كثيرة هي المواعظ التي تتحدث عن بر الوالدين ، و كثيرة هي الدروس التي تحكي عن
عقوق الأبناء لوالديهم ، و لكن .. أما من موعظة تحكي عن بر الأبناء ، و عن عقوق
الوالدين لأبنائهم ؟! . ربما تستغربون الأمر ، فما اعتاد الأب و الأم أن يقال
لهما إنكما عققتمـــا ابنكما قبل أن يعقكمـــــــا ، و أنكما تستحقان أن تعاقبا
قبل أن يعاقــب ابنكـما !! .
أيها الأب ، أنت راعٍ و مسئول عن رعيتك ، و أنت أيتها الأم راعيةٌ و مسئــولة
عن رعيتـــك ، و أولادكما أمانة ستُسألان عنها يوم القيامة ، أحفظتماها أم
ضيعتماها . فالولد ليس ملكاً لكما ، ليس جزءاً من متاع البيت تتصرفان فيه كما
تشاءان ، و إنمـا هــو هبــة مــن الله و وديعة استودعكماها ، فهلا اتقيتما
الله فيها ؟؟ ، هلا شكرتما الله على هذه النعمة و أحسنتما التصرف بها ؟ فبالشكر
تدوم النعم ، و شكر الله على نعمة الولد تكون بتربيته و تنشئته على الدين ،
فطرة الله التي فطر الناس عليها .
التربية يا إخوة ليست طعاماً و شراباً و لباساً و غيرها من الأمور المادية ،
فهذه خدمة تقدم للولـــد ، أما التربية فشيء أسمى و أرقى من هذا ، هي رعاية
الولد وفق كتاب الله و هدي نبيه ـ عليه وآلــه الصلاة والسلام - ، و هي العناية
به من جميع النواحي : الجسدية و العقليـة والروحية والوجدانية ، كل هذا وفق
منهج الله . على الآباء و الأمهات ألا يطعموا أولادهم إلا الحلال ، فأيما جسد
نبت من حرام فالنار أولى به ، و أن يعنوا بلياقة أبنائهم البدنية فيعودوهم
الرياضة منذ الصغـر ، و أن يرتقوا بعقولهم و لا يمتهنوها بالسخافات و بكل ما لا
يليق بعقل المسلم الجاد ، و أن يغرسوا في أولادهم حب الله و حب رسوله ـ عليه
وآله الصلاة والســلام ـ و حب القرآن ، و حب الصحابــة و الصالحين ، و حب العلم
و العلماء ، و حب الأخلاق الحميدة ، و يعودوهم بذل المعروف و الخير للآخرين ، و
إغاثة الملهوف ، و التأدب مع الناس ، فقد قال عليه وآله الصلاة والسلام : " ما
نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن " ..[ حديث مرسل ، ابن حجر العسقلاني ـ تهذيب
التهذيــب : 4/49 ] ، و لتحرصوا على ألا يصحب أولادُكم إلا الصالحين ، فالقرين
بالمقارن يقتدي ، و المرء على دين خليله ، و الأخلاق تعدي ، و يجب ألا نغفل عن
نقطة مهمة و هي حسن اختيار الــزوج لأم أولاده ، و حسن اختيار الزوجة كذلك ،
فالتربية تبدأ من هنـــا . بهذا و بحسن الأخذ بالأسبــاب ، و إخلاص النية لله
من قبل ، و بحسن التوكل عليه ، ثم بتوفيقه سبحانه ، ننشئ جيلاً صالحاً سوياً
جادّاً يَعْمُرُ الكوْنَ وفق منهج واضح و صحيح ، بتوفيق الله .
بعد هذا نقول للآباء و الأمهات : إن أحسستم بالعجز ، فارفعوا أكفَّ الضراعة إلى
الله و قولوا : اللهم إنا قد عجزنا عن تأديـب أولادنــا ، فأدبـهم لنـــا . و
لا تنسوا أن تدعوا لأولادكم أمامهم و من ورائهم ، لا أن تدعوا عليهم ، و
أعينوهم على بركم ، و لا تكونوا سبباً لدخولهم جهنم ، أعاذنــــا الله و إياكم
منها . كان أحد الصالحين يخشى أن يطلب من ولده شيئاً فيعصيه ، فيكون عاقا فيدخل
النـــــار !! . أرأيتم إلى هذا الرقي في التربية !! .
ختاما ، أذكر هاتين القصتين لأخذ العبرة ، لعل الله ينير بصائرنـا و يلهمنا
الحكمة في تربية أولادنا . (( جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يشكو
إليه عقوق ابنه ، فأحضر عمر الولد ، و أنبه على عقوقه لأبيه ، و نسيانه لحقوقه
، فقال الولد : يا أمير المؤمنين ، أليس للولد حقوقٌ على أبيه ؟ قال : بلى ،
قال : فما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : أن ينتقي أمَّه ، و يحسن اسمَـه ، و
يعلمه الكتاب ـ إي القرآن - . قال الولد : يا أمير المؤمنين ، إن أبي لم يفعل
شيئاً من ذلك ، أمّا أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي ، و قد سماني جُعَلاً ـ أي
خنفساء - ، و لم يعلمني من الكتاب حرفاً واحــداً . فالتفت عمر إلى الرجل و قال
له : جئت إلي تشكو عقوق ابنك و قد عققته قبل أن يعقـــك ، و أسأت إليه قبل أن
يسيء إليك ؟!! )).
و مما يذكر في كتب السِّيَر : (( أن معاوية ابن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ غضب
على ابنه يزيد مرة ، فأرسل إلى الأحنف بن قيس ليسأله عن رأيه في البنين ، فقال
: هم ثمارُ قلوبنا ، و عمادُ ظهورنا ، و نحن لهم أرضٌ ذليلة ، و سماءٌ ظليلة ،
فإن طلبوا فأعطهم ، و إن غضبوا فأرضهم ، فإنهم يمنحوك ودَّهم ، و يحبونك جهدهم
، و لا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك ، و يتمنوا وفاتك )) .
و أخيراً ، فحتى يطيب العطاءُ لله ، فلابد من أن يطيب الغرس لله و بصدق ، و مَن
أدَّب ابنَه صغيراً ، قرَّت عينُه كبيراً ، وكما يريد الآباءُ من أولادهم أن
يبرّوهم ، فليكونوا هم على مستـوى ذلك الــبر ، و الله الموفق إلى كل خير ... و
الحمد لله رب العالمين .