|
يقول الإمام الغزالي – يرحمه الله - : (( اعلم أن آداب الظواهر عنوان آداب
البواطن ، و حركات الجوارح ثمرات الخواطر ، و الأعمال نتائج الأخلاق ، و الآداب
رشح المعارف ، و سرائر القلوب هي مغارس الأفعال و منابعها ، و أنوار السرائر هي
التي تشرق على الظواهر فتزينها و تحليها . و من لم يخشع قلبه ، لم تخشع جوارحه
، و من لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلـٰهية ، لم يفض على ظاهره جمال الآداب
النبوية )) .
إن ما قاله الإمام الغزالي لهو كلام دقيق و عميق ، أوحى لي بما قد يكون مفتاحاً
لحل مشكلة الانفصال الذي يعيشه المسلم أحياناً بين سلوكه و عقيدته ، أو بعبارة
أخرى الانفصال بين التدين الفكري و التدين العملي ؛ فلماذا لا يعطي الإيمان أو
العلم الشرعي أحياناً ثمراته ؟ ما هي الموانع يا ترى ؟ ، فلإيمان كما يقول سيد
قطب : (( قوة دافعة ، و طاقة مجمعة ، فما تكاد حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك
لتعمل ، و لتحقق ذاتها في الواقع ، و لتوائم بين صورتها المضمرة و صورتها
الظاهرة ، كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها ، و تدفعها
في الطريق .. )) .
لابد أن نتفق ابتداءً على أن العلم المجرد لا يأخذ باليد ؛ فالعلم بلا عمل جنون
، و العمل بلا علم لا يكون ، إذن فلابد من العلم و العمل معاً . يقول الإمام
ابن القيم : (( العمل لقاح العلم ، فإذا اجتمعا كان الفلاح و السعادة ، و إن
انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئاً )) . و قال الخطيب البغدادي في كتابه القيم
" اقتضاء العلم العمل " : (( ثم إني أوصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه
، و إجهاد النفس على العمل بموجبه ، فإن العلم شجرة ، و العمل ثمرة ، و ليس
يُعَدُّ عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً .. ، فلا تأنسْ بالعمل ما دمت مستوحشاً
من العلم ، و لا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل ، و لكن اجمع بينهما و إن
قَلَّ نصيبك منهما .. ، و ما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمَه لفساد طريقته ،
و جاهلٍ أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته )) .
كم إلى كم أغدو إلى طلب العلـ --- ـم مُجِدّاً في
جَمْعِ ذاك حَفيـّا
طالباً منه كل نوع و فــــنٍّ --- و غريبٍ و لستُ أعملُ شيّـا
و إذا كان طالب العلم لا يعــ ـملُ بالعلم كان عبداً شقيّــا
إنما تنفع العلومُ لمن كــــا --- ن بها عاملاً و كـان تقيــّـا
و العلم لا يُطلبُ لذاته ، و لا للتجمل و التباهي
به بين الخلق ، و إنما هو وسيلة إلى البر و التقوى الذي به يستحق المسلم
الكرامة عند الله و السعادة الأبدية . قال الثّوري : (( إنما يُتعلم العلم
ليتقى به الله .. )) ، و قال : (( زينوا العلم ، و لا تزينوا به )) ، و قال أبي
بن كعب : (( تعلموا العلم و اعملوا به ، و لا تتعلموه لتتجملوا به ، فإنه يوشك
إن طال بكم زمان أن يُتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه )) .
تفقه فـإن الفقه أفضل قائـــدٍ --- إلى البر و
التقوى و أعدلُ قاصــد
هو العلَمُ الهادي إلى سَنن الهُدى --- هو الحصن ينجي من جميع الشدائد
فإن فقيهاً واحداً متورعــــاً --- أشد على الشيطان من ألف عابــد
هذا هو جوهر المسألة ؛ أن العلم وسيلة و ليس غاية
، فقد قال عليه و آله الصلاة و السلام : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ،
سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة " [ صحيح ، الألباني – صحيح الترمذي : 2646 ] ،
إذن فالعلم وسيلة و طريق إلى الجنة ، و لا يكون هذا إلا بالعمل بمقتضى هذا
العلم . و قال تعالى : ﴿ و لِيعْلَمَ الَّذينَ أُوتُوا العلْمَ أَنَّهُ الحقُّ
مِن رَّبِّكَ فيُؤْمِنوا بِهِ فتُخْبِتَ لَهُ قُلوبُهُمْـ .. ﴾..{ الحج : 54 }
: علم فإيمان فإخبات ؛ أي خشوع و سكينة و انقياد ، فعندما تخالط بشاشة العلم
القلب ، يدرك ما فيه من حقيقة و صدق . فكيف لنا أن نصل بالعلم إلى درجة الخشوع
و الانقياد ؟ كيف لنا أن ننتقل من عالم الأفكار إلى عالم السلوك العملي ؟
فالسلوك يكمن وراءه دوافع رسخت و تعمقت في نفس الإنسان ، فكيف لنا أن نترجم هذه
الدوافع إلى واقع عملي ملموس ؟ .
يقول الإمام الشاطبي : (( إنما يكون العلم باعثاً على العمل إذا صار للنفس
وصفاً و خلقاً .. ، على أن المثابرة على طلب العلم ، و التفقه فيه ، و عدم
الاجتزاء باليسير منه ، يجر إلى العمل به و يلجئ إليه )) . هذه هي القاعدة التي
يمكن أن تلخص كل ما يمكن أن يقال في هذه المسألة . و لكن كيف يصير العلم للنفس
وصفاً و خُلُقاً ؟ ما هي السبيل التي ينبغي أن نسلكها في طلب هذا العلم ؟ .
يقول الإمام أبو حامد الغزالي : (( .. العلم عبادة النفس ، و في لسان الشرع
عبادة القلب ، فلا يصح إلا بطهارة القلب عن خبائث الأخلاق ، و أنجاس الصفات ..
فإن قلتَ : فكم طالب رديء الأخلاق حصل العلوم ؟ .. فما أبعدك عن فهم العلم
الحقيقي الديني الجالب للسعادة !! فما يحصله صاحب الأخلاق الردية حديث ينظمه
بلسانه مرة ، و بقلبه أخرى ، و كلام يردده ، و لو ظهر نور العلم على قلبه لحسنت
أخلاقه ، فإن أقل درجات العلم أن يعرف أن المعاصي سموم مهلكة )) . و قال ابن
عاشور – يرحمه الله - : (( ليس العلم رموزاً تُحَل ، و لا كلمات تُحفظ ، و لا
انقباضاً و تكلفاً ، و لكنه نور العقل و اعتداله ، و صلوحيته لاستعمال الأشياء
فيما يحتاج إليه منها ، فهو استكمال النفس ، و التطهر من الغفلة و التأهل
للاستفادة و الإفادة ، و ما كانت العلوم المتداولة بين الناس إلا خادمة لهذين
الغرضين ، و هما : ارتقاء العقل لإدراك الحقائق ، و اقتدار صاحبه على إفادة
غيره بما أدركه هو . إذن فالعلوم التي تدرس إن لم تكن الغاية منها ما ذكرنا فهي
عبارة عن إضاعة العمر و امتلاء الدماغ ، و لا يكاد يبلغ المتعلم الغاية
المذكورة إلا متى تلقى العلم بيقظة ، و راقب غاياته في أعماله ، كمراقبة قواعد
النحو في التكلم ، و قواعد الفقه في المعاملة .. ، فإن هو لم يفعل و تعاطى
العلم عن ذهول بما تقرر كان قد أضاع زمناً في التعلم من غير استثمار إلا
ألفاظاً حفظها )) . و قال الإمام الشافعي : (( الطبع أرض ، و العلم بذر ، و لا
يكون العلم إلا بالطلب ، فإذا كان الطبع مساعداً زكا ريع العلم و تفرعت معانيه
)) . و يقول سيد قطب : (( فالعلم الحق هو المعرفة .. هو إدراك الحق .. هو تفتح
البصيرة .. هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود ، و ليس العلم هو
المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن و لا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى
، و لا تمتد وراء الظاهر المحسوس .. و هذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي و
المعرفة المستنيرة .. القنوت لله )) .
من هذه الأقوال نلحظ أنه لابد من طهارة و استنارة القلب و تزكية النفس حتى
يستقيم الخلق ، و ما الخلق إلا السلوك الناشئ عن أفكار متعمقة ثابتة و راسخة في
النفس .. أي العلم ، و الخلق قابل لتأثير التربية الحسنة و السيئة فيه ، فإذا
ما رُبِّيَ المرء و رُوِّضَ على حب الجميل و كراهية القبيح ، أصبح ذلك طبعاً له
، و صدرت عنه الأفعال الإرادية الجميلة و دون تكلف ، لأنه أصبح هيئة راسخة في
النفس .
و استكمال فضائل النفس أمر يحتاج إلى مجاهدة ، و لكن في بعض الأحيان تكون بيئة
المرء عائقاً يحول دون تحقيق ذلك ، فيحتاج الأمر هنا إلى العزلة الكلية أو
النسبية ، و أحياناً إلى العزلة الشعورية ؛ فيجعل لنفسه عالماً آخر يعيش و يحلق
فيه ، فهو له شأن و من حوله لهم شأن آخر ، يعيش معهم بجسده و لكنه يحلق في عالم
وجداني و قيمي مختلف عما هم فيه ، فهذا سيعينه على الارتقاء ، كالعزلة الشعورية
التي كان يعيشها الصحابة – رضي الله عنهم – في صلاتهم بالمجتمع الجاهلي . و في
هذا السياق يقول الشيخ سعيد حوى – يرحمه الله – في شرح حكم ابن عطاء : (( قد
يكون الإنسان في الأصل في بيئة سيئة ، فهذا يجب عليه أن يتخلص من شرورها و
سيئاتها ، فما دام هو فيها و يخالطها فهو عاجز ، فلا حل إلا أن يعتزل الإنسان
للخلاص منها . و قد تكون البيئة بيئة عادية فيها خير و فيها شر ، لكنه ما دام
فيها فهو ينجذب إلى مواقف ، فالخلاص من هذا يقتضي نوعاً من أنواع الانقطاع )) .
لعل هذا الأمر هو ما دفع العلماء إلى اشتراط أن يتتلمذ طالب العلم على العلماء
لا على الكتب ، حتى يسري إليه حال العلماء ، و يظهر عليه سمت العلم و أدب العلم
و نور العلم . و هو كذلك ما دفع و يدفع الآباء و الأمهات إلى أن يدفعوا
بأولادهم إلى المؤدبين و العلماء ليُحفظوهم القرآن ، و ليعلموهم العلم الشرعي ،
حتى يقبسوا من أخلاقهم و آدابهم ، فيربطوا العلم و القرآن مع السلوك ، فطلب
العلم كما يقول الشوكاني : (( له ركنان : أدب النفس ، و أدب الدرس )) ، و يقول
أيضاً : (( .. و لعل اشتراط العلماء أن يكون طالب العلم قد تلقى علمه عن شيوخ
لا عن كتب ، كي يتأكدوا من تخلقه بأخلاق العلماء ، و تحليه بأدبهم ، و هذا لا
يحصل إلا بالمعرفة و المصاحبة و الاختبار ، و بعده يكون التوثيق و التعديل ، إذ
العلم لا يؤخذ عن مجهول أو مستور )) . و لذلك قالوا : (( لا تصاحب من لا ينهض
بك حاله ، و لا يدلك على الله مقاله )) .
بعد هذا نقول .. إن البقاء في مرحلة التدين الفكري ربما يؤدي إلى فقدان التوازن
عند المرء ، فانفصال الفكرة عن السلوك يجعل صاحبه يحاول أن يجد مسوّغاً عقلياً
بل و شرعياً أيضاً لتصرفه السلوكي ، و هذا أمر متعب للنفس ، لأنه لا يستطيع أن
يعيش حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني و واقعه العملي ، فلابد من الصدق و الوضوح
، و هذا لا يكون إلا بانسجام الفكرة مع السلوك . يقول سيد قطب : (( .. فالقلب
متى تذوق حلاوة هذا الإيمان و اطمأن إليه و ثبت عليه ، لابد مندفع لتحقيق
حقيقته في خارج القلب .. في واقع الحياة ، في دنيا الناس ، يريد أن يوحد بين ما
يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، و ما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور و
واقع الحياة ، و لا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية الوضيئة التي
في قلبه و حسه ، و الصورة الواقعية من حوله ، لأن هذه المفارقة تؤذيه و تصدمه
في كل لحظة )) .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علمتنا ، و زدنا علماً .... ، اللهم آمين
، و الحمد لله رب العالمين .
لبنى شرف – الأردن .