|
صدر عن المركز الثقافي العربي كتاب جديد بعنوان " حكاية الحداثة في المملكة
العربية السعودية " للدكتور / عبد الله الغذامي ، وهذا العنوان يغري كل متابع
للساحة الثقافية بالمملكة ، فلذا حرصت كثيراً على قراءته لأهمية موضوعة -
بالنسبة لي على الأقل - ، وبعد فراغي منه كانت هذه المدونات المركزة ، التي
أحببت نشرها تفاعلاً مع الكتاب وصاحبه وقرائه :
1-
عنوان الكتاب أضخم من مضمونه !! وقد تفاجأت بهذا الأمر ؛ لأن كاتبه كان في يوم
ما يعد سادن الحداثة وقطبها في بلادنا . فتوقعت أن أجد عنده من الأسرار
والخفايا مالا أجده عند غيره . إلا أن الأمر كما قيل " تسمع بالمعيدي خير من أن
تراه " .
فملخص الكتاب : أن بلادنا كانت تعيش " نسقاً " فكرياً واجتماعياً محافظاً
ثابتاً رغم بعض المحاولات الفردية ممن يسميهم الغذامي " بالمستنيرين " ! كحمزة
شحاتة ومحمد حسن عواد .. ثم حدث التعليم .. فظهر جيل مثقف من " الشباب المبدعين
" كمحمد العلي والدميني والحميدين .. ثم ظهرت " المثقفة " .. ثم جاءت الموجة
الحدايثة الثالثة .. إلى أن اصطدمت بالآخر " المحافظ " ! وهم العلماء والدعاة
وأبناء المجتمع المسلم . فانكسرت الحداثة باعتراف بعض دعاتها ! كالسريحي .
هذه باختصار مضامين كتاب الغذامي ! ولا أظنه أتى بجديد ، سوى بعض الأحداث
الشخصية التي مرت به في جامعة الملك عبد العزيز بجدة .
2-
كان الأولى بالكاتب أن يجعل كتابه من قبيل " السيرة الذاتية " ؛ لأنه جعل
الحداثة وحكايتها تدوران وتتمركزان حوله . فهو " القضية " وهو " الناقد " وهو "
المدافع " وهو " المتهم " ثم هو " البريء " ! . " صرت أسمع تعليقات الزملاء
التي تقول إن ما كان بيد الغذامي من مسؤوليات أسند الآن إلى أربعة أشخاص " (
ص225 ) !
3_
أثنى الغذامي على " محمد حسن عواد " كما سبق بصفته أحد " المستنيرين " ( ص59 )
الذين سعوا إلى تحديث مجتمعنا ، لا سيما من خلال كتابه الشهير " خواطر مصرحة "
الذي أعطي أكبر من حجمه؛لأن الكتاب مجرد مقالات إنشائية عن نواحي الحياة
المختلفة تذكرني وأمثالي بموضوعات مادة " المطالعة " في المرحلة الابتدائية !
وتذمر العواد في كتابه من " علماء " عصره وسخريته اللاذعة بهم ، كقوله " كم
جلبت لنا من المصائب تلك العمائم المشيدة فوق الرؤس " ( ص 113 ضمن الأعمال
الكاملة ) ، يعني بهم علماء الحجاز في عصره ممن انكفأ على عاداته وبدعه ولم
يقبل غيرهما ، ولهذا نجد العواد يدعوهم إلى الاقتداء بابن القيم ( 18- 21 من
خواطره) .
ولكن كيف فات على الغذامي المعجب بالعواد : غلو الأخير في مدح الغرب ( كما في ص
82،62 من خواطره ) مما حدا بمقدم الكتاب عبد الوهاب آشي أن ينكر عليه هذا الأمر
. وكذا قال العطار عنه : " أثرت فيه فلسفة المتمردين من كتاب الشرق والغرب " (
العواد أبعاد وملامح ، ص 226 ) .
وكيف فات على الغذامي المفتخر بتدينه وتتلمذه على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله !
قول العواد في كتابه السابق لنساء السعودية : " زحزحن بأيديكن هذا الحجاب
الدخيل على عادات العرب وعلى مبادئ الدين ( !! ) وعلى أسس الأخلاق الشريفة
العاملة ( !! ) " ( ديوان العواد 2/374 نقلاً عن خواطر مصرحة الجزء الثاني ) .
فهل الغذامي المسلم ! يؤيد العواد في هذا التحرر ؟! وهل يرضاه لنساء هذه البلاد
؟! وهل هو من شروط الكاتب " المستنير " ؟! ثم هل تُعجز مثل هذه الأمور التافهة
( التذمر من المجتمع أو الدعوة لنزع الحجاب ، أو الشكوى من السلطة السياسية
والدينية ! ) أي كاتب ولو كان من سفلة الكتاب ( تعليماً وفناً وأخلاقاً ) لكي
يحظى من الغذامي وإخوانه بوصف ( الكاتب المستنير ) أو ( المثقف التقدمي ) ..
الخ الأوصاف الرنانة ؟!
ما أسهل التقدم حينئذٍ !
تنيبه : يفتخر الحداثيون كشأن أستاذهم الغذامي بالعواد ويعدونه من طلائعهم في
بلادنا للأسباب السابقة ! ولهذا فقد تتابعوا على تأبينه وذكر محاسنه . ومنهم
علي الدميني الذي يقول فيه : " إننا لنعذر له هذا التطرف ، بل ونجله له ، ونصنع
من تلك المواقف المتمردة علي الصيغ الأدبية الجامدة ، والكتب الجافة ، وعلي
المتزمتين في شتئ شؤون الحياة ، وعلي النائمين في ثبات التاريخ ( ! ) نصنع منها
كياناً عامراً بالريادة والشجاعة والتمرد ( ! ) " ( العواد أبعاد وملامح ، ص
256 ) .
ومنهم : فوزية أبو خالد التي تقول عنه : " إن العواد بمواقفه عموماً إحدى
الشارات الهامة التي تدلنا على مفترق الطرق الصحيح ( ! ) الذي سيتحتم علينا
يوماً ما أن نصنع باتجاهه القرار والمشوار " ( السابق ، ص 265 )
ومنهم : هاشم عبده هاشم وعبد الله الجفري ، وعزيز ضياء ..
تنبيه آخر : العواد أحد المعتقلين عام 1352هـ بتهمة المشاركة في ثورة " ابن
رفادة " علي الدولة السعودية : إضافة إلى صاحبه حمزة شحا ته ! ( انظر : محمد
حسن عواد .. شاعراً ، لآمنه عقاد ، ص 44 )؛ فهما قد جمعا بين الحداثة الفكرية
والسياسية !!
4-
أكثر الغذامي في كتابه من الشكوى لأن بلادنا تعيش كما يقول " نسقاً " ثابتاً لم
يتغير رغم مامر بها من حداثات دنيوية ظاهرية يسميها " حداثة الوسائل " وهذه
وحدها لا تكفي عنده ! ، لأنها " حداثة في الوسائل ورجعية في الأذهان " !! ( ص
173 ) ولم يوضح ما هذه الرجعية الذهنية !
ويزداد تذمره لأن مجتمعنا " مجتمع لا يعرف سوى التسليم وليس النقد " ( ص244 ) .
ويقول محددا مايريد لمجتمعنا : " إن التحول يجب أن يتكامل سياسياَ وثقافياً لكي
يحدث التحول الاجتماعي المأمول " ( ص64 ) .
قلت : أما سياسيًا فنتركها لولاة الأمور يتفاهمون فيها معه !
وأما ثقافيًا واجتماعيًا فنرجو من الغذامي أن يتحفنا بكيفيتها لعلنا نتخلص من
تخلفنا ونلحق بحداثته هو وإخوانه ! لأن الكلمات العامة المطاطة لاتكفي .
5-
ردد الغذامي في كتابه كلمة " النسق " وتصريفاتها بشكل ممل ، حتى لا تكاد تخلو
صفحة من صفحات الكتاب دون أن تجدها فيه ( انظر مثلاً : 36 ، 57 ، 67 ، 168 ،
171 ، 172 ، 210 ، 221 ، 231 ، 241 ، 244 ، 250 ، 256 ، 261 ، 262 ، 288 .. ) .
6-
دافع الغذامي عن نفسه مقابل الحملة الشرسة التي واجهتها الحداثة في بلادنا ممن
لم يفهموها ! - كما يزعم - ولذا ظنوها قرين الإلحاد والتمرد على الدين ! ( ص33
ــ وما بعدها ) . وهذا غير صحيح في نظر الغذامي ، لأن " تعريف الحداثة مسألة
بحثية فردية ، وليس هناك إجماع مؤسساتي ولا مدروس يشير إلى معنى واحد متفق عليه
" ( ص 36 ) . وأحيل القارئ إلى رسالة الدكتور سعيد الغامدي ـ حفظه الله "
الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها " ليتبين له زيف ما ذكره الغذامي ويتأكد
له من أقوال القوم أن الحداثة مهما تعددت تعريفاتها فإنها تلتقي على معاداة
الدين ونسف ثوابت المجتمع المسلم وقيمه .
والغذامي هنا يذكرني ببعض دعاة العلمانية في البلاد الإسلامية الذين من أجل
ترويج علمانيتهم ـ زعموا أن العلمانية قسمان : قسم معارض للدين وقسم غير معارض
له وإنما يحصره في إحدى الزوايا !
7-
أثناء دفاع الغذامي عن الحداثة وأهلها في المملكة ( ص37 ) زعم أن منهم من هو
يصلي ومنهم من هو بار بوالديه وآخر قد تتلمذ على الشيخ ابن عثيمين ـ رحمة الله
. ! وهذا كافٍ في الحكم بإسلام القوم وعدم اتهاماتهم بما اتهموا به .
وأنا ألفت نظر الغذامي ومن معه إلى أن الأصل في المسلم الإسلام مالم يتلبس بأحد
نوا قض الإسلام أو الكفريات المخرجة من الملة ـ وهذا يعرفه صبيان المسلمين ـ
وقد كان المنافقون في عهده صلي الله عليه وسلم يصلون خلفه ويتصدقون بل ويجاهدون
! وقد قال الله تعالى فيهم ( وما منعهم أن تقبل منهم صدقاتهم إلا أنهم كفروا
بالله وبرسوله ) . وقال في آخرين منهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض
ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )
.
فليحذر الإنسان أن يدعي الإيمان والإسلام وهو في حقيقته كافر بالله ، إما ببغض
شيء من أمور الشريعة ، أو بمحبة الكفار وتمني ظهورهم على أهل الإسلام ، أو
بموالاة من حاد الله ورسوله .. إلى غير ذلك . عندها يصدق فيه ما قاله الله
تعالى في المنافقين ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون
).
8-
انتقد الغذامي موقف الدكتور سعد البازعي الذي عده من أنصار الحداثة الرجعية ! (
ص 7 ، 37 ، 254 وما بعدها ) . فقال عنه : " هو رجل ناصبنا العداء من ظهور (
الخطيئة والتكفير ) عام 1985 ، ومع تخصصه في الأدب الإنجليزي ودراسته في أمريكا
، ومع اندماجه الشخصي مع الحداثيين ، إلا أنه عجز أن يتأقلم مع الحركة , وله مع
كل كتاب من كتبي موقف مناهض مبالغ في مناهضته " . " الخلل يكمن في أنه رجل
محافظ عقلياً ونفسياً ، ولذا عجز عن تقبل التحولات المعرفية التي ظل يعلن عن
تخوفه منها والتحذير من مغبتها .. " " تظهر كتاباته في نقد النظريات أنه لم
يستوعب النظريات استيعاباً علمياً ولا منهجياً ينم عن فهم .. " .
قلت : ذم الغذامي للبازعي هو من محاسنه لمن تأمل ! وهو يستحق الشكر عليه ؛ لأنه
تصدى لهذه الفئة المنحرفة ، ولم يتورط فيما تورطوا فيه ، أو ينخدع بأدبهم
وأفكارهم .
9-
انتقد الغذامي كل من وقف ضد الحداثة من الدعاة ، كالدكتور سعيد الغامدي ،
والدكتور عوض القرني ، والأستاذ محمد مليباري ـ رحمه الله ـ وغيرهم . ( ص 22
وما بعدها ، 210 ، 284 ) .
10-
انتقد الغذامي الجامعات السعودية لأنها لم تساهم في حركة الحداثة ! ( ص 77 وما
بعدها ) .
11-
أخيراً : يرى الغذامي أن الحداثة لم تنته في بلادنا ! إنما الذي انتهى فعلياً
وعملياً هو " الصراع العلني المركز ضد الحداثة كمصطلح وكميدان وحيد للصراع
والنقاش ، ثم إن الذي انتهى فعلياً أيضاً هو بعض الأسماء التي كانت متوهجة في
الثمانينات وتراجعت بعد ذلك وانطفأت " ( ص 286 ) .
ودليل عدم انتهاء الحداثة عند الدكتور أنها ظلت تتفاعل بطرق وأساليب متعددة ،
كاتساع نظرية النقد ، وظهور نظريات جديدة ، وظهور الرواية ، وظهور ما يسمى
بيانات المثقفين ، ثم خطاب الإنترنت المفتوح . ( ص 286 - 288 ).
قلت : هذا رأي الدكتور ، ولغيره آراء تناقض هذا الرأي ملخصها أن الحداثة
المناهضة للدين كسرت وتعرت وانتهت في بلادنا ـ ولله الحمد ـ ولم يبق من يتشبث
بها إلا شرذمه من الكتاب والكاتبات الذين لا زالوا يعيشون على أطلالها الخاوية
، ويحاولون ما استطاعوا بعثها من جديد .
أما إن كان المقصود بالحداثة أن يساهم المسلمون في صناعة الحضارة ( المادية ) ،
ويزاحموا الآخرين في سبيل هذا الأمر ، إما بنقل التقنية ، أو دعم الموهوبين
والمخترعين ، أو بالاكتفاء والاستغناء عن الآخرين في المجالات الدنيوية
المتعددة ، مع الحفاظ على شرعنا وعدم التنازل عنه .. فحي هلا بها من حداثة ،
وأنا زعيم بأن لا أحد من أبناء مجتمعنا سيعترض عليها ! والله الهادي .