|
شكت لي إحدى الأمهات مرة قسوة بناتها ، ومن أنهن لا يساعدنها في البيت ، ولا
يُقدرن تضحياتها وما تقوم به من أجلهن ، فهمهن أن تُقضى طلباتهن وحسب ، ولكنني
علمت منها أن زوجها ـ والد البنات ـ يعامل بناته بقسوة وفظاظة ، حتى أنه جذب
ابنته مرة من عقدها وكاد أن يخنقها به !!! .
وقالت لي أخرى أنها تغدق على أولادها بعاطفتها الجياشة ، فقد كانت في صغرهم
ولازالت الآن بعد أن كبروا ، وستبقى حتى بعد أن يتزوجوا تحيطهم بالحب والعطف
والحنان والشفقة ، فقلب هذه الأم ـ كما لاحظت من كلامها ـ مليء بالحب حتى إنه
ليفيض على من حولها ، فكيف بأولادهــــا !! . ولهذه المرأة زوجة أخ ، بخيلة على
أولادها بالحب والحنان ، همها و زوجها في الخروج والسفر والذهاب والإياب ، أما
أولادهما فيقضون معظم الوقت مع الخادمة !! ، وكثيراً ما كانت تلوم أخت زوجها ـ
التي ذكرتها آنفاً ـ على حبها الزائد ـ من وجهة نظرها ـ لأولادها . ويشاء الله
أن تمرض المرأتان ، ولكم أن تتوقعوا كيف تعامل أولاد كل منهما مع أمه المريضة .
فأما الأم الحنون فقد تلقت من أولادها معاملة حانية جداً من أولادها ، وأما
الأخرى ، فحتى كوب الماء الذي كانت تطلبه ، لم يكن أولادها يحضرونه لها ، بل
يطلبون من الخادمة فعل ذلك ، مما ولد الألم والحسرة في قلبها !! .
البيت أصبح تائهاً *** ويكاد يطويه الدمـــار
لا الأمهات لها به *** عطف وليس لها قرار
هذه القصص ، وغيرها الكثير ، لا تحتاج إلى أي
تعليق ، ولكني أريد أن أوجه رسالة إلى كل أب وأم ، أطلب منهم فيها أن يستخدموا
لغة العاطفة ، ويفتحوا مغاليق قلوب اولادهم بكلمة .." أحبك يا ولدي " ، ولكن
ليقولوها بصدق ، فكلام القلب ـ كما قال سوّار ـ يقرع القلب ، وكلام اللسان يمر
على القلب صفحاً ، فلغة العاطفة مهمة وخطيرة في حياة البشر ، والولد إن لم يجد
الحب والحضن الحاني والتقدير لمشاعره في البيئة التي يعيش فيها ، نشأ منعزلاً
ومنغلقاً على نفسه ، لا يبوح بمشاعره لأحد ، ولا يرتاح في تعامله مع الناس ، بل
إن كثيراً من المشاكل النفسية ، والانحرافات الخلقية ، وتعاطي المخدرات ،
والزواج العرفي ، والعصبية ، والتعدي بالضرب على الآخرين ، والعناد ، ... ،
تنتج بسبب عدم حصول الولد على حاجته من الحب والحنان ، فكثير من الآباء
والأمهات يغفلون عن أهمية القرب المعنوي والحاجات المعنوية لأولادهم ، فشخصية
الولد وطباعه يتأثران بشكل كبير بعلاقته المعنوية مع والديه ، وإن لم يحرص
الوالدان على إشعار الولد ـ ذكراً كان أم أنثى ـ بالدفء الأسري ، فربما سيبحث
عنه في الخارج !!! .
ولكن لابد أن ينتبه الآباء والأمهات إلى أن هنالك اولاد يحتاجون للعاطفة بشكل
أكبر من غيرهـم ، فالإخوة ليسوا جميعاً على شاكلة واحدة ، فهناك العاطفي
والحساس ، وهناك العقلاني مثـلاً ، فالمسألة تحتاج إلى الحكمة في التعامل مع كل
منهما ، فكل شخصية لها مفتاحها ، ولكني أرى أن المفتاح الرئيس للجميع هو القلب
، ومن خلاله يمكن الوصول إلى العقل .
والرفق والرحمة متعينان مع جميع الأولاد ، بل إن الأساس في التربية لابد أن
يكون مبنياً على الرفق والرحمة ، فالنبي ـ عليه و آله الصلاة والسلام ـ يقول :
" إذا أراد الله ـ عز وجل ـ بأهل بيت خيراً ، أدخل عليهم الرفق " .. [ صحيح ،
الألباني ـ السلسلة الصحيحة : 1219 ] ، ويقــــول : " إنه من أعطي حظه من الرفق
، فقد اعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ..." .. [ إسناده صحيح ، الألباني ـ
السلسلة الصحيحة : 519 ] . ولكن الرفق متعين بشكل أكبر مع البنات ، لضعفهن
ورقتهن ، فالنبي ـ عليه و آله الصلاة و السلام ـ يقول : " من عال ثلاثاً من
بنات يكفيهـــن ، ويرحمهن ، ويرفق بهن ، فهو في الجنة " .. [ صحيح ، الألباني ـ
السلسلة الصحيـحة : 2492 ] .
والحزم متعين أيضاً ، ولكن الحزم لا يعني القسوة والفظاظة والغلظة والضرب ،
فهذه الأساليب تنفر الناس من صاحبها ، فما بالك بأولادك الذين يعيشون معك في
بيت واحد !! . يقول تعــــالى : ﴿ فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنتَ فظاًّ
غليظ القلب لانفضوا من حولك ...﴾ ..{ آل عمران : 159 } ، فالقلب الرحيم يشد
الناس إليه ، لما يجدون من صاحبه من رقة وعطف ولين . يقول ـ عليه و آله الصلاة
والسلام ـ : " ... وأهل الجنة ثلاثة : ..، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى
ومسلم ،..." .. [ صحيح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 2637 ] ، ويقول : " إن لله
آنية من أهل الأرض ، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين ، وأحبها إليه ألينها
وأرقها ".. [ إسناده قوي ، الألباني ـ السلسلة الصحيحة : 1691 ] .
ولقد كان عليه و آله الصلاة والسلام أرحم الناس بالعيال والصبيان ، بل إن رحمته
قد شملت الصغير والكبير ، وما ضرب بيده الشريفة لا امرأة ولا ولداً ولا خادماً
، إلا أن يجاهد في سبيــل الله ، فقد كان يستخدم أساليب أخرى أرقى في التوجيه
والتربية ، كان يربي بالحب ، ويوجه بالرفق واللين ، ويعاقب ولكن دون قسوة أو
ضرب أو جرح للكرامة والمشاعر .
فيا أيها المربي ، من أولادك من يتأثر بالنظرة ، ومنهم من تؤذيه الكلمة ، ومنهم
من يتألم إن أعرضت عنه ، فمثل هذه الأساليب تُغنيك عن الضرب والقسوة ، بل إن من
الظلم أن تتعدى على ولدك بالضرب إن كانت هذه الأساليب تجدي في تربيته ، فكن
رحيماً وعامل أولادك بحب وشفقة ، فالنبي عليه و آله الصلاة و السلام يقول : "
ارحموا ترحموا ، واغفروا يغفر الله لكــــــــــم .." .. [ صحيح ، الألباني ـ
صحيح الترغيب : 2465 ] ، ويقول : " خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه
رحمة للبشر " .. [حسن ، الألباني ـ صحيح الجامع : 3205 ] .
يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه القيم " مناهج التربية الإسلامية " : (( ينبغي
أن يكون المربي حسن الإعطاء وإلا ضاع الأثر المطلوب أو انقلب إلى الضد حين يعطي
المربي ما عنده بطريقة منفرة ... فقد تحب طفلك وتحب له الخير ، ولكن طريقتك في
تقديم الخير إليه تشككه في حبك له ، وتوهمه أنك تكرهه ، وأن توجيهاتك له صادرة
عن البغض لا عن الحب ، لأنك تقدمها إليه في صورة فظة لا رفق فيها ولا لين )) .
فيا أيها الآباء ، ويا أيتها الأمهات ، كونوا رحماء بأولادكم ، ولا تبخلوا
عليهم بالحب والعطف والحنان ، وصادقوهم ليفتحوا لكم قلوبهم ، ويبوحوا لكم
بمشاعرهم ، وافتحوا باب الحوار بينكم وبينهم ليحدثوكم عن أفكارهم وهمومهم ،
وانهجوا نهج نبيكم عليه و آله الصلاة والسلام في التوجيه والتربية ، لتنشئوا
جيلاً صالحاً متزناً ، يتعامل مع الناس بوضوح وصراحة ، وانفتاح وقوة وثقة وعطاء
.
وتذكروا قول الحبيب المصطفى ـ عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم - : " إن الرجل
لترفع درجته في الجنة ، فيقول : أنّى لي هذا ؟ فيقال : باستغفار ولدك لك ".. [
صحيح ، الألباني ـ صحيح الجامع : 1617 ] . فأعينوا أولادكم على بركم والدعاء
لكم في حياتكم وبعد مماتكم ، ولا تضطروهم لأن يعقوكم وأن يدعوا عليكم ، كتلك
التي حرمها أبوها من الزواج ، فقامت تدعو عليه في كل ليلة في صلاتها !! ، وتلك
التي دعت على أبيها وهي على فراش الموت ، بأن يحرمه الله من الجنة كما حرمها من
الزواج !! .
فاتقوا الله في أولادكم ، وبروهم قبل أن تطلبوا منهم أن يبروكم ، واعلموا أن
الرحمة تأتي بالرحمة ، وأما القسوة فلن تأتي إلا بالقسوة ! .
ربنا ... هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ، واجعلنا للمتقين إماماً ...
اللهم آمين ، والحمد لله رب العالمين .
بقلم : لبنى شرف ـ الأردن .