|
أشير إلى فتوى
أَخي الكريم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي - هداه الله - ، كما نشرتها مجلة
البلاغ الكويتية في عدديها
(1638) الأحد 24 صفر 1426هـ
الموافق 3 أبريل 2005م للسنة (36) ، والعدد (1639) الأحد 1ربيع الأول 1426هـ
الموافق 10 أبريل 2005م ، حول عمل المرأة السياسي وحكم الإسلام في ذلك .
لقد ابتدأ فضيلته كلمته بقوله : "
فالإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على
قدم سواء . " فهذا حكم عام مطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من
نصّ من الكتاب والسنة ، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد
النبوّة . إِنّ النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة التي أتت بها الفتوى
دون أي قيود ، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة ، أو بتوافر
ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة ، والذي تكون
فيه كلمة الله هي العليا . ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا
الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود ، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة
له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة محمد
صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين ، وسائر فترات التاريخ التي التزم
فيها المجتمعُ الإسلامَ . نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمارسن النشاط
السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء ، ولا نساء الخلفاء الراشدين ، ولا نساء
العصور التي تلت ، ولا نجد هذه الدعوة التي تطلقها فتوى فضيلته إلا في العصور
الحديثـة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار
المسلمين .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث
من أصحابه في الحديبية ، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به ، فهذه حالة طبيعية
في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه ، وأن يستشيرها في
ذلك ، وأن يستمع إلى رأيها ، فإن وجد فيه خيراً أخذ به ، وإن لم يجدْ تركه .
هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام ، ونتأسى برسول الله صلى
الله عليه وسلم ونسائه في ذلك ، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها
بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط
السياسي .
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ
مساوية للرجال على قدم سواء ، وكذلك سائر النساء لم يعرف عنهن هذه المشاركة
المساويةً للرجـال في المجتمع المسلم . فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح
لإطلاق حكم عام .
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
قوله ( يا أيها
النبيُّ قل لأزواجـك إن كنتُنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أُمتعكنّ
وأسّرحكنّ سراحاً جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله
أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ) ، لم يكن الأمر أن نساء النبي يتطلّعن إلى
الزينة والحليّ والمتع الدنيوية ، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء . لقد كنّ
يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر ، ولكن حياة النبيّ صلى الله
عليه وسلم كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين ، فأردن
المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات ، لا مستوى الملوك والرؤساء .
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم
، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك ، وإنما
ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ
أُمهات المؤمنين ، لهن هذه الحرمة العظيمة والمنزلة العظيمة . فجاءت هذه الآيات
الكريمة لتذكر المسلمين ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم والنساء المؤمنات
بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام : نهج الدار الآخرة وما
يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات . نهجان
مختلفان :
نهجـان قـد ميّـز الرحمن بينـــــهمـا *** نهج
الضلال ونهج الحقّ والرشـَـدِ
لا يجمـع الله نهج المؤمنـين على *** نهـج الفساد ولا حقّـاً علـى
فَنــــَـدِ
ولقد وَعَت أمهات
المؤمنين هذا التذكير ، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة ، ليكُنّ بذلك
القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر .
ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء ، الطباع التي فطرن عليها
يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف .
ولقد خلق الله المرأة لتكون
امرأةً ، وخلق الرجل ليكون رجلاً ، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة
في جسمها ونفسيّتها ، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته ، ومازال
العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء .
وعلى ضوء ذلك ، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً ،
وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً ، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له ،
حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي ، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته وقد
عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً .
وهناك حقوق
مشتركة بين الرجل والمرأة . فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظـلال المودّة
والسكن والرحمة ، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل .ومن حق
المرأة أن تتعلم لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ، رجلاً كان أو امرأة ":
طلب العلم فريضة على كل مسلم " . ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرسة للنساء ،
وطبيبة للنساء ، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج
الله وكلمة الله فيها هي العليا ، دون أن يتشبّهْن بالرجال : فعن ابن عباس رضي
عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم : "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال
، والمتشبّهين من الرجال بالنساء " وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى
الله عليه وسلم قال : " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء "
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج
الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية ، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن
المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام ، إلا إذا نزعنا إلى
نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا ، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها
لزوجها ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد
لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله عزّ وجلَّ
عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ... " إلى آخر الحديث
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من
حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم ، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع
الإسلامي وأساسه ، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها ، لا تتركهم
للخادمات وغيرهن .
وأعجب من حديث أخي الشيخ د . القرضاوي في حديثه وفتواه من أنه لم يشر
إلى الأسرة والبيت وواجب المرأة فيه ، وأَثر عمل المرأة السياسي على جو الأسرة
وحقوق الأطفال وحق الزوج .
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة ، دون
أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً ، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام ولم يبرزه
لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة . فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج
الإسلام ، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض .
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات ،
مفتيات موهوبات . ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام ،
فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة .
والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة ، فهي أحرى أن تصبح اكثر تمسّكاً
بقوله سبحانه وتعالى :
{.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ... }
ومما يثير العجب حقّاً أن
الرجل الشيوعي جوربا تشوف ، أدرك خطورة غيـاب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه ،
واجباتها التي ليس لها بديل . فلنستمع إلى ما يقوله :
" ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها
المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة ، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا
بديل عنها مربّية للأطفال " .
ويتابع فيقول : " ... فلم يعد لدى المرأة
العاملة في البناء وفي الإنتاج وفي قطاع الخدمات وحقل العلم والإبداع ، ما يكفي
من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية ، كإدارة المنزل وتربية الأطفال ، وحتى
مجرّد الراحة المنزليّة . وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان
والشباب ، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية ، إنما يتعلّق بضعف
الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية ... "
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج ، انطلقوا كما نرى ، ولو
متأخرين ، من البيت ، من الأسرة ، من دور المرأة في البيت ، الدور الذي لا بديل
له . ونحن المسلمين ، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد
مسؤوليات الفرد ، الرجل والمرأة ، ثم البيت والأسرة ، تركنا ذلك وقفزنا لنبحث
في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة ، أو رئيسة
شركة ، ونضع من أَجل ذلك قانونا عاماً مطلقاً دون قيود : " الإسلام لم يفرّق
بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية . " ! وحسبُنا تطبيق الصحابة
والخلفاء الراشدين ، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية ؟! أم أن
الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها
من حقوقها ؟!
لا نقول إِنّ المرأة عامة ، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات
الكبيرة بحكم كونهنّ نساء . لا نقول هذا . ولكن نقول إن الله الذي خلق الرجل
والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة ، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ صلى
الله عليه وسلم ، وفي عهد الخلفاء الراشدين ، وفي عصور كثيرة أخرى .
ولقد تعارض حديث د. القرضاوي بين أول كلامه ، و بين ما ورد بعد ذلك
في ص34 ، فأول الكـلام كان حكماً مطلقـاً دون أي ضوابـط أو حدود : " مساواة
المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية " !! ثم يقول بعد ذلك : " ... وليست
كل امرأة صالحة للقيام بعبء النيابة ... " !! ثم يقول : " ولكن المرأة التي لم
ترزق الأطفال وعندها فضل قوة وعلم وذكاء ، والمرأة التي بلغت الخمسين أو قاربت
..." ، فأصبح هناك شروط كثيرة تتناقض مع صيغة الحكم العام المطلق الذي ورد في
مستهلّ الفتوى . فهل المقصود النساء فوق الخمسين واللواتي لم يرزقن بأولاد ؟!
أما قصة عائشة رضي الله عتها
وخروجها للمطالبة بالقصاص ، وما يقال من أنها ندمت على ذلك ، فلم يكن ندمها لأن
رأيها السياسي كان خطأ فقط . كان ندمها لأنها خالفت نصّ الآية : " وقرن في
بيوتكنّ ... " وقد أكدَّ د. القرضاوي أن هذه الآية
الكريمة خاصة في نساء النبي . فكان أحرى به أن يرى أن خروجها ذاك كان مخالفاً
للنص من ناحية ، وأنّ اشتراكها في فتنة وقتال بين المسلمين لا حق لها به . ثم
يعود ويستنتج من الآية نفسها أحكاماً عامة على المرأة المسلمة لا على نساء
النبيّصلى الله عليه وسلم ، حين يقول : وقد نسي هؤلاء أنّ بقية الآية الكريمة
تدلّ بمفهومها على شرعيّة الخروج للمرأة من بيتها إِذا التزمت ... " .
أما الحديث عن بلقيس ، فلا مانع أن يظهر بين النساء من يملكن مواهب
متفرّدة . فبلقيس لم تكن مؤمنة ، ولم تكن تخضع لنهج إيماني ، إلا بعد أن أسلمت
والتزمت ، فلا يصحّ الاستدلال بها ، وهي على كفرها ، على حقوق المرأة في
الإسلام . وإلا فلنستشهد بكونداليزاريس ، وجولدا مائير
!! وغيرهن من النساء غير
الملتزمات بالإسلام ، ولا مجتمعاتهنّ ملتزمة بالإسلام . فمثل هذا الاستشهاد أرى
أنه لا يصح أصلاً . وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال ،
فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة ، وتترك قواعد
الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات ولا مجتمعاتهن ملتزمة بالإسلام .
وغفر الله لمن قال ، كما نشرته إحدى الصحف : " إنّ الرسول صلى الله
عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير ، أنديراغاندي ،
تاتشر ، ما قال حديثه الشريف : " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " !! فالمؤسف
أن من الناس من يعتبر أن هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن . عجباً كل العجب ! هل
أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح ! وأين قوله سبحانه وتعالى :
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من
فضّةٍ ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً
وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } ؟
نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح . ونعمت القوّة
والسلاح والصناعة للمؤمنين .
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج
بقواعد شرعية في الإسلام .
أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم
امرأة " ، فالحديث يرويه البخاري وأحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجة والترمذي .
ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص . وإنّ مناسبة الحديث
ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص . ولا يعجز الرسول
صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص . ولكن كلمة قوم
نكرة تفيد العموم ، وامرأة نكرة تفيد العموم ، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديـث
بما لا تحتمل اللغة ، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل .
ويقول فضيلته : " إذا كانت المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه ،
فإنها مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه "!
وهذه أيضاً قاعدة عامة لا يجوز أن تؤخذ على إطلاقها .
نَعم ! إن المرأة مطالبة بذلك كالرجل . ولكنّ الله سبحانه وتعالى
جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة ، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل . وذلك
حتى في أركان العبـادة ـ في الشعائر ـ فصـلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في
المسجد ، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت . والجهاد فرض على
الرجال في ميدان القتال ، وليس فرضاً على المرأة ، وجهاد المرأة في بيتها
ورعايته ورعاية زوجها :
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقالت : يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك ! هذا الجهاد كتبه الله على
الرجال ، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون . ونحن معشر
النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك ، وقليل منكنّ
يفعله " .
وعن أنس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو
بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى "
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " وفيه : " ... والمرأة راعية على بيت
بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم "
وعن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال :
نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة "
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات
والأحاديث والممارسة والتطبيق ، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت ، ويبقى
للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل ، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور
المرأة .
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية
والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل . نهجان كما ذكرنا مختلفان .
ولكن يبدو أن بعض المسلمين اليوم يريدون أن يبيّنوا أن الإسلام ديمقراطي وأنه
علماني ، ففي مؤتمر إسلامي في استوكهولم أخذ داعية مسلم يدعو إلى الديمقراطية
وأنها من الإسلام ، وفي باريس في مؤتمر إسلامي آخر قال داعية إن العلمانية
مساوية للإسلام في مقصودها . وبعض الأحزاب الإسلامية أعلنت : لا تقولوا عنا
إسلاميون نحن علمانيون !
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف
غربية وأمواج تكاد تكتسح . ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها
الكريم الذي وضعها الإسلام فيه ، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته . ونكاد
نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة . إن أفضل
ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن
أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها
وحفظ لها شرفها وطهرها ، ونعرض الإسلامَ كما هو وكما أُنزل على محمد صلى الله
عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين .
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء ، حيث
لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا
في نصوصه ولا في ممارساته . وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج
في أجواء لم يصنعها الإسلام . المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين
جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم . أما المؤمنات فيصلحن
في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن
. دور بيّنه الله للنساء وللرجـال لا نجده في الديمقراطية ولا في العلمانية ،
ولا في تاريخ الغرب كله .
نعم ! إن أول من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة
رضى الله عنها . ولكنها بتصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها
في رسالته ، فلم تنطلق خديجة رضي الله عنها في أجواء النشاط السياسي أو ميادين
القتال أو مجالس الرجال . وكذلك كانت سمية أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها
، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام . والنساء اللواتي قاتلن في أحد أو
حنين ، كان ذلك في لحظات عصيبة لا تمثل القاعدة في الإسلام ، كما بيناها قيل
قليل ، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء
كالرجال ، وإنما كنّ أول من التزم حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسوله .
المرأة التي قامت تردّ على عمر رضي الله عنه في المسجد - إن صحت
القصة - ، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم . وهو جو يختلف عن المجالس
النيابية اليوم ، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم . وهذه المرأة نفسها
لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها ، وكثير من المسلمات اليوم
يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة .
ولقد سبق أن علّقتُ على قصة أم سلمة وقصة بلقيس . ولكنَّ هذا العرض
الذي تفضل به فضيلة الدكتور القرضاوي يفرض علينا سؤالاً يلحّ علينا ، ذلك
السؤال : لماذا نلتقط حادثة فريدة من هنا لم تتكرر ، وحادثة أخرى كذلك لم تتكرر
، حوادث لا تمثّل قاعدة عامة في الإسـلام ، وبعضها أو كلها كانت في ظروف خاصة
تتقيّد الحادثة بها ، لماذا نلتقط هذه الحوادث ونضع بناء عليها قانوناً عاماً
لم يرد في الكتاب ولا السنّة ، ولا في التطبيق في عصر النبوة الخاتمة والخلفاء
الراشدين ، العصرين اللذين أُمرِنا أن نتبعهما ، كما جاء في الحديث الشريـف
الذي يرويه العرباض بن سارية : " ... عليكم بسنتي وسنة الخلفـاء الراشدين
المهديين من بعـدي عضوا عليها بالنواجذ ... "
وأتساءل عن السبب الذي يدعو
فضيلته إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية ! لقد أصبح لدينا
تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن ، فلننظر ماذا قدّمت للأمة
المسلمة ، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها ، وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في
هزائم ، وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة
الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة
والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية ؟!
وبصـورة عامة ، فإنّ هذا الموضوع : مساواة المرأة بالرجل كما يقول
بعضهم : " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل " ! هكذا في تعميم شامل ، شاع
هذا الشعار في العالم الإسلامي ، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه . وكذلك
: مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية " ، هذا كله موضوع طرق
حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلاميـة ، مع تسلل
الديمقراطية والعلمانية ، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية .
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تدرس وتراعى عند دراسة نزول المرأة إلى
ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من
ناحية ، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه . والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط ، فقد
أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور وإلى التورط في
علاقات غير كريمة .
وكذلك فنحن لسنا بحاجـة لنزول المرأة إلى الميادين ، ففي الرجال عندنا فائض ،
والرجال بحاجة إلى أن تـدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام .
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة ، فعندما يُطلق هذا ويباح ،
فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام و
بالحجاب و باللباس عامة .
إن إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة ، والتفلّت في مجتمعاتنا
واضح جليّ ومتزايد ، دون أن ينفى هذا وجود بعض النساء الملتزمات ، إن إطلاق هذا
الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها .
أولى من ذلك : علِّموا الرجل دينه ليؤمن به ويلتزمه ، وعلموا المرأة دينها
لتؤمن به وتلتزمه ، فسيعرف الرجل المسلم الملتزم حدوده وميادينه ، وستعرف
المرأة المسلمة الملتزمة حدودها وميادينها ، ويستغنون عندئذ عن كثير من الفتاوى
.
وإني لأتساءل : لأيّ مجتمع تصدر هذه الفتوى ؟ ! ، لأيّ رجل وأي امرأة ؟! هل
المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي
. أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً ، ليطلق فيه مثل هذه الأمور ، وهل
هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله .
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن ، وكلها منضبطة بقواعد
الإسلام مثل المدرسات والطبيبات ، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو
الاختلاط ، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة .
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في
هذا الميدان أو ذاك . وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى
المصانع وسائر الميادين الأخرى ، كما نراها في العالم الغربي .
وأخيراً أقول .. : قبل أن نطلق هذه الآراء اليوم ، فلنبن الرجل ولنبن المرأة
ولنبن المجتمع المسلم الملتزم بالكتاب والسنة حيث تكون كلمة الله هي العليا .
هذا المجتمع سيكون أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة .
وكذلك أتساءل لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها ، ألا تنظرون إلى
الرجل وحقوقه . في عالمنا اليوم فقد كثير من الرجال حقوقهم ، فلماذا تكون
الضجّة على حقوق المرأة وحدها ، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل .
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج
رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل .
فلنبنِ الأمة ، فلنبنِ الرجل والمرأة والبيت المسلم والمجتمع المسلم الملتزم ،
ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا
محمد وآله وصحبه وسلم ..