|
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
) .
ماتت جدتي قرة أعيننا ، وسلوى قلوبنا ، ومن لها حقٌ علينا ، فقد أكرمتنا
كثيرا بتفقدها لنا وسؤالها عن صغيرنا قبل كبيرنا وبهداياها الممتعة ، فتلك
سجادة أصلي عليها فأتذكرها بدعوة صادقة ، وذلك ثوب كستني به فأسأل الله أن
يكسوها من ثياب السندس والإستبرق ، وإن كنت أنسى فلا أنسى دعواتها المباركة لي
بصلاح أبنائي وهدايتهم ، فاللهم ثبتها عند السؤال وارزقها الفردوس الأعلى .
ماتت جدتي وتركت أثراً لا يُملأ بعدها أبداً ، ورحلت عنا كسحابة صيف مرت سريعاً
، فلم نهنأ بظلها طويلاً ، ولم ننعم بثمار صحبتها كثيراً ، فقد شغلتنا دنيانا
وألهانا أولادنا ومعاشنا ، فاللهم اجمعنا بها في جنات النعيم على سرر متقابلين
.
ماتت جدتي فغسلتها وكفنتها وقبلت بين عينيها قبلة وداع ونظرت إليها نظرة
أخيرة ، غسلتها بيدين ترتعشان وقلبٍ يضطرب وعينان زائغتان لا تكاد تصدق خبرها ،
غالبت دموعي وتنكرت لقلبي وأرغمت نفسي ، فلمست جسدها الطيب فعجبت من لينوته
وبرودته وكأني أقلبها نائمة ، وقد سكنت روحها وهدأت نفسها وارتخت مفاصلها ، بعد
طول معاناة مع مرض فاجئاها فلم يمهلها ، وكان بها رحمة ونعمة وكفارة لذنوبها
ومحوا لخطاياها، غسلتها وظفرت شعرها كأم تظفر لبنيتها الصغيرة فلا حراك ولا
توجع ولا تمنع .
ماتت جدتي فبكتها أمي بكاء مراً مؤلماً ، فأحرقت دموعها فؤادي ، وأقض
مضجعي توجعها وأنينها وحرقة قلبها ، فاللهم اربط على قلبها وصبّر فؤادها ،
واسلُل فجيعة قلبها ، وارحم ضعفها ، وأملأ قلبها رضى وصبراً واحتساباً ياكريم .
رحلت جدتي فقالوا فلانة رحمها الله ، بعد أن كان يقال شفاها الله وعافها
، فباﻷمس كانت حية ترزق يُرجى لها الصحة والعافية ، واليوم في عداد الموتى
يُترحم عليها ، وكل ذلك بين غمضة عين وانتباهتها يفعل الله ما يشاء ويقدر .
بعدما بلغني الخبر ، فزعت إلى صلاتي ، فشرعت استفتح " اللهم نَقِّنِي من
الْخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ من الدَّنَسِ اللهم اغْسِلْ
خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَد "، تذكرت أني اليوم أدعو بها
لنفسي ، وغداً غيري يدعو لي بذلك ، فتأملت الحياة فإذا هي قصيرة حقيرة هينة ،
لا تساوي شيئاً ، ولا تعدل جناح بعوضة ، فلمَ التناحر والتنافس والتباغض ، ولمَ
التحاسد والتنافر ، وهي دنيا فانية ومتاع زائل وعمر قصير ، ربما نتخاصم فيها
على لحظات غفلة وزلات هوى ، ونتقاطع فيها على كلمات عبرت بلا وعي ، وعبارات
خرجت بلا وزن ، فنظل عمراً لا ننساها ، ودهراً نتجرع مرارتها ، وننسى حالنا مع
العزيز الجبار ، ونغفل عن مآلنا يوم الحشر والمعاد ، ونتكبر على مالك الأرض
والسموات ، ولا نكاد نذكر سكرة الموت وشدته ، ونزع الروح وهيبته ، ورؤية الحق
وملائكته ، وحفرة القبر وضمته ، وسؤال منكر ونكير ورهبته ، فاللهم ثبتنا عند
السؤال وبيض وجوهنا يوم تعرض اﻷعمال ، وآتنا كتابنا بيميننا ، وأدخلنا الجنة
بغير حساب .