|
|
وقفة مع سورة
المزمل |
|
أ.ندى السجان |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد
المرسلين المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبدالله ، وعلى آله وصحبه أجمعين ،
وبعد :
فإن أول ما نزل من القرآن الكريم على الإطلاق سورة (اقرأ) ، التي تحث في مجمل
آياتها على فضل العلم وتعلمه ، ذلك العلم الباعث على الهدى ، والمعين عليه
، وهو العلم عن الله المبلغ عن طريق رسوله عليه الصلاة والسلام ؛ أمرًا ونهيًا
وتوحيدًا ، ولعبادته على الوجه الذي أمر به والاستقامة عليه.
ثم نزلت سورة المدثر (قم فأنذر) ؛ فبعد العلم تكون الدعوة إليه ونشره ، وهو محض
فريضة على عباد الله ؛ فمنهم من يُعلم العلم ، ومنهم من يأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر ؛ فهو ليس أمرًا اختياريًّا إن شاء العبد فعله وإن شاء تركه ؛ لقوله
تعالى في سورة فصلت : {وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ
إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:
33] وقوله تعالى في سورة آل
عمران : {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [آل
عمران: 104]
والعلم والدعوة إليه متلازمان لا ينفكان ؛ فلا يفتر المؤمن عن الدعوة إلى الله
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلال رحلة حياته ، التي يستمر بها متعلمًا
وعاملًا ، عابدًا وداعيًا .
ومما يطرأ على العباد بمختلف مشاربهم وتعدد مستويات علمهم ودعوتهم : نوازع
النفس وحظوظها ، التي تدعوهم إلى العجب بعد ثناء الناس عليهم أو إعجابهم
بأنفسهم ؛ فتجد العالم والمتعلم منهم على حد السواء منخرطًا في الدروس
والمحاضرات والأنشطة والفعاليات ، وهو فضل كبير بلا شك ، إلا أن هذا الفضل قد
تشوبه شوائب الرياء أو العُجب ؛ فالنية - ومحلها القلب - متقلبة ، والثبات
والإخلاص مطلب عزيز ظفر به من منَّ الله عليه من صفوة عباده ، الذين راقبوا
الله سرًّا وعلانية ، واجتهدوا بعد الاستعانة به عز وجل في تحقيق هذا المطلب
العظيم .
وفي سورة المزمل إشارات عظيمة إلى هذه المعاني وأحوال المؤمن مع الإخلاص (
قُمِ الليْلَ إلَّا قَلِيلًا )؛ فمن ذا الذي يقوى على قيام الليل بعد
نهار طويل من الكد أو التعلم والتعليم والدعوة ، وقد رأى أنه أحسن عمل نهاره
فاكتفى به ؟!
ومن ذا الذي يقوى على تلك العبادة التي لا رياء يشوبها ولا ثناء عليها ولا
تشجيع من العباد معها ؛ فترى المؤمن يتخفى فيها ليخلو بربه ويناجيه ؛ فلا عين
تبصره ولا لسان يشكره إلا عين الله تعالى .
فالإخلاص الذي يزمل المؤمن ليلًا في وقت السكون والركون ، والذي يدعوه إلى هجر
فراشه وترك التلذذ بالراحة وتحقيق أجلِّ معاني العبودية في قيام الليل وإحيائه
بالصلاة والذكر وترتيل القرآن ( وَرَتِّلِ
الْقُرآنَ تَرْتِيلًا ) .
فشرف المؤمن قيامه بالليل ، وقد أثنى الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه
المجيد على قوام الليل المتعبدين فيه : {كَانُوا
قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات]
وهنا تتجلى فضيلة ذكر الله على سائر الأعمال التعبدية ؛ لما كان حظها من الرياء
كاد أن يكون معدومًا ؛ فخير العبادة ما كان مستترًا عن عيون الخلق كما جاء في
الأخبار عن المتصدق الذي لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .
وقيام الليل يورث نورًا في القلب ، وسكينة في الجوارح ، واطمئنانًا يغمر صاحبه
؛ فبه تتحقق العبودية الخالصة ، وبه يُستعان على شدائد الأمور ومصاعب الدعوة
وطريقها الوعر ؛ لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس قيامًا في الليل
، وكان ذلك متوافقًا مع كونه أشد الناس همًّا وأثقلهم حملًا للدعوة والتبليغ .
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ
هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} [المزمل] فهذا
القرآن الكريم ثقيل بثقل كلام الله عز وجل وما يحمله من شرائع ، المتمثلة
بالفرائض والحدود والأوامر والنواهي ، وما يتطلبه من مجاهدة للنفس والشيطان
للقيام به ليلًا ، وقال ابن المبارك : "
إن ما ثَقُل في الدنيا يُثقل الميزان يوم القيامة " . (
أشد وطئًا ) أي أشد استقامة
واستمرارًا على الصواب .
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيل} [المزمل:
7] والسبح - كما جاء في
القرطبي - الجري والدوران ، أي فلك يا محمد ولقومك معك في النهار ما يشغلكم من
أمور الحياة والسعي في الأرض من طلب رزق أو دعوة ذهابًا ومجيئًا ، أفلا يكون
لنا بعد هذا الخطاب والوقوف على بعض أسراره حظ من عبادة السر وتحصيل الشرف
ليلًا ؟!
الحقيقة أن لسورة المزمل شجونًا طويلة في نفوس المؤمنين ، والفوائد منها كسائر
سور القرآن الكريم لا تنقطع ، وللسورة وقفات وأسرار قد يضيق بنا المجال في
الوقوف عليها جميعًا ، وبما سبق نكتفي سائلين المولى عز وجل أن يجعلنا من أهل
الشرف والعزة أصحاب الخلوات المباركة بقيام الليل وإحيائه بالذكر ، والتزمل
بردائه الساتر عن بواعث الرياء ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ندى السجان
شعبان 1435
|
|
|
|
|