يأتي علينا رمضان في كل عام ثم يرتحل ، و نحن مازلنا نحوم حول المفطرات ، و نسأل
عن المفسدات ، و نعقد الندوات و المحاضرات عن الإعجاز العلمي في الصيام ، و عن
فوائد الصيام .. . هذه الأمور جيدة ، و مهم أن يعرف المسلم ماهي الأمور المفسدة
لصيامه ، فهذا من التفقه في الدين ، و لكن حتى متى سنبقى في هذه الدائرة ؛
دائرة الماديات و الحسيات ؟ و متى سنتعمق أكثر لنصل إلى إدراك الغاية من الصيام
، و هي إعداد القلوب للتقوى و الشفافية و الحساسية و الخشية من الله ؟ متى سنصل
إلى مرحلة أن نخرج من رمضان على غير ما دخلناه ؟ فالأصل في الشعائر التعبدية
كما يقول سيد قطب : (( إنشاء حالة شعورية تحكم سلوك المتعبد ، و عليها الاعتماد
الأول في تربية ضميره ، و حسن أدائه للعباده ، و حسن سلوكه في الحياة )) .
يقول الإمام الغزالي : (( و للصوم ثلاث مراتب : صوم العموم ، و صوم الخصوص ، و
صوم خصوص الخصوص . فأما صوم العموم فهو كف البطن و الفرج عن قضاء الشهوة . و
أما صوم الخصوص : فهو كف النظر و اللسان و اليد و الرِّجل و السمع و سائر
الجوارح عن الآثام . و أما صوم خصوص الخصوص فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة ، و
الأفكار المبعدة عن الله تعالى ، و كفه عما سوى الله تعالى بالكلية )) .
إن المسلم إذا فسد لا يصلح إلا بإصلاح تربيته ، و إصلاح قلبه ، و استحياء شعور
التقوى في روحه ، و التقوى هذه هي الغاية المفروض تحققها من الصيام ، قال تعالى
: ﴿ يـٰأيُّها الَّذينَ ءامنوا كُتِبَ عليْكُمُـ الصِّيامُـ كما كُتِبَ على
الذينَ مِن قَبْلِكُمْـ لَعَلَّكُمْـ تَتَّقونَ ﴾..{ البقرة : 183 } . يقول سيد
قطب : (( و هكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم .. إنها التقوى .. فالتقوى هي
التي تستيقظ في القلوب و هي تؤدي هذه الفريضة ، طاعة لله ، و إيثاراً لرضاه . و
التقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية ، و لو تلك التي تهجس
في البال ، و المخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ، و وزنها في
ميزانه ، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم ، و هذا الصوم أداة من أدواتها ، و طريق
موصل إليها ، و من ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجون إليه عن
طريق الصيام .. " لعلكم تتقون " .. )) .
و من اللفتات العجيبة التي تؤثر في أعماق النفس في سياق الحديث عن الصيام ،
قوله تعالى : ﴿ و إذا سَألَكَ عبادىِ عنّىِ فإِنّىِ قريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ
الدّاعِ إذا دَعانِ فلْيَسْتَجيبوا لىِ وَ لْيُؤْمِنوا بىِ لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدونَ ﴾..{ البقرة : 186 } . فالصائم قريب من الله بضعفه و انكساره ، و
دعوته مستجابة كما قال رسول الله - صلى الله عليه و آله و سلم - : " ثلاث دعوات
مستجابات : دعوة الصائم ، و دعوة المظلوم ، و دعوة المسافر " [ صحيح ، الألباني
– صحيح الجامع : 3030 ] .
يقول سيد قطب في ظلال هذه الآية : (( .. أية رقة ؟ و أي انعطاف ؟ و أية شفافية
؟ و أي لإيناس ؟ و أين تقع مشقة الصوم و مشقة أي تكليف في ظل هذا الود ، و ظل
هذا القرب ، و ظل هذا إيناس ؟ . إنها آية عجيبة .. آية تسكب في قلب المؤمن
النداوة الحلوة ، و الود المؤنس ، و الرضا المطمئن ، و الثقة و اليقين .. و
يعيش فيها المؤمن في جناب رضي ، و قربى ندية ، و ملاذ أمين و قرار مكين . و في
ظل هذا الأنس الحبيب ، و هذا القرب الودود ، و هذه الاستجابة الوحية .. يوجه
الله عباده إلى الاستجابة له ، و الإيمان به ، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد و
الهداية و الصلاح )) .
إن فهم الصيام على أنه عبادة بدنية و قلبية يجعلنا نخرج من دائرة الأمور
المادية المحسوسة و التحليق أكثر في عالم الروحانيات ، فبها تكون حياة القلب و
نداوته .
اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا ، و اجعلنا ممن قبلت صيامه ، و أسعدته
بطاعتك فاستعد لما أمامه ، و غفرت زللـه و إجرامه ، برحمتك يا أرحم الراحمين
... اللهم آمين ، و الحمد لله رب العالمين .