|
أستغرب من المفهوم السائد عند بعض المسلمين عن الطلاق و كأنه شبح مخيف ينبغي عدم
الاقتراب منه أو إيقاعه ، مع أن من المفروض أن يكون الطلاق وسيلة علاج و حلاً
لمشكلة ، لا أن يكون هو مشكلة في حد ذاته !! ، فالإسلام ابتداءً ينظر للبيت
المسلم على أنه (( مثابة و سكن ، في ظله تلتقي النفوس على المودة و الرحمة و
التعاطف و الستر و التجمل و الحصانة و الطهر ، و في كنفه تنبت الطفولة ، و تدرج
الحداثة ، و منه تمتد وشائج الرحمة و أواصر التكافل )) . و الأصل في الرابطة
الزوجية الاستقرار و الاستمرار ، و الإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي
تكفل استقرارها و استمرارها ، و لا يسرع إلى فصم هذه الرابطة لأول وهلة ، و لا
لأول بادرة خلاف ، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام ، بل إنه يشد عليها
بقوة ، و لا يدعها تفلت إلا بعد المحاولة و اليأس ، فإذا تبين بعد الصبر و
التجمل و المحاولة و الرجاء أن الحياة غير مستطاعة ، و أنه لا بد من الانفصال ،
فعندئذ يحسن أن ينصرف كل من الزوجين إلى التماس شريك جديد ، لوجود فساد أصيل في
حياتهما الزوجية .
و الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتعذر معها الحياة الزوجية على
الرغم من جميع الضمانات و التوجيهات ، و تعصف بالبيت المسلم رياح لا يستقر معها
سكن و لا طمأنينة ، و لا تصلح معها تربية و لا إعداد للناشئين في المحضن الأسري
، فإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة ، يزيدها الضغط فشلاً ، و
عبث لا يقوم على أساس ، و من الحكمة إنهاء هذه الحياة ، لأنها لو استمرت فإما
أن تكون حياة بليدة و جافة ، و إما أن يصاب الزوجان و الأولاد بالعقد و الأمراض
النفسية و العصبية ، و إما أن ينتحر أحد الزوجين أو كلاهما !! ، إذن فمن الأفضل
أن تُفك عقدة النكاح ، و أن يحاول كل من الزوجين أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع
شخص جديد ، فذلك أكرم لهما و أعف و أصون ، و أروح و أجدى ، و أقرب إلى العدل و
الجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميدها .
و من المهم كذلك أن ننظر في قضية الطلاق إلى واقع النفس البشرية ، و واقع
الحياة العملية ، لا أن نهوم في رؤى ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض في عالم
الحياة !! . يقول الأستاذ سيد قطب – يرحمه الله - : (( إن الإسلام يشرع لناس من
البشر ، لا لجماعة من الملائكة ، و لا لأطياف مهومة في الرؤى المجنحة ! و من ثم
لا ينسى – و هو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته و توجيهاته – أنهم بشر ، و
أنها عبادة من بشر .. بشر فيهم ميول و نزعات ، و فيهم نقص و ضعف ، و فيهم
ضرورات و انفعالات ، و لهم عواطف و مشاعر ، و إشراقات و كثافات .. و الإسلام
يلاحظها كلها ، و يقودها جملة في طريق العبادة النظيف ، إلى مشرق النور الوضيء
، في غير ما تعسف و لا اصطناع ، و يقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان
إنسان ! و من ثم يقرر الإسلام الطلاق و يشرّع له ، و ينظم أحكامه و مخلفاته ،
في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد كل أركان البيت ، و توثيق أواصر الأسرة
، و رفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة .. إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا
النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة ، في طاقة الإنسان ، و مقصود بها هذا الإنسان
. إنه التيسير على الفطرة ، التيسير الحكيم على الرجل و المرأة على السواء ،
إذا لم يقدر لتلك المنشأة العظيمة النجاح ، و إذا لم تستمتع تلك الخلية الأولى
بالاستقرار ، فالله الخبير البصير ، الذي يعلم من أمر الناس ما لا يعلمون ، لم
يرد أن يجعل هذه الرابطة بين الجنسين قيداً و سجناً لا سبيل إلى الفكاك منه ،
مهما اختنقت فيه الأنفاس ، و نبت فيه الشوك ، و غشاه الظلام ، لقد أرادها مثابة
و سكناً ، فإذا لم تتحقق هذه الغاية – بسبب ما هو واقع من أمر الفطر و الطبائع
– فأولى بهما أن يتفرقا ، و أن يحاولا هذه المحاولة مرة أخرى ، و ذلك بعد
استنفاد جميع الوسائل لإنقاذ هذه المؤسسة الكريمة ، و مع إيجاد الضمانات
التشريعية و الشعورية كي لا يضار زوج و لا زوجة ، و لا رضيع و لا جنين .. و هذا
من النظام الرباني الذي يشرعه الله للإنسان )) .
إن الإسلام يراعي جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس ، و يراعي مشاعر
القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها ، و لا يقسر الزوج و لا الزوجة على
حياة ينفران منها ، و مما يدل على هذا أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله
عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ! ثابت بن قيس ، أما إني ما أعيب عليه في خلق
ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم ، قال رسول الله : " اقبل الحديقة و طلقها
تطليقة " [ صحيح ، الألباني – صحيح النسائي : 3463 ] . هذه حالة قبلها رسول
الله – صلى الله عليه و آله و سلم - ، (( و واجهها مواجهة من يدرك أنها حالة
قاهرة لا جدوى من استنكارها و قسر المرأة على العشرة ، و أن لا خير في عشرة هذه
المشاعر تسودها ، فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية
مواجهة صريحة عملية واقعية ، و يعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل
فيها من مشاعر حقيقية )) . و أما حديث " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " الشائع
بين المسلمين ، فقد ضعفه جمع من العلماء الأثبات ، و النقاد الحفاظ ، و لكن هذا
لا يعني التساهل و العبثية في إيقاع الطلاق .
و العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترتقي بالنفوس و بالاهتمامات و بالحياة
الإنسانية ، و تقوى الله هي الضمان و الضابط في حالات الطلاق و التفريق بين
الزوجين ، فمجال الاحتيال و التلاعب و المضارّة واسع فيها ، و ألوان العنت التي
يمكن أن يسببها كل من الزوجين للآخر لا يحصرها نص قانوني مهما اتسع ، فبوجود
التقوى في النفوس يسود المعروف و الجميل و الحسنى جو الحياة الزوجية ، سواء
اتصلت حبالها أو انفصمت عراها ، و لا يمكن أن تكون نية الإيذاء و الإعنات
عنصراً من عناصرها .. (( و لا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة
الانفصال و الطلاق التي تتأزم فيها النفوس ، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة
الأرضية ، عنصر يرفع النفوس عن الإحن و الضغن ، و يوسع من آفاق الحياة و يمدها
وراء الحاضر الواقع الصغير .. هو عنصر الإيمان بالله و الإيمان باليوم الآخر ..
و استحضار تقوى الله ، و الرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة و النفقة
الضائعة ..)) .
و آيات الله في العشرة و الطلاق واضحة و جادة ، كقوله تعالى : ﴿ ..
فأمْسِكوهُنَّ بِمعْروفٍ أو سَرِّحوهنَّ بمعروفٍ و لا تُمْسِكوهنَّ ضِراراً
لِّتعْتدوا ..﴾..{ البقرة : 231 } ، و ﴿ .. و لا تُضآرّوهُنَّ لِتُضَيِّقوا
عليهِنَّ ..﴾..{ الطلاق : 6 } ، و ﴿ .. و أن تعفوا أقربُ للتقوى و لا تَنْسَوُا
الفضلَ بينكمْ ..﴾..{ البقرة : 237 } ، و ﴿ .. لا تُضآرُّ والدةٌ بوَلَدِها و
لا موْلودٌ لّه بِوَلَدِهِ ..﴾..{ البقرة : 233 } ، و غيرها من الآيات الكريمة
، كلها تستجيش شعور التقوى و مراقبة الله ، و شعور السماحة و التفضل ، ليسود
التجمل و التفضل و المعروف جو هذه العلاقة ، ناجحة كانت أم خائبة ، و لتبقى
القلوب نقية خالصة صافية ، موصولة بالله في كل حال . و الآيات المذكورة في سورة
الطلاق تشير بشكل واضح و جلي إلى علاقة التقوى بحالات الطلاق ، فالله تعالى
يقول : ﴿ .. و مَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجاً ﴾ ، و ﴿ .. و مَن
يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾ ، و ﴿ .. و مَن يَتَّقِ
اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ و يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾.. { الطلاق :
2،4،5 } ، فمجال الكيد و التلاعب في قضايا الطلاق واسع ، و لا يقف دونه إلا
تقوى الله .
إن المتتبع لأحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية يجد بأنها لا تدع من البيت
المتهدم لا أنقاضاً و لا غباراً يملأ النفوس و يغشى القلوب ، و لا تترك عقابيل
غير مستريحة بعلاج ، و لا قلاقل تثير الاضطراب ، و لا وساوس أو هواجس تمنع
القلوب من السماحة و التيسير و التفضل . و حتى المطلقة قد أُشير إليها في قوله
تعالى : ﴿ و المُطَلَّقـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلـٰثَةَ قُروءٍ
..﴾..{ البقرة : 228 } ، و التعبير القرآني في كلمة " يتربصن " تعبير لطيف و
دقيق ، يصف حالة نفسية عند المطلقة ، فهي تنتظر انقضاء عدتها ، و لكن مع تحفز و
توفز لاستئناف حياة زوجية جديدة ناجحة ، تعوضها عن إخفاقها في حياتها الزوجية
الأولى ، و هذه حالة طبيعية ، فليس بالضرورة أن يعني إخفاقها في حياة زوجية
عجزها عن أن تنشئ حياة زوجية أخرى ناجحة ، و لا ينبغي أن ينظر لها المجتمع
المسلم هذه النظرة السوداوية القاتمة و الجائرة ، و كأنها كائن شرير ينبغي
الاحتراز منه ، كما هي النظرة اليوم عند بعض المسلمين و للأسف ! .
هذه قضية الطلاق كما أراها في ضوء شرعنا الحكيم بكل يسر و واقعية ، و بلا تعقيد
أو مثاليات مستحيلة ، و لقد طبق الصحابة – رضي الله عنهم - هذه الأحكام الواردة
في الطلاق عندما عمرت التقوى قلوبهم ، و كانت الآخرة همهم ، و لم يتعلقوا
بمتعلقات أرضية فانية ، و لم تتلوث عقولهم بمفاهيم غربية دخيلة ، فعاشوا في
مجتمع مسلم في أرقى و أصفى صوره . و لكن المتأمل اليوم في واقع المسلمين ، يجد
أن معيار التقوى قد نقص عند البعض ، و غاب عند آخرين ! فضاعت الحقوق ، و أصبحت
لذلك قضية الطلاق تعني مأساة و طامة تقع على الزوج و الزوجة و الأولاد ، و من
أراد أن يعرف حجم المأساة فليذهب إلى المحاكم لينظر كم هي كثيرة قضايا الطلاق و
طلب التفريق ، و ليرى كيف أن كلا الزوجين يكايد صاحبه حتى تنفقئ مرارته .. و لا
حول و لا قوة إلا بالله !!! .
اللهم يسر لنا ما نخاف عسره ، و سهل لنا ما نخاف حزونته ، و فرج عنا ما نخاف
ضيقه ، و نفس عنا ما نخاف غمه ، و فرج عنا ما نخاف كربه ، يا أرحم الراحمين ...
اللهم آمين ، و الحمد لله رب العالمين .
لبنى شرف – الأردن .