كلُّ شيءٍ لَه ما يُشيرُ إليه في هذا الكون ، إنَّ ساحةَ كلِّ حضارةٍ و
ثقافةٍ تلتزمُ تلك الإشارة ، و كلُّ ما ليس له ما يُشيرُ إليه عدمٌ ساقطٌ ،
إثباتاً لوجودٍ أو عدم ، و برهاناً على صِحةٍ أو خطأ ، حِسيٌّ و معنويٌّ ،
فالحسِّيُّ تِمثالٌ ، أيًّ شيءٍ محسوسٍ ، و في المعارفِ ناقلُ المعرفة :
إنساناً أو كتاباً ، و المعنويًّ مِثال ، و هو المضروبُ عند إيضاح القواعد
، حِسِّيٌّ بالقصْدِ إليه ، و معنويٌّ بِدلالته و إشارته .
قُوةُ الإشارةِ فيما كانت المعاني فيه أقوى دلالةً ، و أبلغَ في إيصال
المُراد ، و أجدرُ بالاستقبالِ رغبةَ التوجيه ، فكانت الأمثالُ قائمة بذلك
، و ضَعفُ الإشارةِ حين يكون العكْس في : ضعفِ الدلالة ، و عدم الإيصال
للمراد ، و الاستقبالِ تَوجُّهاً ، و تلك التماثيلُ .
في الثقافاتِ الموروثةِ ، و الوارثةِ المُوَرِّثة ، ذانِك الشيئانِ ،
فتُضربُ الأمثالُ لإقامةِ صَرْحِ الفكرِ و الرأي ، توضيحاً لبُرهان ، و
صورةً لفكرةٍ ، و يُنصَبُ تمثالٌ يُرْجعُ إليه في تقريرِ الانتسابِ الثقافي
، أو تحريرِ الرأي الفِكري المقصودِ بالمثالِ ، فكانا دِعامتين للثقافة ،
فكلاهما للآخرِ سَندٌ ، و كلاهما ليس إلا صورةً لثقافةٍ و حضارةٍ .
إلا أننا نلْحظُ أنهما أصبحا غايتين يُقصدان في تقريرِ الرأي ، و مناهضةِ
الخصم ، عُزوفاً عن الغايةِ المُرادة ، و الأصلِ المتين ، فصارَ المثالُ
دليلاً و بُرهاناً ، و صارَ التمثالُ أصيلاً و قانوناً ، فكانت الثقافاتُ
تدورُ حولَ زائلٍ ، و قد كانت تدورُ حولَ أصل باقٍ .
ظاهرةٌ نراها دوماً في سِجالاتٍ ثقافيةٍ ، يَترُك الشخصُ قانون و قواعد
الثقافةِ إلى رأي فُلانٍ ، و مثالِ ذاك ، و المحاججاتُ لا تقومُ إلا على
يقينياتٍ ، و لا يقينَ في مثالٍ و تمثالٍ ، لكونهما مرتبطانِ بشيءٍ
يَخدُمانه ، و القانونُ الأصلُ مُبرْهنٌ بيقينٍ .
في بقاءِ تلك الثقافاتِ قائمةً على أصولها ما يُثْبِتُ بأنَّ أهلها عَمدوا
إلى إثباتِها ببراهينَ يقبلها عقلُ الإنسانِ ، و منْ ثَمَّ كان الإيضاحُ
بالمثالِ المضروبِ ، و عُمِدَ إلى الاستئناسِ برأي كبيرٍ في تلك الثقافة ،
فالتعويلُ أصلاً كان على البُرهانِ المُثْبِتِ ، و ما بَعْدُ تبعٌ تابعٌ و
ليسَ مُستقلاً .
الخللُ في فهم كلِّ الفنون و العلومِ المعرفيةِ اليومَ عائدٌ إلى مخالفةِ
ذا ، فقلَّ أن نرى في أي علمٍ ، من علوم البشرِ ، مَن يَعمد إلى ما عليه
أصحابُ مدرسةِ العلم و الثقافةِ البُناةِ لها ، و إنما كان التعويلُ إلى
شُخوصٍ مَثَلِيَّةٍ أو تِمثاليةٍ ، و لا تصحيح لخطأ و خلل إلا بِعودةٍ إلى
ثابتٍ ، فهو " المُعوَّلُ الأولُ " .
و مجاوزةُ النظرِ في البُرهانِ و القاعدةِ إلى النظرِ في الناقلِ تحوُّلٌ
من الغايةِ و الأصلِ إلى الصورةِ و الوسيلة ، إلى المثال و التمثال .
إذنْ ، فنحنُ نحتاجُ إلى تصحيحِ نهجِ الثقافات و العلومِ بالتعويلِ على
أصول القانون المعرفي ، و قواعد البناءِ التأسيسي ، حيثُ : الرسوخُ ، و
القوةُ ، و البقاءُ ، و اعتبارِ المثالِ إيضاحاً و التمثالِ استئناساً .