يُعقلُ أن أحداً قام بصناعة خزفة ، أو آلة أو غيرهما ، لكن قد لا يكون
معقولاً _ أبداً _ أن أحداً قام بـ ( صناعة التأريخ ) .
إذ التأريخ ذاته هو محلُّ الأحوال ، فكيف يُعقل أن يكون مصنوعاً يصنعه من
يعيشه .
قد يجرؤ البعض فيقول : لقد كابد الكاتب أمراً فخالجه اهتزاز في الفكر فهرف
بمالا يعرف ، أو هذى بما لا درى.
و أقول : الترسل في الأمر شأن مبارَك ، إن ما أقوله ليس من بنات الفكر ، و لا
من وحي الخَلَد .
و إنما أبوح بأمر اشتهر و انتشر ، حفظ التأريخ شيئاً من ذلك فبثه المؤرخون في
أضعاف الكتب و أعطافها .
( صناعة التأريخ ) ليست تعني إيجاده و خلقه ، فهذا من شأن الرب _ تعالى _ ليس
للمرء أن يكون زاعماً لمثله ، و متى زعمه فقد ربط نفسه برباط الكفر و الردة
.
و إنما ( صناعة التأريخ ) هي صناعة أحداث تؤتي نتاجاً مباركاً في تحقيق
أهدافٍ لقوم .
بمعنى : أن يقوم أحدٌ من الناس فيجعل من نفسه موقعاً في تأريخ البشر .
و هذا تماماً ما كان من كثير من أهل الهمم ، و رواد القمم حيث سعوا إلى تحقيق
قدر من الأهداف في أزمنة التأريخ .
و الناس في ( صناعة التأريخ ) أقسام :
الأول :
من يصنع تأريخاً ينصر من خلاله دينه و مبادئه ، و هؤلاء أنواع :
1-
من تبنى ديناً سماوياً ، و هم قسمان :
1) من كان دينه حقاً و هو ( الإسلام )
2) من كان دينه باطلاً و هو ما سوى الإسلام
2-
من تبنى مذهباً منحرفاً . و هؤلاء كُثُرٌ .
3-
من تبنى فكرة من الفكر الخاطرة في نفسه .
الثاني :
من صنع تأريخاً لنفسه ، فعمرَ ذاته ، و بنى كيان نفسه .
و هؤلاء قِلَّةٌ في الزمان كله _ و الله المستعان _ .
و ( صناعة التأريخ ) ليست بالأمر الهيِّن السهل فهي تتطلَّبُ أموراً :
الأول :
تحديد التأريخ المراد صناعته .
الثاني :
الدراية بالتأريخ .
الثالث :
إعمالُ الفكر فيه من حيث : الأسباب ، النتائج ، الآليات الصناعية .
و أعني بـ ( الآليات ) أدوات ( صناعة التأريخ ) .
الرابع :
فهم و تحليل الحدث التأريخي المشابه .
الخامس :
مراعاة الأصول و القواعد التأريخية .
و الاعتبار في ذلك بـ ( مقدمة ابن خلدون ) و دراية ما تضمنته قواعده المنثورة
فيها .