، فثنائي الكثير قليل
، و نعتي القليل أنا به نبيل ، و أَنَّى لِيْ إدراكُ كمالِ المديح ، و العاجزُ
فيه اللفظُ الفصيح ، فمعانيها لا تُحْصَى ، و مكارمُها لا تُسْتَقْصَى ، و
فرْدٌ منحازٌ في زاويةِ الحرفِ ، مُعْدَمٌ مِن آلةِ الوصف ، و عَفْوُها رجائي ،
و رِضاها نجائي ، فإليك أُمَّ القوم الكرام سلام ، و عليك تحية المقام .
و بعدُ رُميتُ ببصرٍ ذي حدٍّ ، و لفظٍ بِشَدٍّ ، إذ فاهَ قائم في المجلسِ ، و
صاح بالحرفِ المُهْمَسِ ، أيا ابن وائلٍ و ما آتَتْ ، و سليل ربيعةَ و ما آلت ،
لقد رُمتَ بلفظك مدحاً غيرَ مألوفٍ ، و نعتاً ليس بالمعروفِ ، فما لربيعة من
الشأن ما يُجْهَل حتى يُبان ، و لا من المفاخرِ ما لا يُستبان ، فأرومةُ أمها
عالية ، و جُرْثُومةُ (8) أهلها سامية ، و أخواتُها رفيعةُ القدر ، طيِّبة
الذكر ، فصان أصولهم بالبقاء ، و منحهم الهناء ، و أعلى فيهم الراية ، و
كوَّنهم في الجد غاية ، و إنَّما حدا بِكَ منزِعُ الأصلِ ، و هداكَ منبَعُ
النُّبْلِ ، فذكرتَ كريمةً بكريمِ لفظك ، و لمحتَ شريفةً بدقيقِ لَحْظِك ،
فالحمدُ للهِ موصولاً ، و الشكرُ لك مبذولاً .
فحمدتُ قولَه ، و أكبرتُ فعلَه ، و ختمتُ بالتحية ، و الصيانةِ السوية ، و
عُدْتُ الأدراجَ راجعاً ، و رجوتُ الإبهاجَ ماتعاً ، و التحيةَ لكلِّ بَنِي
العَمِّ ، مَنْ بِهم الجَمْعُ يأتَم .
------------------------------------
(1) من السيادة .
(2) إشارة لحديث " نعم الحيُّ عنزة _ أو ربيعة _ مغلوبٌ عليهم منصورون " .
(3) إشارة لحديث " اللهم اجعل رزق عنزة قوتا " و هو نفس الدعاء لآلِ بيته "
اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " .
(4) إشارة لحديثِ " اللهم اجبُرْ كسيرَهم ، و آوِ طريدَهم ، و لا تُرِني فيهم
سائلاً أو عائلاً " .
(5) إشارة لحديثِ " إنَّ العدوَّ لا يظفرُ على قومٍ لواءُهم _ أو قال : رايتهم
_ معَ رجلٍ مِن بني بكرِ بنِ وائل " .
(6) إشارة لحديث " هذا أول يوم انتصَفَ فيه العربُ من العجم و بي نُصِروا " في
معركة ذيقار .
(7) إشارة لحديثِ وَفْد عبد القيس .
(8) يؤتى بها بمعنى الأصل عند اللغويِّيْن .
Abdullah.s.a