|
أحيانا : تسمع عن فتاة صالحة مصلحة ، كانت شعلةً من نشاط ، يجري حب العمل
لدين الله في عروقها ، ويمتلىء فؤادها الغض حباً ورغبةً للدعوة إلى ربها ،
تتحرق لمصائب الأمة وتهتم بالإصلاح وتفكر فيه وتنشغل به .
ولكن ...
حينما تضرب الدفوف معلنةً زواج هذه الفتاة ، لابد وأن تُعلن معها نهاية الحلقة
الأخيرة من سلسلة نشاط هذه الفتاة وحماسها وهمتها في غالب الأحيان .
فينتهي مع زواجها كل شيء يتعلق بماضيها الطيب ودعوتها الخيّرة ، وكأن تراب
النسيان قد أُهيل على دعوتها ووعيها ، فأصبح ماضياً لا يخطر على بالها منه شيء
، اللهم إلا ذكريات حلوة ! ترددها بين حين وآخر ... كنت وكنت ! ! .
أما لماذا تبدل الحال وأصبح زواجها من (الصالح
الخيّر) ! حلقة أخيرة في سلسلة نشاطها وهمتها ؟ !
فذاك سؤال تطول الإجابة عليه ، بيد أني على أي
حال سوف أختصر الحديث في نقطتين أحسبهما داءً يحتاج منا إلى دواء ، ولا أزعم مع
هذا ، أني سأوفيهما حقهما من الإيضاح ، لكن عسى أن تكون هذه الأسطر إشارة ضوء
لمن يستطيع المعالجة .
قعيدة البيت ! !
ثمة رجال ، لا يرون المرأة إلا قعيدة بيت ينبغي ألا يرقى تفكيرها عن شؤون
المنزل ، ولاتخرج همتها وهمومها عن دائرة تلميع الحذاء ، وكي الثوب ! ! .
وربما عاب » هؤلاء « ونقدوا كل من أعطى زوجته من وقته ، فحدثها عن قضايا تتعلق
بحال الأمة ومآسيها ومصائبها ومكر أعدائها ، ويحسب هؤلاء أن إدخال المرأة في
مثل هذه الأمور ضرباً من ضروب تضييع الوقت ، وتشتيت الجهود !
متى يُدرك هؤلاء أن المرأة وإن كانت » قعيدة
البيت « جسمياً ! فليس ضروريّاً أن تكون قعيدته فكراً وحسّاً ؟ ! .
وهي المرأة التي كرمها ربها بالعقل ، وأعزها
بالدين ، وأنقذها من براثن الجاهلية وذلها ! .
ووالله إنه ليحزنك ويحز في نفسك ، عندما تتحدث إحدى زوجات بعض الصالحين الأخيار
عن قضايا مهمة علقت على حبالها رقاب أبناء الأمة ! وأُهدرت بذلك عزتها قبل
ثرواتها ، تكتشف بمرارة ! أن هذه المرأة لا تعي شيئاً من ذلك فضلاً عن أن تعي
أبعاد هذه الأمور ومسبباتها .
لا أدري لماذا يسعى هؤلاء إلى إبعاد المرأة عن عالمهم ؟ ! ولماذا لا يحاولون
تعليمها ، وزرع حب الدين في قلبها ، وإنماء فكرها ووعيها ؟ !
قال (عليه الصلاة السلام) في حديث صحيح : » ياعائشة لولا أن قومك حديثو عهد
بكفر لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين : باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه «
[1].
ترى ما صلة عائشة وهي امرأة جليلة قعيدة بيت بالتغيير الذي هم الرسول بإحداثه
في الكعبة ؟ !
إذ لو كان الأمر بيتيّاً أو على الأقل نسائياً لما تعجبت !
لكن أن يتحدث نبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة ومصباح الدجى فيها ومرشدها
وإمامها وعالمها مع امرأة في أمر قد يظن بعضهم أنه لا صلة لها به ، فإن هذا
والله هو التربية !
وهذا والله هو المربي الذي يريد أن يرتفع بهموم نسائه وهمتهن ؛ لتناطح السحاب
بسموها علواً ورفعة ! !
ولن نعجب بعد هذا إذا علمنا أن هذه (المرأة » قد أصبحت بعد وفاة زوجها ومعلمها
عالمةً يرجع إليها الصحابة فيما أشكل عليهم ؛ قال أبو موسى (رضي الله عنه » : »
ما أُشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً « ! .
وكانت (رضي الله عنها) تمارس لوناً من النقد والرد على بعض اجتهادات الصحابة
علانية ؛ مما جعل الإمام الزركشي يجمع انتقاداتها لبعض فتاوى الصحابة في كتاب
أسماه : (الإجابة في إيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) [*]
.
أما أن يترك الرجل الصالح زوجته في واد ، ويبقي هو وهمومه ونشاطه ودعوته في
وادٍ آخر ! فلتترحم الأمة على إحدى فتياتها المتوفيات ! !
ضيق الخِناق :
ثمة رجال أخيار يعنيهم أمر الأمة وصلاح نسائها ، وقد تجد أحدهم جادّاً في تربية
زوجته وإعانتها على أمور دينها ، وزرع الحماس في قلبها للعمل الخيّر والدعوة
بين صفوف النساء !
لكنك مع ذلك تراه وقد ضيق الخِناق الدعوي على زوجته ، فيرى مثلاً أنه لا داعي
لخروجها مع قدرتها وتوفر إمكاناتها لإقامة درس أو إلقاء موعظة ، أو حتى
الاشتغال بإعداد موضوع مفيد أو كتابة مقالٍ هادف !
أما لماذا ؟ ! فذاك أحسبه راجع لسببين :
(أ)
إما عدم وجود رغبه لديه للتضحية والإيثار بالذات ، مع علمنا أن اشتغال المرأة
بالدعوة والتحصيل والطلب ربما تعارض مع بعض شؤونها البيتية !
وهنا لا بد لهذه المعضلة (عدم التوافق) من حلول يشترك في صناعتها الطرفان :
الرجل والمرأة مع يقيني أن في حديث الرسول (عليه الصلاة السلام) الذي رواه
البخاري » سددوا وقاربوا « نور لمن أراد أن يستضيء به !
(ب)
وإما مراعاة منه أو تماشياً مع بعض العادات الاجتماعية التي نشأ عليها ؛ إذ
يخاف مثلاً أن يُعاب عليه نشاط زوجته الدعوي ، أو ذكر اسمها في المجالس ، أو
ترديد بعض كلامها المنشور أو المسموع .
ولو تأمل لوجد أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) صدع ببعض المبادىء على ما فيها
من مخالفة لمألوف قومه ومعهودهم ! ؛ فلم يكتف الرسول (عليه الصلاة والسلام)
مثلاً بوضع ابنته الصغيرة في حجره ، إنما تعدى ذلك إلى أن يحمل بنات الناس ،
فما أن تولد البنت إلا ويهرع بها أهلها إليه ، ليضعها في حجره . ويدعو لها
بالبركة ! [2].
يفعل ذلك أمام جمع غفير من الناس ، متحدياً ومخالفاً تقاليد البيئة التي يستحي
الإنسان فيها أن يُرزق أنثى ! فضلاً عن النطق باسمها أو التلطف معها والتودد
إليها!.
وكم يأخذك العجب إذا رأيت بعضاً من ناشطات زوجات أو بنات أولئك الذين يتحدون
نقاء المجتمع ، فيرفعون بقولهم أو فعلهم رايات التخريب والعلمنة والفساد في
الأرض ! فكم تحمّل هذا أو تلك تبعات مجاهرة ابنته أو زوجتهِ بفسادها وخُبث
طويتها على صفحات الجرائد والمجلات .
أتظنون المرأة التي خرجت من بين صفوف نسائنا ، لتعلن على الملأ أن الحجاب من
مخلفات عهد التخلف والظلام ! أتظنون هذه تسير وحدها ، ولايوجد خلف ظهرها وليّ :
أب ، أو زوج يسندها ويقوي عزيمتها ! !
قبل النهاية :
أحسب والله أعلم أنه أصبح وجود المرأة الداعية من متطلبات هذه المرحلة التي
تعيشها الأمة وتمر بها ! ، كما أحسب أيضاً أن المرأة الداعية هي أحوج الناس إلى
التربية الجادة والمستمرة !
وإلا فستفتح عينيها يوما لتكتشف أنها أصبحت متداعية لا داعية ! .
------------------------
(1) أرجوا ألا يشم بعضهم من هذه الأسطر رائحة هجوم على مكوث
المرأة في بيتها ! إذ إني للإشارة فقط ما زلت أحفظ وأعي قول الله (تعالى) : ]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [ [الأحزاب : 33] ! .
(2) أخرجه : البخاري في كتاب الحج ، فضل مكة وبنيانها ،
وكذلك مسلم في كتاب الحج ، باب جدر الكعبة وبابها .
(*) هذا الكتاب مطبوع بعناية وتحقيق الشيخ سعيد الأفغاني .
المصدر : مجلة البيان