شجاعة الشيخ
إبراهيم بن جاسر -رحمه الله- في رجوعه للحق
سليمان بن صالح الخراشي
من المعلوم أن من أصول أهل السنة أنه لاأحد من هذه الأمة معصوم بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيما يُبلغ عن ربه ، وأن المسلم مهما علا شأنه في العلم لا
ينجو من الخطأ ، ولكن الموفق منهم إذا نوصح رجع ، ولم يُصر ويستكبر . وقديمًا
قال عمر في رسالته لأبي موسى - رضي الله عنهما - : ( ولا يمنعنك قضاءٌ قضيتَ
فيه اليوم ، فراجعتَ فيه رأيك ، فهُديتَ فيه إلى رشدك ، أن تُراجع فيه الحق ،
فإن الحق قديمٌ لا يُبطله شيئ ، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ) .
فالرجوع للحق من التواضع الذي يرفع الله صاحبَه ، ويعوضه خيرًا منه ؛ لأنه
يتطلبُ شجاعة ، وجهرًا بالتوبة ، وتجردًا لا يستطيعه إلا ذوو النفوس الشريفة ،
أما التعالي عليه - عنادًا أو استنكافًا خشية مقال الناس - فهو منقصة لصاحبه ،
ودليلٌ على عدم إخلاصه وتجرده ، وعقوبته تكون بنقيض قصده ؛ حيث المقت العاجل في
قلوب المؤمنين ، والحرمان من بركة العلم ، وهذا أمرٌ واقع . ( ولا يظلم ربك
أحدا ) .
ومن تأمل تاريخ أهل السنة وجد في قَصَص الراجعين للحق بعد زلتهم ، ثم نوصحوا من
العلماء الصادقين المحبين له وللأمة الخير الذين استجابوا لقوله تعالى : (
وتواصوا بالحق ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة .. الحديث " -
عبرة لكل من عثر كعثرتهم فألم بشيئ من أقوال أهل البدع .
ومن أبرز هؤلاء في القديم :
العلامة أبو الوفاء ابن عقيل - رحمه الله - الذي زلّ فنوصح ؛ فكتب يقول : ( إني
أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره ، ومن صُحبة أربابه ،
وتعظيم أصحابه ، والترحم على أسلافهم ، والتكثر بأخلاقهم . وما كنتُ علقته ،
ووُجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته ، ولا تحل
كتابته ولا قراءته ، ولا اعتقاده . - إلى أن قال - واعتقدتُ في الحلاج أنه من
أهل الدين والزهد والكرامات ، ونصرتُ ذلك في جزء عملته ، وأنا تائب إلى الله
تعالى منه ، وأنه قُتل بإجماع علماء عصره ، وأصابوا في ذلك وأخطأ هو . ومع ذلك
فإني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة ، وغير ذلك ،
والترحم عليهم ، والتعظيم لهم ؛ فإن ذلك كله حرام ، ولا يحل لمسلم فعله ؛ لقول
النبي صلى الله عليه وسلم : " من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " .
وقد كان الشريف أبو جعفر ومن كان معه من الشيوخ والأتباع ، سادتي وإخواني -
حرسهم الله تعالى - مصيبين في الإنكار عليّ ؛ لما شاهدوه بخطي من الكتب التي
أبرأ إلى الله تعالى منها ، وأتحقق أنني كنتُ مخطئًا غير مصيب ) . ( الذيل على
طبقات الحنابلة لابن رجب 3/144-145) .
أما في العصر الحديث :
فقد أخطأ الشيخ ابراهيم بن جاسر - رحمه الله - ( ت 1338هـ وله ترجمة في علماء
نجد1/277-293، وروضة الناظرين 1/41-43 ) في عدد من المسائل ، وجانب العقيدة
السلفية ؛ فنوصح من مشايخه وعلماء عصره ، فتفكر وتأمل ، ثم كتب وجهر بـ" رجوعه
" عنها ، قائلا في وثيقة محفوظة بمكتبة الحرم :
( الحمد لله الذي جعل الرجوع إلى الحق بعد بيانه من سيما المتقين وإمارات
المتورعين المخلصين لله الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك إله
الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين ، وخاتم النبيين
، صلى الله عليه وعلى أصحابه أجمعين ، أما بعد : فإن الله تعالى إذا قضى أمرًا
فلا راد له ، ولا بد من وقوعه ، وكان من قضائه - له الحمد على كل حال - أن أراد
وقوع نزاع بين الفقير وبين مشايخه الكرام – عفى الله عن الجميع ووهب المسيئين
منا للمطيع – في 7 شوال سنة 1303هـ في أربع مسائل :
أحدها :
أنهم كانوا يقررون لنا سابقًا ولاحقًا أن من طلب من الميت ما هو في قُدرة الحي
؛ كأن يقول : يا فلان ادعُ الله لي فهو كافر ، وكنتُ لهم موافقًا ، فعرض لي في
أثناء السنة المذكورة في نسخة لشيخ الإسلام فهمتُ منها أن ذلك ليس بكفر ،
فاعتمدتُ على ذلك ، فلما شعر المشايخ بذلك شق ذلك عليهم ، وتكابروا صدوره مني ،
وهم في نفس الأمر مصيبون ، ثم استبان لي بعد ذلك أن الحق ما كانوا عليه ابتداء
وانتهاء ، ثبّت الله الجميع عليه ، فرجعتُ إلى قولهم اعتمادًا على الدليل
الشرعي ، لا موافقة بظاهري دون باطني ، فالله حسيب من ظن ذلك بي ؛ وهو ما أخرجه
مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم
يُنتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الميت إذا
مات فقد انقطع عملُه إلا من شيئ قد تسبب له في حياته ، واكتسبه حال قدرته ؛
فأجري ثوابه بعد موته ، وهي ما ذكر في هذا الحديث .. وما عدا ما ذُكر لا يلحقه
إلا بإهداء الغير له كما دل على ذلك القرآن والسنة ، فمن طلب من الميت أن يسأل
له الله فقد ضل عن الصراط المستقيم ، وخالف خبر النبي صلى الله عليه وسلم في
أنه قد انقطع عملُه . فإن قال قائل : لا ريب في ذلك ، وإنما الشأن في أنه هل
يكفر ؟ قلنا : نعم . فإن قال : هذا خبر آحاد لا يوجب العلم اليقين ، وإنما يوجب
العلم الظني . قلنا : هذا حكم خبر الآحاد إذا لم تحتف به قرائن ، فأما إذا
احتفت به قرائن فإنه يوجب العلم القطعي ، وقد احتف بهذا الخبر قرينة من أقوى
القرائن ، وهي ما علم بالضرورة من الدين من قدرة الحي فقد اعتقد ثبوت ما هو
معلوم من الدين بالضرورة انتفاؤه ، فيستحق إطلاق الكفر عليه حينئذ ، ومن جوامع
كلمه صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، رواه
مسلم ، وقال تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ،
وهذا القدر كفاية لمن هداه الله ، اللهم اهدنا والمسلمين .
الثانية :
أنهم يعتمدون القول في أن شد الرَحل لزيارته صلى الله عليه وسلم لايجوز ابتداء
وانتهاء ، وكنتُ معهم أولا ، ثم عرض لي ترجيح القول باستحباب ذلك ؛ مستدلا على
ذلك بأحاديث ضعيفة ، وتبين لي الآن أن الصواب معهم ، نفع الله أهل الإسلام
بوجودهم ، وجعلهم مسددين في جميع أمورهم ؛ لقوة مستندهم ، وهو قوله صلى الله
عليه وسلم : " لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " ، هذا الحديث رواه الشيخان
من حديث أبي سعيد – رضي الله عنه - ، وفي رواية : " لا تشُدوا " بصيغة النهي ،
رواها مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، فإذا نهى صلى الله عليه وسلم
عن شد الرحال إلى المساجد غير الثلاثة ؛ فشد الرحال إلى القبور أولى بالمنع .
الثالثة :
أنهم كانوا يذهبون إلى القول بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعة بعد
موته ، وأن حديث الأعمى الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي خاصٌ بحياته كما
قاله الجمهور ، وصوّبه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكنتُ موافقًا لهم ، ثم تبين لي
أخيرًا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز ، لا شك في جوازه ؛ لأثر روي
في ذلك عن بعض الصحابة – رضي الله عنهم - ، فقال المشايخ – متعنا الله بحياتهم
- : القول بالمنع بعد الموت أولى ، وبالصواب أحرى ؛ سدًا للذريعة ، وقطعًا
للوسيلة المفضية إلى محظورات الشريعة ، فامتنعتُ من ذلك مدة وأنا الآن قد شرح
الله صدري لموافقتهم ، جعلها الله بحق اسمه موافقة مستمرة ، وعلى الحق أبدًا
مستقرة ، إنه على ذلك قديرٌ وبالإجابة جدير .
الرابعة :
في شأن ابن عربي ، وذلك أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال : الحكم بالولاية ، والتوقف
فيه ، والقطع بكفره ، وهذا اختيار المشايخ ، فسنح في أثناء السنة المذكورة أن
الوقف أقرب إلى الورع ، بعد أن كنتُ موافقًا لهم على قولهم ، والآن : كفرُ
الرجل بكلامه واضح ، وزندقته بخذله ناضح ، فلا معنى للتوقف فيه إلا ما سبق في
القضاء من وقوع هذا الأمر المقدور ، فالحمد لله على الاتفاق ، وأتضرع إليه أن
يجعله اتفاقًا مؤبدا ، مرضيًا له . والله أعلم . اهـ .
قلتُ : رحم الله الشيخ إبراهيم ، ورفع منزلته ، وجعل في رجوعه تشجيعًا لمن شابه
حاله ممن تأثر بشيئ من أقوال أهل البدع ؛ من إرجاء أو تأويل أو تكفير لمن لا
يستحقه .. ، وشكر الله للأخ الشيخ خضر بن سند الذي صور لي هذه الوثيقة من
المكتبة المذكورة ، مع التنبيه على أن الشيخ أباعبدالرحمن الظاهري - وفقه الله
- سبق أن نقلها في مجلة الدرعية ( العدد 2 ) ، وعلّق عليها . والله الهادي .