من يتأمل في الأخطاء التي تقع فيها الشرطة والدفاع
المدني وغيرها من القطاعات الحكومية ، يجد تعامل الناس مع أكثر هذه الأخطاء
تعاملاً موضوعيا وعقلانيا ومعتدلا، فهم :
أولاً : يتثبتون من الخطأ ، ويتحققون من مصدره.
وثانيا : ينسبون الخطأ لصاحبه .
وثالثاً : لا يكون هذا الخطأ سبباً للطعن في الجهاز
الحكومي ، أو الاستهانة به ، فضلاً عن الدعوة إلى إلغائه أو تهميشه.
ورابعاً: تراعي وسائل الإعلام حرمة هذه القطاعات ،
وتحفظ لها مكانتها وقدرها ، فتجعل مساحة ضيقة للنقد الموجه لهذه القطاعات ، أو
لأفرادها ، وتحجر على مساحة القصص والأخبار الشخصية من مواقف بعض الناس مع هذه
القطاعات.
وهو تصرف حكيم في الجملة ، ويدل على وعي ونضج، لا تكون فيه هذه القطاعات في
معزل عن النقد والتصحيح ، ولا يجعل من هذه الأخطاء ذريعةً للطعن في مصداقية هذه
القطاعات ، أو هز ثقتها لدى المجتمع.
هذا التصرف الحكيم يتشكل في نماذج كثيرة ، من مراعاةٍ لأسلوب ، وتثبتٍ من خبر ،
وتخفيفٍ من حدة ، ومطالبةٍ بالعدل .. الى غير ذلك .
إلا أن هذه الموضوعية والعقلانية تنسى نفسها ، وتنقلب عكساً فتقف على رأسها ،
وتتشكل بلونٍ وشكلٍ جديد حين تكون هذه الأخطاء منسوبة إلى قطاع حكومي هو ((
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )).
فأولاً : خذ ما شئت من الأخبار و ( الحكوات ) التي
يتناقلها الناس ، ثم يصدقها من اختلقها.
وثانياً : خذ الوقاحة وسوء الأدب ، والنقد السوقي
المنحط في التعامل مع هذه الأخطاء.
وثالثاً : خذ الاستغلال البشع والدنيء من وسائل
الإعلام لتلك الأخطاء، فتعقد المؤتمرات ، وتحقق الدراسات، ويستنفر الصحفيون
للبحث عن أي شيء قيل في هذه المشكلة ، حتى إن المحاكم لتضج يومياً بالآلاف من
المشكلات والخصومات ، فما أن يدخل رجل الهيئة باب المحكمة في الظهر لقضية ما ،
حتى تجده خبرها وتفصيلها والتوقعات والتحليلات عنها في صباح الغد وعلى الصفحة
الأولى لبعض جرائدنا!
قبل أسابيع قليلة .. حدث خلاف بين بعض المنتسبين لجهاز الحسبة ، وأحد القضاة في
البلد ، بدأت بشكوى ثم بشكوى أخرى وانتهت بعد أيام ، وهي قضية من ملايين
القضايا التي تملأ المحاكم ، غير أن الصحافة النزيهة عقدت لها متابعات ولقاءات
واهتمام كبير وبـ ( البنط العريض ) على الصفحة الأولى وبشكل دوري!
فهل المشكلة تستحق معشار هذا ؟
وهل الخلافات الأخرى في القطاعات المختلفة تعطى ذرة من هذه الاهتمام..؟
ورابعاً: تكون هذه الأخطاء ذريعة لبعض الناس ليتشفى
من هذا القطاع الحكومي ، فمن مُطالبٍ بإلغاء الهيئة ، أو دمجها ، أو محاسبة كل
أفرادها ، أو ا لتضييق عليها ، أو غيرها من الأمور التي يراها عقلانية ، ولو
قالها في جهاز غير هذا الجهاز لعده الناس ضرباً من الجنون .
وخامساً : ينسى هذا الصنف من الناس جميع إنجازات
الهيئة ، وجهودها العظام ، وما قدمت وبذلت مع قلة الإمكانيات ، وصعوبة العمل ،
وضعف المحفزات.
هو تناقض صارخ ، وتنافر فاضح يدركه كل من كان عاقلاً من القوم ، فيبتدر بسرد
بعض المبررات والأسباب التي يحاول بها أن يخفف من شناعة هذه الازدواجية ، فجاءت
كعذر أقبح من ذنب ، كلما خرج مبرر لعن أخاه ، من غير أن يفصح لنا ما سر هذا
التقلب.
قالوا مرة : الهيئة تستغل الدين ، وتخادع السذج من الناس.
ومرة لأن تتعدى على الحقوق.
وثالثة.. ورابعة..
ولا زالت الحقيقة غائبة.
الواقع والحوارات الميدانية تثبت أن سر هذا التناقض يرجع
إلى سببين اثنين ، كل سببٍ يضم تحته طائفة من الناس:
السبب الأول : عدم الاعتراف أصلا بشعيرة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، والاعتقاد أن ذلك مخالفاً لحرية الرأي، وأنه تخلف
ورجعية ، ونحو هذا من الانحرافات المصادمة لقيم الإسلام ومنهجه العام ، فموقفهم
من أخطاء الهيئة موقف ناتج عن انحراف سابق ، لا يمكن أن نعالج الخلل الموضوعي
مع وجود هذا الانحراف.
فهذا الصنف يؤمن بأهمية الشرطة والدفاع المدني وغيرها إدراكا منه لدورها
وأثرها، وبالتالي يتعامل مع أخطائها بموضوعية ، وأما جهاز الهيئة فهو يمارس
عملاً دينياً شرعياً، وهذا الصنف لا يؤمن أصلاً بأن الأحكام الشرعية تدخل ضمن
نطاق الحياة ، أو يؤمن بها على غبشٍ ودخن.
وأنتم تعرفون جيدا من الصنف الذي يحتبي في هذا عباءة هذا السبب؟
السبب الثاني: أن جهاز الهيئة يقف في وجه شهوات بعض الناس ، ويحول دون
عبثهم ومجونهم، ويلاحق كل مجاولات الإغراء والفساد ، فيهيج ثورانا ضد من يحول
بينه وبين شهوته ،
أضف لذلك : أن المشكلات التي يتعامل معها رجال الحسبة قضايا تتعلق في كثير منها
بالعرض والشرف ، ومن العسير جدا على الشخص أن يعترف بحقيقة فعله ، فلا حيلة من
أساليب ( كنت مع زوجتي ، وخرجت مع أختي .. ).
أخيراً أقول ، وليحتملني من لا زال متحملاً :
إن جهاز الحسبة قائم على حفظ الدين ، وحماية العرض ، وصيانة الحرمات ، والمسلم
النظيف يدرك جيدا أهمية العمل العظيم الذي يقوم به رجال الحسبة ، ويستشعر الأثر
الكبير لهذه الجهود ، فلا يرى من المنطق والعقل أن ينسف كل هذه المجهودات لأجل
بعض أخطاء رجالها ، وأما من كان يستقى من منابع متكدرة فلا غرو أن لا يتقبل
حياة شرعية تريد للناس جوا نقياً صافيا.