الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ...
أما بعد :
فيقول المولى سبحانه وتعالى ((إقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من
علقٍ ، إقرأ وربك الأكرم ، الذي علم الإنسان ما لم يعلم)) ...
فبعد أن فجر الإنسان طاقات عقله ، الذي منحه له ربه ، وصار يعلمُ ما لم
يكنْ يعلمه من قبل ، وأصبح هذا الإنسان يخرجُ لنا كُلَّ يوم بجديدٍ من
هذه الاختراعات التي سهلت كثيراً من أُمور الحياة ، وصار هذا الإنسان
يتمتع بنعم الله تعالى في الأرض .
ومن هذه النعم التي أنعمها الله علينا في هذا الزمان ، هذه القفزةُ
الهائلة في عالم الاتصالات ، والتي لم تكن في أسلافنا من قبل ، وفعلاً
علم الإنسان ما لم يعلم .
هذه القفزة العظيمة ، كانت خدمة الاتصالات لشركتي المدار الجديد ،
ولبيانا ، اللتان هما من نِعم الله علينا ، والتي وجب علينا جميعاً أن
نشكُر الله تعالى عليها ، وأن نسخرهُما في طاعته ، وقد وعدَّ سبحانه
بالمزيد إن شكرناه على نعمه ((وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم)) ...
وأيضاً من فضل الله علينا أن قامت شركتي الاتصال : المدار الجديد ،
ولبيانا ، بفتح ميزة جديدة ، ألا وهي خدمة تحويل أو نقل الرصيد .
وبعد ذلك ، قامت كثيرٌ من المحلات التجارية ، بِبيع الدينار والدينارين
من الرصيد الذي قيمته من شركة الاتصالات عشرة دنانير .
ولكن المسألة ليست في مضمون هذه الميزة ، بل إن المسألة أن أصحاب هذه
المحلات التجارية صاروا يبيعون الدينار والدينارين بقيمةٍ تزيدُ قليلاً
عن قيمة الرصيد .
وبقى هذا العمل جارياً فترة من الزمن ، إلى أن ظهر سعادة الدكتور
الصادق عبد الرحمن الغرياني عضو هيئة التدريس جامعة ناصر سدده الله ،
وأفتى بأن هذه المعاملة لا تجـوز .
وهذا إدعاء ، ومن ادعى أمراً وجب عليه الدليـل .
وقد قام سعادته بتفصيل المسألة في بيانٍ له نُشر في موقعه على الإنترنت
صدر يوم الخميس بتاريخ 15/صفر/1429هـ ، وفصل فيها أيضاً في برنامج
الإسلام والحياة الذي بُثَ يوم الجمعة بتاريخ 16/صفر/1429 هـ .
وتطرق في بحثه إلى كافة الصور الفقهية على رأي المذهب المالكي ،
واستخلص منه على التحريم ، وأن هذه المعاملة ربوية .
وقد كانت لهذه الفتوى أصداءً في الشارع الليبي ، إذا أن هذه المعاملة
منتشرة في جميع الأقطار .
فما كان من بعض الحرصين وفقهم الله إلا بالاتصال بأهل العلم ؛
للاستفسار منهم حول هذه المسألة .
فجاء السؤال أكثر من مرة لفضيلة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام
المملكة العربية السعودية سدده الله .
وسمعته بأذني يُفتي بجواز هذه المعاملة ، وأنه لا حرج فيها ، ولله
الحمد والمنة .
وليس سماحته وحده من رأى بالجواز ، بل إن كثيراً من طلبة العلم
المعروفين بسلامة المعتقد واستقامة المنهج رأوا بالجواز .
تفصيل سعادة الدكتور الصادق الغرياني للمسألة :
عندما تطلع على بحث الشيخ الموجود على موقعه عل الإنترنت ، تجده فعلاً
قد فصل في المسألة ، وذلك من حيث بناء الاحتمالات ، والضامن ، وبيع
السلم ... إلى غير ذلك من النقاشات التي قد يدوخ فيها من يطلع عليها ،
خصوصاً إن كان ممن لم يدرس الفقه .
ومما ذكره سعادته في بداية بحثه :
((أن هناك من يقول أن المسألة بيع نقد بخدمة))
قلت : وهذا هو الواقع المعروف في المسألة ، والذي تطرق إليه سماحة
المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ، وبعض طلبة العلم .
ومما ذكره في بحثه :
((لابد من بيان قاعدة عامة وهي أن العقود يُحكم عليها بألفاظها التي
تُعبـر عنها))
قلت : وهنا بدأ الخلاف مع سعادته في المسألة .
وقال أيضاً :
((فإذا كانت شركة الهواتف تُخبر صاحب الرصيد ، تقول له باللسان المبين
، وبالكتب المرقوم على شاشة جواله رصيـدك الآن عشرة دينارات معناه أن
صاحب الرصيد عنده لديها دينارات وليس خدمة))
وقال أيضاً :
((وكذلك من قال لغيره حول لي دينارين من رصيدك بدينارين ونصف لا يُفهم
منه إلا بيع دينارين بدينارين ونصف))
قلت : فهنا يُفهم من رأي سعادته أنه لا يجــوز بيع الرصيد بأكثر من
ثمنه .
مناقشة سعادته فيما توصل إليه :
اعتمد سعادته على آن العقد باللفظ ، والاسطوانة تُخبرك أيها الزبون أن
رصيدك عشرة دينار ، فالحاصل أن الشركة أعطتك عشرة دنانير حكماً على لفظ
الاسطوانة .
فأقول : أن المعتبر في الفقه ، وسعادته أعلم بذلك ، أن العبرة بالمقصد
والمعنى .
فالشركة وإن كانت تُعطي الرصيد بالتقرير النقدي ، لا يعني أنها تؤدي
القيمة نقداً بالدينارات والدراهم .
بل إنها تؤدي القيمة بالدقائق .
وهذا الأمر ليس مُبهماً ولا يحتاج إلى إثبات وتفسير ، فهو واضح ومُفسر
.
والدليل على بطلان القول القائل أن قيمة البطاقة (الكرت) بالدنانير
وليست بالدقائق ، هو أنك لا تستطيع أن تشتري بهذه البطاقة (الكرت)
أشياء أخرى .
بمعنى أن البطاقة (الكرت) إن كان معتمد نقداً لاستطعتُ أن أذهب إلى أي
محل تجاري وأشتري منه أي سلعة بقيمة البطاقة (5 أو 10 دينار) وأعطيه
البطاقة .
ولاستطعتُ أن أخذ سيارتي إلى محطة الوقود وأملأ سيارتي بالوقود وأعطيه
بطاقة التعبئة (الكرت) ....
إلى غير ذلك من التفسيرات التي تُثبت أن قيمة البطاقة ليست نقداً ،
وإنما قيمتها بالدقائق .
وبما أن أثبتنا أن قيمة البطاقة (الكرت) بالدقائق ، وليست نقداً ، نتقل
بعدها إلى نقل جزء من هذا الرصيد (قيمة الكرت) .
فالبائع عنده بطاقة قيمتها (10 دنانير) ، وجاءه زبون وقال له :
أريد رصيداً (2 دينار) .
أعطني رصيداً (2 دينار) .
دزلي رصيداً (2 دينار) .
أرسل لي رصيداً (2 دينار) .
بيع لي رصيداً (2 دينار) .
أنقل لي رصيداً (2 دينار) .
فمهما أختلف اللفظ فنحن نحكم على المعنى .
وفي هذا ردٌ على أن اسطوانة الشركة إن قالت لك أن رصيدك (كذا دينار)
فهذا لفظ ، والمعنى : أن عندك قيمة مكالمات بقدر (كذا دينار) .
الشاهد :
يقوم البائع بإرسال رسالة إلى منظومة الشركة ، يُعلمهم فيها أن يُخصموا
من رصيده (2 دينار) ، ويرسلوها إلى رقم الزبون ، الذي أرسله لهم في
رسالة نصية .
فتقوم منظومة الشركة بما يلي :
1. خصم قيمة الرسالة النصية من رصيد البائع .
2. إرسال رسالة إلى البائع تُعلمه فيها بأن عملية النقل تمت .
3. إرسال رسالة إلى الزبون تعلمه فيها بقيمة رصيده .
نأتي هنا إلى ما الذي إستفاده البائع ؟
البائع خُصم من رصيده قيمة مكالمات قدرها دينارين التي باعهما للزبون ،
وليس خُصم منه دينارين ، وخُصم من رصيده أيضاً قيمة الرسالة التي
إرسالها لمنظومة الشركة .
فهو بالمعنى أدى خدمة للزبون وأعطاه قيمة مكالمات قدرها دينارين .
فتكون العملية بيع خدمة (وهي نقل قيمة الدقائق من رصيده) بمقابل مال
يكون إتفق عليه مع الزبون .
فالحاصل :
أن العملية ليست بيع نقد بنقد حتى نقول عنها ربوية ، بل إن العملية
باللفظ الشرعي بيع منفعة بنقد .
الملخص :
المسألة من باب البيوع (وأحل الله البيع وحرم الربا) .... وهي بيع خدمة
(تحويل دقائق) بمال ، وليست بيع مال بمال ، حتى نقول أن الزيادة لا
تجوز .
فيُستخلص أن للبائع أن ينقل الرصيد بمثله أو بنقص أو بزيادة أو بدون
مقابل .
وأن يُكمل البيع بشروط البيوع وهو التراض ((إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ
منكم)) .
ولحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
((إنما البيع عن تراض))
[صححه الألباني في صحيح الجامع (2323)] .
وأمـا إن جعلنا من لفظ الاسطوانة ، التي تخبرك بقيمة الرصيد ، سبباً في
الاعتماد على أن العملية ربوية ، لأنها تخبرني بقيمة الرصيد نقداً ،
فلا يسعنا في هذه الحالة إلا أن ننتظر من شركة الاتصالات أن تقوم
بتغيير اللفظ إلى دقائق ...
والله المستعان .
أحمد إسكينيد
الخميس 10/شوال/1429هـ