دار يوماً نقاش بيني و بين إحدى الأخوات حول أهمية استخراج كل فردٍ مكنون
الطاقـــــة و الموهبة التي لديه لينفع بها أمته ، و لكننا اختلفنا في الأسلوب
و المنهج الذي على الفرد أن ينهجه ليفيد أمته بما لديه من طاقات . فكان رأيها
أن على كل فرد أن يُخرج طاقته و يستثمرها دون أن ينتظر مساعدة من أحد ، و كذلك
كان رأي أختٍ أخرى في حديث آخر ؛ أن على المرء أن يستغني عن الناس قدر المستطاع
.
أيها الإخوة ، أنا أرى أن التفكير بهذه الطريقة سيزيد من الفرقة بين أفراد
الأمة ، لأن كلاً سيعمل على حداً ، و الأصل في الأمــة المسلمـــة أن تكـون
مجتمعــة و متآلفـــة و متعاونـــــة و متعاضدة ، يرفد بعضها بعضاً ، و يساعد
بعضها بعضاً ، فطالما أن المواهب و الاستعدادات و الإمكانات متفاوتة بين
الأفراد ، إذاً فلابد من أن يحتاج كلُّ إلى الآخر ، و هذه سنة الله في خلقه ،
فالله سبحانه و تعالى يقول : ﴿ .. و رفعنا بعضُهُمْ فوق بعضٍ درجـٰتٍ
لِّيتَّخِذَ بعضُهُم بعضاً سُخْرِيّاً .. ﴾ ..{ الزخرف : 32 } . فهذا آتاه الله
علماً أو عقلاً راجحاً ، و ذاك مـــالاً ، و ذاك قوة في البدن ... ، و لولا هذا
لما استقامت الحياة على سطح الأرض ! . يقول سيد قطب ـ يرحمه الله ـ : (( و
طبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مــــواهب الأفراد و
التفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فردٍ من عمل ؛ و التفاوت في مدى إتقان هذا العمل
. و هذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض )) .
ثم إن الاستغناء المطلق عن الناس أمر مستحيل ، و هذا لا يحتاج إلى دليل كما أرى
، إنما الاستغناء المطلوب و الذي حث النبي الكريم ـ عليه و آله الصلاة و السلام
ـ عليه أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ، هو الاستغناء في الأمور الشخصية و الفردية و
التي بمقدور المرء فعلها دون مساعدة من أحد ، و في الأمور التي تحتاج إلى سعيٍ
و حركة و التي أيضاً تكون ضمن وسع المرء و طاقته ، إن كان في كسب الرزق أو غير
ذلك من أمور الحياة و حاجات المرء فيها ، فطلب العون في مثل هذه الأمور لا يكون
إلا من باب الكسل و التواكل على الغير ، أو الرضا بالمرتبة الدنيا و اليد
السفلى التي تأخذ و تستجدي الناس . قـــال عليه و آلــــــه الصـلاة و السلام
لمولاه ثوبان : " لا تسأل الناس شيئاً . قال : فكان ثوبان يقع سوطه و هو راكب ،
فلا يقول لأحد : ناولنيه ؛ حتى ينزل فيأخذه " .. [ صحيح ، الألباني ـ صحيح
الترغـيب : 813 ] .
و لكن الأمر مختلف بالنسبة لقضايا الأمة ، فاستغناء المرء هنا عن إخوانه ، و
الاكتفاء بالعمل الفردي أمر مرفوض ، لأن العمل للنهوض بالأمة يحتاج إلى تكاتف
الجهود و تكامل المواهب و الطاقات و الاستعدادات و الإمكانات ، حتى تتكامل
الأدوار و تُستثمر الطاقات بفعّالية أكبر و بوقت و جهد أقل .
أريد أن أضرب مثالاً لما أقول حتى تتضح الصورة أكثر ؛ الآن ، لو أن زيداً من
الناس كانت طاقته في عقله ، و كانت موهبته في قدرته على إعطاء أفكار متميزة
جــدّاً و رائعــــة ، و لديه أيضاً القدرة على التخطيط ، و لكنه في المقابل
يفتقر إلى مهارات استخدام الحاســوب ، و كذلك لا يمتلك المال اللازم لتطبيق هذه
الأفكار ، فحتى لا يبقى طاقة معطلة ، فمن الضروري بل من الحكمة أن نجمعه مع
أصـحاب الطاقـات و المـــــواهب المُكَمـِّلة لطاقتـــــه و اللازمة لتطبيق ما
لديه من أفكار ـ إن كانت تنفع الأمة طبعاً ـ ، و ليس من المنطق أن نُلزمه مثلاً
بجمع المال ، أو بأخذ دورات ليجيد استخدام الحاسوب طالما أنه لا يحب استخدامه ،
لأن هذا ـ في رأيي ـ مضيعة للوقت و الجهد ، و تجاهل للطاقات الأخرى التي ربما
يبحث أصحابها عمن يساعدهم في استثمارها الاستثمار الأمثل .
بهذه الطريقة يمكن أن تجتمع و تتكامل الطاقات و الإمكانات و تتوزع الأدوار ، و
ما من إنسان إلا و لديه موهبة و طاقة و دور يقوم به ، مهما صغر هذا الدور أو
كبر ؛ فهذا بالأفكار ، و هذا بالتخطيط ، و هذا بالمال ، و ذاك بمركبته ، و ذاك
بنشاطه الحركي و البدني ، و آخر بنشاطه الاجتماعي و علاقاته الواسعة ... ،
هـــذا في العمل الواحد ، فكيف بهــــــا إذا تجمعت و تكاملت في القطر الواحد ،
بل في العالم الإسلامي أجمع ؛ بين المراكز الدعوية ، و المراكز الخيرية و
الاجتماعية و المشاريع الصناعية و النهضوية التي يلتزم أصحابها بأحكام الشريعة
الإسلامية ؟! ، بل و حتى بين الجماعات التي تلتزم بالكتاب و السنة ، فالأصل أن
تتوحد جهودها طالما أنهم متفقون في الأصول و اختلافهم في القضايا الاجتهادية ،
فهذا لا يهدم للود قضية ، فتقوية و تمتين الصلة و حبال الود بين هذه الجماعات
أفضل للنهوض بالأمة ! .
أيها الإخوة ، أمتنا اليوم بحاجة إلى كل طاقة و كل جهد و كل إمكانية مادية كانت
أم معنوية عند كل فرد فيها ، بحاجة إلى استثمار هذا كله أحسن استثمار ، و
استغلاله أفضل استغلال ، فهناك طاقات كثيرة معطلة ، و جهود مبعثرة ، و إمكانات
غير مستغلة ، و لو وُظِّف هذا كله بطريقة صحيحة و مدروسة في نهضة أمتنا لأصبح
الحال غير الحال !! .
اللهم اجعل قلوبنا مُجتمعة على محبتك ، و مُتآخية على طــاعتك ، و مُتوحدة على
دعوتك و نصرة شريعتك ... اللهم آمين ، و الحمد لله رب العالمين .