|
ينتابنا أحياناً شعور بالضيق ، فمنا من يمضي و لا يكترث ، و يحاول أن يشغل نفسه
بالملهيات حتى تُنسيه هذا الشعور ، و لكن هناك من يقف .. و يتفكر .. و يتأمل ..
و يتألم ، محاولة في معرفة سبب هذا الشعور ، أهو عقاب من الله يا ترى ؟ هل هناك
من ذنب أو تقصيـر ؟ أهو بسبب تلك النظرة ؟..أم تراه بسبب تلك الكلمة ؟..أم تراه
إشارة من الله لتجديد العهد معه ؟ .
فنحن نتفاوت في حساسيتنا في التعامل مع هذا الشعور ، و في فهم المواقف التي نمر
بها في حياتنا ، و في انفعالاتنا الوجدانية تجاهها ، فمنا من هو بليد الإحساس ،
و منا من هو أشعري الإحساس ، و بين هاتين الدرجتين درجات كثيرة ، فما هو
المعيار يا ترى في درجات هذا الميزان الشعوري ؟ .
يقول الله تعالى : ﴿ ..و اتَّقوا اللهَ و يُعَلِّمُكُمُ اللهُ ..﴾..{ البقرة :
282 } ، فتقوى الله تفتح القلوب للمعرفة ، و تُهيِّئ الأرواح للتعليم ، فالله
يُعلِّم أحياناً بالمواقف و بالشعور ، و كلما ازدادت حساسية الميزان ، ازداد
تلقي و فهم الرسائل بفعّالية فائقة .
يكفي اللبيب إشارة مكتومة *** و سواه يُدعى
بالنداء العالي
و الرسائل التي يرسلها الله لنا تتناسب مع درجة
الحساسية عند كل منا ، و التي معيارها كما قلنا التقوى و قوة الصلة بالله ،
فعقوق الأولاد رسالة ، و لكن كثير منا لا يفهمها ، و الحرمان من قيام الليل و
لذة مناجاة الله رسالة ، و لكنها من نوع خاص جداً لأناس بلغت حساسية الميزان
عندهم درجة عالية جداً ، و بلغوا من دقة الشعور ما يُؤهلهم لمثل هذه الرسائل .
قال أبو سليمان – يرحمه الله - : (( أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في
لهوهم ، و لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا )) . و قال الحسن البصري –
يرحمه الله - : (( لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل ، فقيل
له : ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً ؟ فقال : لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم
من نوره )) .
و قد يسوق الله رسائل صارخة تهز الوجدان للشاردين عن سبيله ، فلعلهم يعودون إلى
الجادّة و يتحرك عندهم الميزان ، و هذا من رحمة الله و لطفه بعباده ..لو كانوا
يفقهون !! .
اجتاز بعضهم في سكة ، فطُرح عليه رمادٌ من السطح ، فجعل أصحابه يتكلمون . فقال
: (( من استحق النار فصولِحَ على الرماد ، ينبغي له أن لا يغضب )) . انظروا كيف
فهم هذا الرجل هذا الموقف و كيف فسره ، أما نحن فمنا من يغضب و يتوعد و يسب
و...الخ ، و لكن من منا من يقف وقفة متأنية و فاحصة ، و يتهم نفسه بأنها تستحق
هذا قبل أن يلقي باللوم على الآخرين ، أو يسخط على قضاء ربه ؟! . و لقي رجل علي
بن الحسين – رضي الله عنهما – فسبه ، فثارت إليه العبيد ، فقال مهلاً ، ثم أقبل
على الرجل فقال : (( ما سُترَ عنك من أمرنا أكثر ،..)) ، و هذا موقف آخر لو حدث
مع واحد منا فكيف سيفسره و يتعامل معه ؟ كم منا من يقف عند تعامل و أخلاق الناس
معه في بعض المواقف ، و يحاول أن يأخذ منها إشارات أو دلالات يفهم منها رضا
الله من سخطه ، فإنه لا يقف مثل هذه الوقفات إلا ذوي الحساسية المرهفة و القلب
اليقظ ؟! .
إن تدقيق الحساب المستمر مع النفس يجعلها أكثر حساسية و انفعالاً مع المواقف ،
و صاحب الشعور المرهف لا بد و أن يكون قد روّض نفسه لتصل إلى هذه الدرجة من
الحساسية . مرّ حسان بن سنان بغرفة فقال : (( متى بُنيت هذه ؟ ثم أقبل على نفسه
فقال : تسألين عمّا لا يعنيك ! لأعاقبنك بصوم سنة ، فصامها )) . سبحان الله ..
يحاسب نفسه على تدخلها فيما لا يعنيها ! و نحن ..كم مسألة و كم أمر نحشر أنوفنا
فيه و هو لا يعنينا ، ثم نمضي و لا نكترث !! .
لا بد لنا إن كنا حريصين على فهم الرسائل التي يرسلها الله لنا من أن نرتقي في
سلّم التقوى ، و من أن نراقب الله في الحركات و السكنات و الخطرات ، و لا بد من
ترويض النفس و لزوم المحاسبة لها ، فمن حاسب نفسه في الدنيا ، خف في القيامة
حسابه ، و حسُن منقلبه ، و من أهمل المحاسبة دامت حسراته . و مما ورد في باب
رياضة النفس ، أن سهل بن عبد الله قال : (( كنت ابن ثلاث سنين ، و أنا أقوم
بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار ، فقال لي خالي يوماً : الا تذكر الله
الذي خلقك ؟ قلت : كيف أذكره ؟ قال : قل بقلبك ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك
: الله معي ، الله ناظر إلي ، الله شاهدي ، فقلت ذلك ليالي ، ثم أعلمتُه ، فقال
: قلها في كل ليلة إحدى عشر مرة . فقلت ذلك ، فوقع في قلبي حلاوته ، فلما كان
بعد سنة ، قال لي خالي : احفظ ما علمتك ، و دُمْ عليه إلى أن تدخل قبرك ، فلم
أزل على ذلك سنين ، فوجدت له حلاوة في سري ، ثم قال لي خالي : يا سهل ، من كان
الله معه ، و هو ناظر إليه ، و شاهد عليه ، هل يعصيه ؟ إياك و المعصية . و مضيت
إلى المكتب ، و حفظت القرآن ، و أنا ابن ست سنين أو سبع ، ثم كنت أصوم الدهر ،
و قوتي من خبز الشعير ، ثم بعد ذلك كنت أقوم الليل كله )) .
اللهم اجعلنا من الذين إذا أحسنوا استبشروا ، و إذا أساءوا استغفروا ... اللهم
آمين ، و الحمد لله رب العالمين .
لبنى شرف – الأردن .