يتردد عند كثير من
الكتاب هذه الأيام الحديث عن " الوطنية " ، والتغني بحب الوطن ، دون ضوابط من
البعض تمنعه عن الخلط بين الحب " الشرعي " للوطن المسلم ، بالحب غير الشرعي .
ولاأذيع سرًا إذا ما قلتُ بأن لفظة " الوطنية " غير محببة لدى كثيرين ؛ بسبب
ارتباطها أول نشأتها بالفكرة الانعزالية التي تقيم حاجزًا بين أبناء الإسلام
إذا ما اختلفت أوطانهم ، وتُطغي حبهم لأوطانهم على حبهم لدينهم ؛ حتى قال
قائلهم في وطنه :
ولو أني دُعيتُ لكـنتَ ديني ***
عليه أقابل الحتــم المــجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي *** إذا فهتُ الشهادة والمتابا !
وهذه " وثنية " لا " وطنية " ؛ لا
أظن مسلمًا يرضاها لنفسه - والعياذ بالله - .
وللفائدة ؛ فهذه الدعوة الوطنية "
الوثنية " ابتدأت - باعتراف أحد دعاتها وهو الدكتور محمد عمارة - منذ الحملة
الفرنسية على مصر ؛ يقول الدكتور : ( لقد كان الناس في مصر يفكرون تفكيرًا
إسلاميًا يعرف الملة ولا يعرف الوطن ولا القومية ؛ فسلكت الأفكار الوطنية أو
القومية التي ألقى الفرنسيون بذورها في تربة مصر إلى عقول الناس )
( 1 )
ثم ازدادت هذه الفكرة الوثنية
اشتعالا بسبب النصارى العرب - سواء القادمين من الشام إلى مصر أ الأقباط -
فنفخوا فيها ونشروها ؛ لأنها تحقق لهم مصالحهم - كما لا يخفى - . ثم سرت في
معظم بلاد المسلمين - للأسف - برعاية استعمارية ؛ يستفيد منها العدو في عزل
بلاد المسلمين عن بعضها البعض ، وتشتيتها من خلال هذه الدعوة الجاهلية .
ويزداد الأسف ؛ عندما نرى بوادر
لهذه الدعوة تسري إلى بلادنا من خلال كتابات هنا وهناك
؛ تحاول لبس الحق بالباطل ؛ وتعيد هذه الفكرة جذَعة في بلاد التوحيد ؛ في
محاولة لصرف ( المملكة العربية السعودية ) عن دورها الإسلامي العظيم المنتظر
منها في قيادة المسلمين إلى كل خير .
لذا ؛ فقد أحببت أن أنتقي ما وقفت
عليه من عبارات للشيخ العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - ؛ يوضح فيها الفروق بين
الحب الشرعي للوطن ، والحب الجاهلي ؛ لعل الله ينفع بها .
يقول الشيخ في شرح حديث " وإذا
استنفرتم فانفروا " :
( ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مره واحدة ؛ يجاهَد أعداء
الله ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن لأنه وطن ،
لان الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر ، حتى الكفار
يدافعون عن أوطانهم ، لكن المسلم يدافع عن دين الله ، فيدافع عن وطنه لا لأنه
وطنه مثلا ، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام .
ولهذا يجب علينا في مثل هذه
الظروف التي نعيشها اليوم ؛ يجب علينا أن نُذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى
تحرير الوطن وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة ، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة
دينية ، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شي ؛ لأن بلدنا بلد دين وإسلام يحتاج
إلى حماية ودفاع ، فلا بد أن ندافع عنه بهذه النية . أما الدفاع بنية الوطن أو
بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ولا ينفع صاحبه يوم القيامة ، وإذا
قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن
الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليُرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال
: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". انتبه إلى هذا
القيد ! إذا كنت تقاتل لوطنك فأنت والكافر سواء ، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي
العليا ممثلة في بلدك ؛ لأن بلدك بلد إسلام ، ففي هذه الحال ربما يكون القتال
قتالا في سبيل الله .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال : " ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله – أي
يجرح – إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك "
.
فانظر كيف اشترط النبي صلى الله
عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله . فيجب على طلبة العلم
أن يبينوا هذا والله الموفق ) .
( 2 ) .
وقال - رحمه الله - في شرح حديث " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في
سبيل الله " :
( ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر ؛ لأنه
أيضا يقاتل من أجل وطنه . والذي يُقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد ،
ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا
على ذلك ، الواجب أن نقاتل من اجل الإسلام في بلادنا .
انتبه للفرق : نقاتل من أجل
الإسلام في بلادنا ، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا ؛ سواء كان في أقصى الشرق أو
الغرب ، فيجب أن تصحح هذه النقطة : فيقال : نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا
أو من أجل وطننا لأنه إسلامي ، ندافع عن الإسلام الذي فيه .
أما مجرد الوطنية فإنها نية
باطلة لا تفيد الإسلام شيئا ، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان
الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن .
وما يُذكر من أن " حب الوطن من
الإيمان " وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب . حب الوطن إن كان
إسلاميا فهذا تحبه لأنه إسلامي ، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك أو الوطن
البعيد عن بلاد المسلمين كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه .
على كل حال ؛ يجب أن نعلم أن
النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلدنا أو من أجل وطننا لأنه
إسلامي لا لمجرد الوطنية ) .
( 3 )
وقال - رحمه الله - عند حديث " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل
الشهداء .." :
( بقي علينا : الذي يقاتل دفاعا
عن بلده ؛ هل هو في سبيل الله أو لا ؟
نقول : إن كنت تقاتل عن بلدك
لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ،
لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا . أما إذا قاتلت لأجل أنها وطن فقط ؛
فهذا ليس في سبيل الله ، لأن الميزان الذي وضعه النبي عليه الصلاة والسلام لا
ينطبق عليه ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة ، والله الموفق ) .
( 4 )
وقال - رحمه الله - تعليقًا على عبارات " النشيد الوطني " لما سئل عنها ؛ فلم
يتوقف سوى عند عبارة " عاش المليك للعلم والوطن " قائلا :
( يُنظر أولا : هل العلم وهو جماد يُخاطب بمثل هذا الخطاب ؟
ثانيا : هل مثلا يقال لله والوطن
، أو عاش المليك للعلم والوطن ؟
ما معنى هذا الكلام ؟ أما قولنا :
عاش المليك فلا بأس أن ندعوا له بالعيش الحميد والحياة الطيبة ، وأن يسدد الله
خطاه وأن يدله على الخير ، هذا لابأس به ؛ بل من منهج السلف الدعاء لولاة
الأمور بالصلاح والسداد ، لكن العبارة الثانية : " للعلم والوطن " ما معنى
للعلم والوطن ؟ هل المعنى عاش للعلم وعاش للوطن ؟ أو المعنى أقول ذلك تعظيمًا
للوطن ؟
والحقيقة إن الذي ينبغي علينا هو
أن نوجه شبابنا إلى التحمس للدين ، وليس للوطن من حيث إنه وطن ، ولهذا ترك
الصحابة أوطانهم في الفتوحات الإسلامية وذهبوا يسكنون الكوفة والبصرة والشام
ومصر ؛ لأن وطن المسلم هو ما يستقيم به دينه ، فكوننا نربي الأجيال على الدفاع
عن الوطن أو ما أشبه ذلك ، دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا ، أو ندافع عن وطننا
من أجل ديننا ، لأن وطننا والحمد الله – أعني بذلك المملكة العربية السعودية –
هي من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله ، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية ،
أي أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر ، بالنسبة لإقامة الدين ، فأنا
أدافع عن وطني لأنه الوطن الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره ، وإن
كان عندنا خلل كثير ، فهذا لا بأس ، أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة ) .
( 5 )
قلتُ : لعل عقلاء هذه البلاد
يدركون الفارق بين الدعوتين ، فيُلحون على المعنى الشرعي الذي يُبرز أن رفعة
وطننا وعزه ، وسبب محبتنا - بل محبة المسلمين له - والدفاع عنه أنه مأرز
الإيمان ، ومنطلق الرسالة ؛ حيث لافخر لنا بغير هذا ؛ مع عدم إغفال تواصلنا مع
المسلمين في كل مكان ، ودعمنا لقضاياهم ، وتصدرنا لها ، فهذا هو - والله - خير
ما يبقى لأهل هذه البلاد ، وهو الذي يُحقق ما يهدف له من يريد نشر المحبة
الحقيقية للوطن ، ويجعل المسلمين يتفاعلون معه . بخلاف المعنى الضيق الذي
لايزيد الأمر إلا سوء مهما بذلنا واجتهدنا ؛ لأن معظم المسلمين - ولله الحمد -
لاينقادون لغير المحبة الشرعية .
مع التنبه والحزم مع كل من يريد بث المعنى
الوثني الضيق للوطنية ؛ الذي لايليق بهذه البلاد ؛ وينطبق عليه قوله تعالى : {
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ؟
ومن الاقتراحات التي أراها مناسبة لترسيخ المعنى
الشرعي لحب الوطن في هذا البلاد ؛ أن نتبنى شعار : ( السعودية .. وطن الإسلام )
؛ ليكون شعارًا لحملة وطنية يتم من خلالها إبراز مكانة هذه البلاد ، ومعنى الحب
الشرعي لها ، واختيار الأفراد المناسبين للقيام بها . والله الهادي ..
-----------------
الهوامش :
( 1 ) الأعمال الكاملة للطهطاوي ، 1/41
( 2 ) شرح رياض الصالحين ، 1/27
( 3 ) السابق ، 1/56
( 4 ) السابق ، 1/285
( 5 ) الباب المفتوح 41-50/ص 37
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع
المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح
الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (6) :
مصطـلح التسـامح
ثقافة التلبيس (7) :
الإسلام دين العدل لا المساواة
ثقافة التلبيس ( 8 ) : (
مصطلح : الإسلام السياسي )
ثقافة التلبيس ( 9 ) :
قولهـم بـ ( نسبيـة الحقيـقـة )
ثقافة التلبيس (10) :
مصـطـلـح : " الآخـر " ..!
ثقافة التلبيس (11) :
قولهم:لابد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!
|