|
قرأتُ في أحد الكتب أنه
أثناء نشوب الحرب بين السعودية واليمن زمن الملك عبد العزيز والإمام يحيى حميد
الدين ؛ كانت القبائل التي على الحدود بين الطرفين تدعو وتقنت في صلواتها بهذا
الدعاء - بلهجتها القريبة من اللهجة اليمنية - : " اللهم احفظ عبدَ العزيز
إلى نِصـْـفُـوو ، واحفظ يحيى إلى نِصْـفُـوو " !!
أي لا تجعل أحدهما ينتصر على الآخر ! بل اجعل الحرب تستمر ؛ لأن هذه القبائل
الحدودية كانت مستفيدة من بقاء الفتنة بين الطرفين ؛ سواء ببيع الأسلحة أو
التهريب أو غير ذلك من المنافع ..
وهكذا هم " تجار الحروب " و " مرتزقة الفتن " في كل مكان وزمان ، لا يطيب لهم
العيش إلا وسطها . وقديما قال السلف فيمن هذا وصفهم :
( قبح اللهُ هذه الوجوه التي لا تُرى إلا في
الفتنة ) .
تذكرتُ هذا وأنا أتأمل ما تمر به بلادنا من أزمة طارئة منذ أحداث ما يسمى 11
سبتمبر ، وظهور أفراد هذه الفئات المستفيدة من استمرار الفتنة ، ممن اتحدت
أهدافهم ، وتباينت مصالحهم ومنافعهم .
وبعد التأمل خرجتُ بنتيجة تقول بأن المستفيد من استمرار هذه الفتنة في بلادنا ؛
ممن لايهنأ لهم بال إذا ما انطفأت نارها وخمدت ؛ عدد من الجهات ( قليلة العدد ،
كثيرة الصخَب ) ؛ يمكن حصرها في التالي ؛ مع ذكر الحلول المناسب لكل فئة -
بإيجاز :
الفئة الأولى :
بعض الدول الكافرة - ذات التأريخ الاستعماري
البغيض- التي ما فتئت تذكي أوار هذه الفتنة بعدة طرق ؛ لأنها لاتريد لهذه
البلاد الاستقرار ؛ لعل ذلك يُحدث فجوة في وحدته تنفذ من خلالها لزحزحته عن
دينه ، وإخضاعه وترويضه ، ثم تجعله محتاجًا لها - حكومة وشعبًا - في كل وقت –
كما فعلت بغيره - .
والحل مع هذه الفئة : أن يقابل مكرها
بمزيد من الاعتصام والتقوى والإصلاح النافع ؛ كما قال تعالى : ( وَإِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
الفئة الثانية : أهل
البدع ( وهم قلة من الشيعة أو بقايا الصوفية ) ممن ظهرت قرونهم في هذه الفتنة ؛
واستشرفت نفوسهم الحاقدة ؛ لعلها تجلب كسبًا لأبناء طائفتها ، أو تستقل بإقليم
أو منطقة ؛ مستنصرة لتحقيق هذا بدول النصارى ، مستقوية بأهل البدع في الدول
المجاورة . وهذه الفئة تلعب بالنار – كما سيأتي إن شاء الله في مقال قادم - .
والحل مع هذه الفئة : أن يُحزم معها ،
ولايُتهاون في شأنها ؛ لأن ولاءها لغير هذه البلاد ؛ مع تذكيرها بنعمة الله
عليها ؛ من حيث أمنها على دمائها وأموالها وأعراضها ؛ فمن العقل - إن لم تؤمن
بالشرع - أن لاتغير هذا كله بتصرفاتها الحمقاء ؛ خشية أن تقول فيما بعد : ربّ
يومٍ بكيت منه فلما * صرتُ في غيره بكيتُ عليه !
الفئة الثالثة : المنافقون من
العلمانيين وأتباعهم العصرانيين المنتكسين ( الطابور الخامس للأعداء ) ؛ ممن
طاروا فرحًا بهذه الفتنة الطارئة ؛ لكي يتسلقوا من خلالها إلى أهدافهم التي
صبروا في سبيلها عشرات السنين ، فاستغلوا هذه الفتنة لتصفية حساباتهم ، أو
مهاجمة الشرع ، ومحاولة تغيير الدين الحق بدعوى " الحرص على الوطن " و "
محاربة الإرهاب " ! ، ثم مطالبة الدولة – بمكر – أن تتخلى عنه ، وأن تتنكر
لمبادئها ومناهجها التي قامت عليها .
ولكنّ الدولة – وفقها الله – لم تنسق لأقوالهم – وإن كثرت وتعددت – لأنها تعلم
علم اليقين أن تمسكها بهذه المبادئ هو مصدر عزها وأمنها – بعد الله - ، وأنها
إن تنازلت عن شيئ منها فإنما تخون الأمانة ، وتستجلب سخط الله وتخليه عنها ؛
لأنه تعالى ليس بينه وبين الناس نسب ، وقد بين العلماء أنه كلما عظمت المنة
والنعمة على العبد أو الأمة ، ثم فرّط بدّل اشتد عذابه . وعلمتْ الدولة – أيضًا
– من خلال التجارب الماضية في تاريخها ( فتنة السبلة - فتنة جهيمان - فتنة دعاة
التهييج ) أنه لامنجى لها – بإذن الله - من هذه الفتن إلا بمواصلة السير على
المنهج السلفي الوسط ، وتصدير العلماء الثقات والرجوع إلى مشورتهم .
والحل مع هذه الفئة :
أن تعلم الدولة - وفقها الله - أن أفرادها وإن
تمسحوا بالوطنية لتحقيق أهدافهم كما سبق - فإنهم لو دارت الدوائر - لا قدّر
الله - سيكونون أول راكب على دبابات الأعداء المتربصين ؛ كما فعل أشياعهم في
دول كثيرة ؛ والسعيد من وعظ بغيره . ولهذا فإن من مصلحة بلادنا أن لاتتجذر هذه
الفئة فيها وتتمدد . وخير حل معها أن تُبعد وتُنحى عن مصادر التأثير ( الإعلام
) ، وتُبذ كما تُنبذ الجرباء ، وأن يُساءل كل من يُمكن لها أو يدعمها في
مطبوعته أو وسيلته الإعلامية ؛ لأنه بهذا يكون " خائنًا " لبلاده ، ممن قيل
فيهم :
تود عدوي ثم تزعــم أنني * حبيبك إن الرأي عنك
لعازب
الفئة الرابعة : أصحاب
المنافع والمصالح الدنيوية ؛ ممن يدعون الوطنية ، ويتظاهرون بها أمام الدولة ؛
لمكاسب وقتية دنيئة ؛ ممن قال الشاعر في أمثالهم :
فكم أذري الدموع لنهب مالٍ * وكم أبدي الخشوع لنيل جاهٍ
وهؤلاء لاخطر منهم ! والحل أن يعاملوا كما يعامل المؤلفة قلوبهم !
الفئة الخامسة : بعض الشباب المستقيمين
ممن يُظهرون أنفسهم بمظهر " السلفية " ، متصدين لمن
يسمونهم الحزبيين المعادين للدولة ، ممن يدعمون الفئة الضالة ؛ ولكنهم في
تصديهم لهذا الأمر خالفوا نهج كبار العلماء في هذه البلاد ؛ بتصرفات غير مسؤولة
، أضرت بالسلفية وبالدولة أيضًا ؛ ومن ذلك أنهم أصبحوا يُنكرون أعمال الخير
المتنوعة ( تحفيظ القرآن ، المكتبات ، المراكز ، أعمال الإغاثة والتبرعات ،
وسائل الإعلام الجادة .. الخ ) ؛ بدعوى مواجهة الإرهاب ومواجهة الحزبيين
المتسترين ! تُسيّرهم الظنون والوساوس ، حتى أصبح من يخالفهم في مسلكهم الضار
هذا : ( حزبي متستر ) ! أو ( خارجي قعَدي ) ! .. وجعل الواحد منهم يتكلف في
محاولة إظهار أنه " حامي حمى البلاد " ! في الوقوف بوجه أعداء الدولة السعودية
( من الحزبيين فقط ! ) ؛ والأصل عنده أن الجميع " خونة " لا ولاء عندهم لبلاد
التوحيد ماعداه وأصحابه ، . بل وصل الحال ببعضهم أنهم وقفوا في " خندق واحد "
مع الفئة الثالثة المنافقة - بجهل أو عمد - فتشابهت قلوبهم - والعياذ بالله - ،
وهذا دليل مرض القلب .
ويغلب على هذه الفئة الانشغال بما سبق على حساب نشر الخير والدعوة إليه ، وجمع
كلمة أهل الحق ، والتواصي معهم بالحق والصبر .
والحل مع هذه الفئة : أن يُبين لهم أن
طريقتهم هذه تهدم ولا تبني ، وتُفسد ولاتُصلح ، وتذكي ولا تُطفي ، وأنهم فارقوا
بهذا أهل العلم الثقات في هذه البلاد ، ممن بارك الله فيهم ، وانتفع بهم القريب
والبعيد ، وكانوا يفرحون بأي خير ينشأ ، ويشدون من أزر فاعله ويحسنون الظن به
مادام لم تظهر منه مخالفة ، ويسددونه إذا أخطأ أو انحرف ، دون أن تستولي عليهم
" الوساوس " و" الظنون " التي استولت على هؤلاء ؛ ممن يصدق فيهم قول الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تظن وتقتضي * على الظن أردتك
الظنون الكواذب
وأن العلماء وإن بينوا فساد
التحزب لغير الحق ، وأنكروه على أهله ، إلا أنهم لم يقفوا حجر عثرة أمام انتشار
الخير ، أو يبالغوا في هذا الأمر ، ويضخموه ، في مقابل نشر العلم النافع ،
والتصدي لأهل الفساد من المنافقين .
ومن الحل : أن ُتنبه الدولة إلى أن غلوّ هؤلاء لن يجلب من شباب البلاد سوى
الغلو المضاد - كما هو مشاهد - نكاية بهذه الفئة الظالمة ، وأعرف كثيرًا من
الشباب الذين لاعلاقة لهم بالحزبية ، بل ينكرونها ويبغضونها ، لكنهم يحبون
الخير وانتشاره ، ويحبون كل داعية له ؛ مع عدم انسياقهم مع أخطائه ؛ إلا أنهم
لم يسلموا من هذه الفئة " الموسوسة " التي ألجأتهم لمواجهة الغلو بالغلو .
ولهذا ينبغي على الدولة - وفقها الله - أن لا تُعول في علاج الانحراف على هذه
الفئة ، وأن تكتفي بالعلماء العقلاء ممن يعالجون الأمور بحكمة و " ديانة "
لايبتغون من أحد جزاء ولا محمدة .
بقي أن يقال بأن هذه الفئات الخمس - وإن علت أصواتها - إلا أنها قليلة
العدد كما سبق ، وأن أهل هذه البلاد - ولله الحمد - قد عافاهم الله من مسلكهم
جميعًا ، ووفقهم للطريق المعتدل الذي يدعوهم لإنكار أفعال " الفئة الضالة "
والتحذير منها ، وإنكار التحزب ، وإنكارالعلمنة والفساد ... وأيضًا إنكار
واستسماج أفعال الفئات الخمس الآنف ذكرها .
وحُقّ أخيرًا أن تقول هذه البلاد للجميع
:
وكلا يدعي وصلا بليلى * وليلى لا تُـقر لهـم
بذاكا
بل تُقر للمخلصين من أبنائها ، الحريصين على "
دينها " و " أمنها " ، الفرحين بكل قول أو فعل يقضي على أسباب الفتنة فيها ..
أسأل الله أن يجعلني وإخواني منهم .
والله الهادي والموفق .