ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيـد الخدري – رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – قـال : ((كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ،
ثم خرج يسأل ، فأتى راهبًا فسأله فقال له : هل من توبة ؟ قال : لا . فقتله ،
فجعل يسأل ، فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت ،فنأى بصدره نحوها
، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي ،
وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجد إلى هذه أقرب
بشبر ، فغفر له)) ، رواه البخاري .
ففي هذا الحديث إيقادٌ لشموع الأمل ، وفتحٌ لأبواب التوبة ، ووأدٌ لهاجس اليأس
من رحمة الله مهما كانت ذنوب المرء وخطاياه !!
فالله تبـارك وتعالى يتوعد وعيداً تهتز له الجبال ، ويشيب له الولدان ؛من قتل
نفساً معصومة بلا حق ، كما في قوله تعالى : ((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)) ، فكيف يكون الحال بمن قتل مئة
نفس ظلماً وعدواناً ؟!!
ومع ذلك يفسح المجال واسعاً ، والطريق سالكاً ، أمام مجرم أزهق مئة نفس ، وفجع
مئة أسرة ، ليتوب ويفتح صفحة جديدة يصطلح فيه مع ربه الروؤف الكريم !
إذاً ألسنا أولى بمغفرة الله من هذا السفاح المحترف ؟!
إنه ليس في الوجود ذنب مهما عظم ، وليس في الأرض خطيئة مهما كثرت إلا وهي
تتضاءل وتتصاغر أمام مغفرة الله وسعة رحمـته التي لا حدود لها متى اعترف المذنب
بذنبه وأقر بخطيئته ، وتاب وندم حياءً وإجلالاً لسيده ومولاه ! وفي الحديث
القدسي الشريف الصحيح : (( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني
لا تنشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )) ، فأي كرم بعد هذا ؟
وإنها لفرصة – والله – لكل المذنبين والمقصرين – لاسيما في هذا الشهر الكريم –
أن يتخلوا عن عنادهم وغرورهم ، ويتخلصوا من ذنوبهم وأخطائهم ، ويذرفوا دموع
الندم ، ويطلقوا آهات الحسرة فرقاً من الله ، ويعلنوها صريحة مدوية : رب إني
ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ؛ ولا يغفر الذنوب إلا أنت ؛ فاغفر لي مغفرة من عندك ،
وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم !
إن من أفدح أخطائنا - نحن المقصرين
المذنبين – أمرين اثنين :
أولاهم:
استعظام ذنوبنا أما رحمة الله وعفوه .
متناسين نصوصاً تستفيض كثرة وشهرة تدل بأن رحمة الله ومحبته للعفو والصفح تتسع
لذنوب الخليقة كلها ، ولو كانت على قلب أفجر رجل خلقه الله ، متى جاءوا تائبين
نادمين ، وأنه تعالى يفرح بتلك التوبة فرحاً يفوق الوصف ويعجز الخيال .
ثانيهما :
تسويف التوبة وطول الأمل .
وهذا التسويف وطول الأمل أفقدنا توقير الله وخشيته ، وجرَّأنا على الاستكثار من
الذنوب بلا عد ولا كيل ، وجعلنا ألعوبة الهوى ، وأضحوكة الشيطان .
فليس عيباً أن نخطئ ونذنب ؛ فهذه طبيعة البشر ، ولكن العيب هو الإصرار على
الخطأ إما يأساً من المغفرة والرحمة ، أو الاغترار بسعتهما ، وكلا طرفي قصد
الأمور ذميم !!