|
الحمد لله الواحد القهار ، أمر عباده بطاعته ليل نهار ، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له العزيز الغفار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المستغفر
بالأسحار ، النبي المختار ، صلى الله وسلم عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار ،
وعلى آله وصحابته الأخيار . . . أما بعد :
فلقد أزهقت كثير من أنفس الناشئة بسبب إهمال الأولياء ، وترك الحبل على الغارب
لأبنائهم ، لِيُمْلُوا على آبائهم ما يطلبون ، وما يرغبون ، فطلباتهم أوامر ،
وأوامرهم لا ترفض ، بل تُنفذ ، لاسيما إن كان وراءهم أمهات فاشلات ، حتى نشأ
لدينا جيل أقرب ما يكون للميوعة والدلع والدعة ، منه للرجولة والفتوة والقوة ،
شباب وهنتهم حمى الغرب ، وضربتهم شمس التحضر الكاذب ، حتى كأنك تشاهد فتيات لا
رجال ، لبس ضيق ، وقبعات غريبة ، وهيئات مريبة ، والمحزن المبكي أنك لا ترى
أباً يقدر أو يفكر ، بل ولا يسأل عن حال ولده أهو حال صحيح ، أم حال قبيح ؟ ومن
هم رفقته ، أهم الخيرة أو غيرهم ؟
انشغل الآباء بمتابعة الفاتنات من النساء عبر الفضائيات ، أو متابعة الأسهم عبر
الشبكات والشاشات ، فأنى لأب هذا حاله أن يكون لديه وقت لتأديب ولده ، أو
تربيته تربية صالحة ، وتنشئته نشأة دينية ، وفق كتاب الله تعالى ، واقتفاء منهج
نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل مثل أولئك الأبناء ستربيهم الشوارع ، وناهيكم عمن
كان الشارع مؤدبه ومعلمه ، سيكون عرضة للاهثين وراء الحرام ، واللاعبين
بالأعراض ، سيكون من أهل الخمور والسرقة ، سيكون خائناً لوطنه ودينه ، يبيع
دينه بعرض من الدنيا .
والسؤال الذي يطرح نفسه : من هو المسؤول عن هذا الانحراف لدى الشباب ؟
والجواب الصاعقة ، أن المسؤولية مشتركة ، لا تنفك عن بعضها البعض ، فهي كالحلقة
، إن انفرطت ، انفرط العقد كله ، فالبيت له مسؤوليته ، والمدرسة يقع عليها عبئ
آخر ، وللمسجد نصيب ، وللأمن كفل من المسؤولية ، وهكذا فالمسؤولية مشتركة ، لكن
القسم الأكبر ، والجرم الأعظم يقع على البيت ، ولاسيما رب البيت ، الذي أنيطت
به مسؤولية التربية والتعليم والتنشئة من لدن رب العالمين حيث قال سبحانه : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنفال27 ] .
وبين الله تعالى خطورة التفريط في أمانة الأبناء ، وأنها طريق للندامة ، وسبب
للخسارة يوم القيامة ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن
تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [
التغابن14 ] .
لقد تخلى كثير من الآباء عن مسؤولية التربية ، فتركوا أبناءهم بلا رادع ولا
زاجر ، والله لقد فقدوا زمام الأمور ، وأهملوا صحيح التربية والرعاية ، حتى بلغ
الأمر مبلغاً يجعل القلوب في كمد ، والنفوس في وصب .
آباء يصلون وأبناؤهم بجانب المسجد يلعبون .
آباء ينامون وأبناؤهم خارج المنزل يسهرون .
آباء محترمون وأبناؤهم بالأذية مشهورين .
أضداد ومباينات ومفارقات .
فلماذا لا يكون الابن كأبيه ؟
سؤال تترك إجابته لكل أب وولي أمر ؟
لكن لا ينسى الآباء أن الله قد أمرهم برعاية أبنائهم ، وأنهم مسؤولون عنهم يوم
العرض على ربهم وخالقهم ، أحفظوا الأمانة أم خانوها ؟
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنفال27
] .
يا أيها الأولياء والأوصياء ، لا تخونوا الله ورسوله بترك ما أوجبه الله عليكم
، وفِعْل ما نهاكم عنه , ولا تفرطوا فيما ائتمنكم الله عليه من الأبناء
والزوجات وغيرهم , وأنتم تعلمون أنها أمانة يجب عليكم الوفاء بها .
وتذكروا قول الله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ الصافات24
] .
يا من تترك ولدك ينام عن الصلاة المكتوبة ، يا من تهمل تربية ولدك ، يا من تخاف
على ولدك حر الشمس ، وبرد الشتاء ، فلا تأخذه معك للمسجد للصلاة ؟ تذكر أن هذا
الولد يسكون خصمك يوم القيامة ، إذا فشل في حياته ، وابتعد عن طريق الصواب ،
وحار يوم القيامة في الجواب ، فاعلم أنه سيتعلق برقبتك ، ويطلب من الله
الانتقام منك ، ويقول : يارب خذ بحقي منه ، فلم يوقظني للصلاة ، ولم يأمرني بها
، ولم يعلمني شعائر الدين وآدابه وسننه وواجباته ، فكيف بك وأنت تجد أن خصمك
يوم القيامة ولدك ؟
فإذا أهملته صغيراً ، عصاك كبيراً .
وإذا لم تعلمه الصلاة طفلاً ، شاب على تركها كبيراً .
وإذا أردت أن يكون ملتقاك وأبناؤك الجنة ، فأمرهم بالصلاة لسبع ، واضربهم عليها
لعشر ، أدبهم بآداب الإسلام ، وعلمهم شعائر الدين ، يألفوها صغاراً ، ويحبونها
كباراً ، وتأمل قول الله تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم6 ] ، كل المسلمين يسمعون هذه الآية
تتلى عليهم ، ولكن هل تدبروها وتفكروا في معانيها ؟
وتذكر قول الله عز وجل : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا
يَفْقَهُونَ } [ التوبة81 ] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ألا كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول
عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على
بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه
، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " [ متفق عليه ] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن
الله سائل كل راع عما استرعاه ، حفظ أم ضيع _ زاد في رواية _ حتى يُسأل الرجل
عن أهل بيته " [ رواه ابن حبان في صحيحه وقال الألباني : حسن صحيح ] .
يا ولي الأمر ، أيها الأب ، أيتها الأم ، أليس الله جعلك أميراً وولياً ووالياً
تلي أمور أبنائك وبناتك وزوجاتك وبيتك ومن تعول ؟
إذن فتأمل هذا الحديث الشريف ، عن معقل بن يسار رضي الله عنه ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : " ما من أمير يلي أمور المسلمين ، ثم لا يجهد لهم ، وينصح
لهم ، إلا لم يدخل معهم الجنة " [ رواه مسلم ، والطبراني وزاد ( حسن ) كنصحه
وجهده لنفسه ] .
إن مظاهر الدلع والترف والخيلاء والكبرياء التي تحيط بكثير من الآباء وأبنائهم
، لهي مصدر خطورة ، ومكمن شرر ، وعنوان خطر ، تأتي نتائجه على المجتمع بأكمله ،
سيارات فارهة يقودها صبية لا عقول لديهم ولا تفكير بعواقب الأمور ، يموت تحتها
وفيها من الأبرياء ، مظاهر الفضائيات وما تسببه من مخاطر معلومة لهي مظاهر
مؤلمة ، وما تبثه من قتل للعفاف ، وغيلة للحياء ، وإخراج للمرأة المسلمة من
خدرها إلى تعرية جسدها ، ومناظر الفحش ، ومشاهد الرذيلة التي تعرض عبر
الفضائيات ، أهي من أداء الأمانة كما ألزم الله ، أم هي من الخيانة والغدر
والغش لله ولرسوله وللرعية ؟
إنها مسؤولية الآباء في الدرجة الأولى ، فهل أولئك الآباء حفظوا الأمانة ، أم
خانوا الله ورسوله والمؤمنين ؟
الألبسة الدخيلة على مجتمعات المسلمين ، الجينز والقبعات والسلاسل والبناطيل ،
وقل مثلها في ألبسة النساء والبنات ، وأيم الله لقد رأينا من مناظر الفتيات ما
يميت القلوب الصالحة ، ويقتل القلوب الصادقة ، فتاة تلبس على وجهها خمار يجعلها
أجمل مما لو لم تلبسه ، وأخرى تلبس عباءة تشف ما تحتها ، وثالثة تخفي من الفتنة
تحت العباءة ما يثير مكامن الغريزة ، وغير ذلك كثير من مشاهد العري والتبرج
والزينة ، مما يقتل الغيرة ، ويميت العفة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم .
فأولئك الآباء مسؤولون عنها في المقام الأول ، فهل قاموا بما أوجب الله عليهم
من الأمانة ، أم خانوها وضيعوها ؟
عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما
من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت ، وهو غاش لرعيته ، إلا حرم الله
عليه الجنة " [ متفق عليه ] .
فاتقوا الله أيها الآباء والأمهات ، في أنفسكم أولاً ، ثم احفظوا أولادكم من
الشرور والمحن ، وسوء الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
ارحموهم من نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى ، عودوهم الأخلاق الحسنة ، والأعمال
الطيبة ، والأفعال الخيرة ، حتى يألفوها صغاراً ، ويطبقونها كباراً ، فينفعوكم
وينفعوا أنفسهم ، ويكون ذلك حجة لكم عند ربكم يوم القيامة .
الخواطر في هذا الموضوع كثيرة ، ولكن أكتفي بمن كتبت ففيه غنية وفائدة لطالب
الحق ، والساعي إليه .
وفي الختام أسأل الله العلي القدير ، أن يوفق الآباء لرعاية الأبناء ، وتربيتهم
تربية شرعية إسلامية دينية هادفة ، ليكونوا نواة خير لمجتمعهم ، ودرعاً متيناً
، وحصناً حصيناً لدينهم ، وحماة لإسلامهم وبلادهم ، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك