|
إن الأخطار و التحديات التي تواجه أمة الإسلام اليوم كثيرة ، و إن الحرب متعددة
الأساليب التي يشنها عليها خصومها ، و المصائب و المحن و النكبات التي تلم بها
لتجعل الحليم حيراناً ، و لكن الأمراض التي تنخر في جسد الأمة ولدت لديها
القابلية للهزيمة أمام هذه الحرب و هذه الأخطار و التحديات ، و ما هذه الأمراض
إلا أعراض لمرض واحد ، ألا و هو البعد عن منهج الله ، و التقاعس عن حمل رسالة
الإسلام ، و القعود عن القيام بواجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، فكثير
من المسلمين نسي الغاية الأولى و انشغل عنها بالاهتمامات الدنيوية التي لا
يحتاج منها إلا بمقدار ما تحتاجه الرحلة الدنيوية ، فالدنيا دار عبور و ليست
دار قرار و خلود ، و يكفيه التزود منها بما يصلح حاله فيها و يعينه على أداء
مهمته الأولى ، و لكن اختفاء الموازين الإسلامية أدى إلى سيطرة الأهواء و
الشهوات و تشوه الأفكار و المفاهيم و التصورات ، ففسدت العقول و القلوب و ران
عليها ما ران ، و أصبحت الأمة بهذا الحال .. !! .
هذا يجعل التركيز على إعداد الجماعة المسلمة لحمل أمانة الخلافة في الأرض و
لاستئناف حمل رسالة الإسلام حتى تبلغ الدعوة أقصى العالم و تتوطد دعائم الإيمان
و السلام فيه أمراً ضرورياً و ملحاً ، و الأمة اليوم بحاجة إلى نفس التوجيهات
التي تلقتها الجماعة المسلمة الأولى في بناء تصورها الصحيح ، و في تلمس معالم
طريقها واضحة .
و الأمة المسلمة اليوم ، و بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض ، في
حاجة إلى أن تتميز بشخصيتها و بتصورها ، و بأهداف و اهتمامات تتفق مع هذه
الشخصية و هذا التصور المنبثق عن عقيدتها ، و أن تتميز برايتها التي تُعرف بها
بأنها خير أمة أخرجت للناس ، فالبشرية لا تنقاد لأمة ليست لديها رسالة سامية و
برنامج حياة كامل يرقى بالإنسانية و بالحياة و ينميها .
قال تعالى : ﴿ كُنتُمْـ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تأْمُرونَ
بِالمَعْروفِ و تَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ و تُؤْمِنونَ بِاللهِ ﴾..{ آل عمران
: 110 } ، يقول سيد قطب : (( و هذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة ، لتعرف
حقيقتها و قيمتها ، و تعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ، و لتكون لها القيادة ، بما
أنها هي خير أمة ، و الله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض ، و
من ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية ، إنما ينبغي دائماً أن
تعطي هذه الأمم مما لديها ، و أن يكون لديها دائماً ما تعطيه ، ما تعطيه من
الاعتقاد الصحيح ، و التصور الصحيح ، و النظام الصحيح ، و الخلق الصحيح ، و
المعرفة الصحيحة ، و العلم الصحيح .. هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ، و
تحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائماً ، و في مركز
القيادة دائماً . و لهذا المركز تبعاته ، فهو لا يؤخذ ادعاءً ، و لا يسلم لها
به إلا أن تكون هي أهلاً له .. و هي بتصورها الاعتقادي ، و بنظامها الاجتماعي
أهل له ، فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي ، و بعمارتها للأرض – قياماً بحق
الخلافة – أهلاً له كذلك .. و من هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة
يطالبها بالشيء الكثير ، و يدفعها إلى السبق في كل مجال .. لو أنها تتبعه و
تلتزم به ، و تتدرك مقتضياته و تكاليفه . و في أول مقتضيات هذا المكان أن تقوم
على صيانة الحياة من الشر و الفساد ، و أن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر
بالمعروف و النهي عن المنكر ؛ فهي خير أمة أخرجت للناس ...)) .
و إعداد الجماعة المسلمة يكون بإعداد الفرد المسلم ، الذي هو الدعامة الرئيسة
التي يقوم عليها بناء الأمة المسلمة ، و ذلك بتربيته تربية إيمانية صحيحة ،
تقوم على بناء العقيدة الإسلامية ، بحيث تكون لديه عقيدة صحيحة واضحة راسخة و
حية ، تنبثق عنها تصوراته و قيمه و موازينه في الحياة ، و على تهذيب نفسه و
إرادته حتى يرتقي و يترفع عن الخضوع للشهوات و الأهواء ، و يحيى وفق مراد الله
، و على استحياء شعور التقوى في روحه ، و إصلاح قلبه حتى يبقى طيباً نقياً من
نتن الأمراض و الانفعالات السوداء الخسيسة التي تفتك به ، فمرضى القلوب أكثر من
مرضى الأبدان ، و صلاح دين الفرد لا يتم إلا بصلاح قلبه و فك إساره من حب
الدنيا و الأخلاق الذميمة و من كل ما يشغل عن الله ، و لقد كان الفقهاء يعترفون
بفضل علماء القلوب ، فقد قال الإمام الغزالي : (( كان أهل الورع من علماء
الظاهر مقرين بفضل علماء الباطن و أرباب القلوب . كان الإمام الشافعي يجلس بين
يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبي في المكتب و يسأله كيف في كذا و كذا ؟ فيقال
له : مثلك يسأل هذا البدوي ؟ فيقول : إن هذا وفق لما أغفلناه . و كان أحمد بن
حنبل و يحيى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي ، و لم يكن في علم الظاهر
بمنزلتهما ، و كانا يسألاه )) .
و كذلك على استنهاض همته لحمل رسالة الإسلام ، فهو بغير هذه الرسالة سينفق
طاقته في اهتمامات فارغة ، و ستصبح الدنيا هي كل همه و هي التي تشغله و تملأ
عليه فراغ نفسه !! و لكنه بحمل رسالة الإسلام سيقود البشرية إلى ما هو أرفع و
أكمل ، فالإيمان يهب الإنسان رفعة الهدف ، و ضخامة الاهتمام ، و شمول النظرة ،
و نحن إن كنا مؤمنين حقاً لكنا فوق الأمم .. ﴿ .. و أنتم الأعلَوْن إن كنتم
مؤمنين ﴾.. { آل عمران : 139 } .
ثم لا بد من دراسة العلوم الشرعية كالفقه و الحديث و غيرها ، و كذلك العلوم
الحياتية التي تحتاجها الأمة و لا تستقيم الحياة بدونها ، و هي على سبيل فرض
الكفاية ، و متابعة كل جديد فيها ، فالحياة في تطور دائم و الحاجات تتجدد و
تختلف من عصر إلى عصر .
و بجانب هذا لا بد من أن يكون للمسلمين هيبة و قوة يرهبون بها أعداء الإسلام
فلا يفكروا في الاعتداء على دار الإسلام ، و لا في الوقوف في وجه تبليغ الناس
دعوة الحق و النور ، فينبغي على أمة الإسلام أن تستعد بما في وسعها و طاقتها و
استطاعتها في إعداد هذه القوة على اختلاف صنوفها و ألوانها و أسبابها .. ﴿ و
أَعِدّوا لَهُمـ مّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ و مِن رِّباطِ الخَيْلِ
تُرْهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ و عَدُوَّكُمْـ ..﴾..{ الأنفال : 60 } .
و لكن و حتى تؤتي التربية ثمارها لا بد من تظافر العلم مع العمل حتى يثمر هذا
تغييراً في السلوك ، فالعناية في تحصيل العلوم الشرعية و العقلية و التعمق فيها
دون عناية بالتطبيق العملي يؤدي إلى جفاف الروح و فقدان التقوى و نسيان الآخرة
، و مجلس الذكر إن لم يهيج الرغبة في الخير فلا خير فيه ، (( فسمة الإسلام هي
الوحدة بين الشعور و السلوك ، بين العقيدة و العمل ، بين الإيمان القلبي و
الإحسان العملي .. بذلك تستحيل العقيدة منهجاً للحياة كلها ، و بذلك تتوحد
الشخصية الإنسانية بكل نشاطها و اتجاهاتها ، و بذلك يستحق المؤمن هذا العطاء
كله : ﴿ بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ و هو مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِندَ رَبِّهِ و لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ و لا هُم يَحْزَنونَ ﴾..{ البقرة : 112 }
. و المطابقة بين القول و الفعل ، و بين العقيدة و السلوك ، ليست مع هذا أمراً
هيناً و لا طريقاً معبداً ، إنها في حاجة إلى رياضة و جهد و محاولة ، و إلى صلة
بالله و استمداد منه و استعانة بهديه ، فملابسات الحياة و ضروراتها و
اضطراراتها كثيراً ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو
إليه غيره )) .
إن عملية التربية التي ذكرنا ، سواء كانت فردية أم جماعية ، لا بد لها من خطة
شاملة و مدروسة ، و منهاج تربوي صائب و حكيم ، يراعي التدرج و ترتيب الخطوات ،
تتوحد فيه جهود العلماء و المربين و الموجهين و القادة في وفاق و تآلف ، و
تتطابق فيه أهدافهم ، و تتكامل أفكارهم و أدوارهم ، و تكون نياتهم و غاياتهم
خالصة في سبيل الله و بما يتفق مع روح الرسالة الإسلامية .
و لا بد بجانب هذا المنهج الصائب و إخلاص النيات لله ، من صفات يتحلى بها هؤلاء
العلماء و المربون ، و من مقومات تؤهلهم للتربية ، و إلا فإن جميع الجهود و
الطاقات سوف تذهب سدى و تبوء بالفشل . فمن المقومات التي ينبغي أن تكون فيمن
يقوم على التربية و الإصلاح و الإرشاد – بعد إخلاص النية لله - : نظافة العقل ،
و طهارة القلب ، و أن تكون لديه حكمة في التعامل مع كل فرد على حدا و الصبر
عليه ، و أن يولي اهتماماً أكبر لمن تبدو عليه علامات النجابة و الذكاء و
الشخصية القيادية ، فهؤلاء هم الذين ينبغي إعدادهم ليكونوا قادة التغيير ، حتى
يحدثوا التغيير المنشود في الأمة . و أنا أتفق مع الأستاذ الفاضل محمد قطب
عندما قال : (( ليس كل إنسان طيب الخصال قادراً على القيادة و لا الزعامة ، و
لا مطالباً بها كذلك ! فهي أصلاً موهبة لدنية ، تصقلها التجارب و تزيدها مضاءة
و قدرة ، و لكنها لا تنشئها حيث لا تكون ! )) . و هذا يوجه خاصة لمن يربي تربية
فردية ، كالأب و المعلم و الشيخ في الدرس و أمثالهم ، و قد كان الشيخ عبد
القادر الجيلاني حكيماً في هذه النقطة ، فقد قام أسلوبه في التدريس و التربية
على مراعاة استعدادات كل طالب و الصبر عليه ، و كان ينتدب النابهين من تلاميذه
و أتباعه الذين تبدو عليهم شارات النضج الفكري و الروحي للمشاركة في النشاط
القائم ، أو يوجهون للعمل على نشر هذا النشاط في مناطق أخرى . و هو بذلك يكون
قد جمع بين التربية الفردية و الجماعية في نفس الآن ، فالتربية الجماعية لا
تعني أن تُلغى شخصية الفرد و مقوماته ، و إنما تثير فيه الرغبة في خدمة الجماعة
بما آتاه الله من مواهب و طاقات ، و الجماعة في نفس الوقت تكون كافلة لهذا
الفرد . و التربية الفردية كما يقول الأستاذ محمد قطب : (( وحدها لا تنشئ
كياناً سوياً للإنسان ، لأن هناك جوانب من النفس البشرية لا تنضج و لا تعمل إلا
في داخل جماعة . فإذا لم يلتق الإنسان بالجماعة ، أو لم يتعود التعامل معها ،
فستظل هذه الجوانب كامنة معطلة غير مدربة على العمل ، فتنكمش و تتضاءل )) .
و في نفس السياق يقول الأستاذ فتحي يكَن : (( إن العملية التربوية يجب أن تبدأ
بعد كشف الحالة التي عليها الفرد لمعرفة : أفكاره و كيف يفكر ، تصرفاته و كيف
يتصرف ، علاقاته و من يعاشر ، مشاكله و مسبباتها ، ميوله و غرائزه و مدى تحكمه
فيها ، نقاط القوة و الضعف عنده ، مكامن الخير و الشر فيه .. بعد ذلك ، يمكن
تحديد المنهج موضوعاً و كيفية .. و كل عملية تربوية تتم خلاف ذلك لا تحقق إلا
تراكمات جديدة في شخصية الفرد ، قد تصيب حيناً و لكنها تكون فاشلة في غالب
الأحيان ، لأن الجديد بُني على اعوجاج القديم .
و في معظم الأحيان يعود الفشل في الحقل التربوي إلى الأمور التالية :
1. أن المربي لم يستكشف شخصية الفرد و مفردات تكوينه السابقة ليبني على أساسها
.
2. أن المربي لا يملك المقومات التي تساعد على التربية . ( كأن يكون – كما ذكر
الأستاذ محمد قطب – حسن الإعطاء غير منفر ، و لديه القدرة على القيادة و
المتابعة و التوجيه المستمر ، و أن تكون شخصيته أكبر من شخصية المتلقي ، و
غيرها مما ذكرنا آنفاً ) .
3. أن المادة التربوية لم يُحسن اختيارها فتفعل بالتالي مفعولها .
4. أن بناء الجديد كان في الفراغ أو على أساس غير سليم ، أو فوق تراكمات لم يجر
رفعها و إزالتها )) .
إن من الأمثلة التي تنطبق على ما ذكره الأستاذ فتحي يكن ، أن يسيء الأب تربية
ولده ، و قد ذكر الإمام ابن القيم (( أن أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل
الآباء و إهمالهم لهم ، و ترك تعليمهم فرائض الدين و سننه .. )) ، ففي مثل هذه
الحالة يحتاج الأمر إلى أن تتولى جهة أخرى تربيته ، فينبغي على هذه الجهة أن
تستكشف شخصية هذا الفرد و ما هو عليه ، حتى تعرف كيف تتعامل معه و كيف تكون
تربيته ، كما كان يفعل الشيخ عبد القادر مع طلابه كما ذكرنا .
و أما العلماء فالمسؤولية الملقاة على عاتقهم كبيرة ، فالأمة بحاجة إلى علماء
فقهاء ، يفقهون تزكية النفوس ، و صياغة العقول ، و توحيد الجهود ، و يفقهون
قوانين بناء و انهيار المجتمعات و قوانين التغيير ، لا خطباء يدغدغون المشاعر و
العواطف و يدعون الأمة تتلهى بالأماني دون أن تفقه كيف تجابه التحديات التي
تواجهها !! . يقول ابن مسعود – رضي الله عنه - : (( في آخر الزمان يكثر الخطباء
و يقل الفقهاء )) .
إن دور العلماء في تنشئة الجيل المسلم حتى تبرز من بين صفوفه قيادات ناضجة تكون
قيادات التغيير المنشود ، و دورهم في توجيه هذه القيادات ، فكرية كانت أم
سياسية أم عسكرية أم اقتصادية .. ، دور مهم و خطير ، و مع أن الخلفاء الراشدين
كانوا علماء فقهاء ، إلا أنهم لم يستغنوا عن مشاورة العلماء في بعض الوقائع . و
كذلك كان لدى نور الدين زنكي مجلس دوري يلتقي فيه القادة و العسكريون مع
العلماء المختصين ، حيث يحتل العلماء المنزلة الأولى فيه .
فلو كان العلماء على ما يجب أن يكونوا عليه من الإخلاص و التجرد و الفهم ، و
احتلوا المكانة الأولى في التوجيه ، لصلح المجتمع و انتظمت الحياة .
إننا ننشد من وراء خطة الإعداد و التربية هذه إنشاء جيل جديد ، جيل صحوة صحيحة
، راسخ العقيدة ، نظيف العقل ، طاهر القلب ، مُنَوَّر الفكر ، تبرز من بين
صفوفه قيادات ناضجة حكيمة في شتى مجالات الحياة ، تخلص نياتها لله ، و تنشر
دعوة الحق ، و تنتصر لدين الله لا لأنفسها و لأهوائها و آرائها و رغباتها ،
تكون قيادات التغيير المنشود ، الذين يقرون في الأرض المنهج ، و يقودون البشرية
إلى ما هو أرفع و أكمل ، و يحملون راية الإسلام ، فما العز إلا بها ، و المنهج
الذي خرّج الجيل الأول من الجماعة المسلمة ، و جعل منها أمة تقود البشرية تلك
القيادة الحكيمة الراشدة ، على استعداد لتخريج أجيال و قيادات على مدار الزمان
، لو رجعت الأمة المسلمة إلى نفس المعين الذي استقت منه تلك الجماعة ، و لو
آمنت حقاً بهذا القرآن ، و لو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغن باللسان لتطريب
الآذان !! .
و نور الدين زنكي مثال من أمثلة قيادات التغيير الناضجة في الجانب السياسي و
العسكري ، تربى تربية إسلامية ، و كان تقياً ورعاً ، حتى عده المؤرخون سادس
الخلفاء الراشدين ، و كان محدثاً ، عارفاً بمذهب أبي حنيفة ، و كذلك كان رجاله
و معاونوه و قادة جيوشه و منهم صلاح الدين الأيوبي ، على نفس المستوى من العلم
و الأخلاق .
و قد تميزت إدارة نور الدين بمهارات فائقة في التخطيط و التنظيم و التنفيذ ،
مما أهل الأمة لمجابهة التحديات التي تواجهها في الداخل و الخارج ، كاعتماد
مبدأ الشورى و تبادل الآراء بمشاركة العلماء و الفقهاء في كل أمور الدولة ، و
عدم الانفراد باتخاذ القرارات ، و كانت هناك صلات وثيقة بينه في دمشق و بين
الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد ، و هذا من فطنة و ذكاء و حكمة نور الدين ،
في تقديره ضرورة توحيد الجهود و الطاقات و القيادات الفكرية و السياسية ..
لمواجهة التحديات التي كانت تجابه العالم الإسلامي في ذلك الوقت .
و مما ميز إدارة نور الدين كذلك التفاني في أداء الواجب بتعاون و تآخي ، و
الزهد و التعفف و بذل المال في الصالح العام ، و غلبة المصلحة العامة على
المصالح الشخصية ، فقد كان نور الدين و معاونوه يعالجون المشاكل التي قد تثور
بينهم بما يتفق مع المصلحة العامة ، و بما تقتضيه وحدة الكلمة ، و تغليب جانب
الأخلاق الإسلامية . و كان نور الدين يتقبل النقد بصدر رحب ، و ينظر في كلام
الناقدين ، فإذا رأى فيه ما ينفع سارع إلى الأخذ به . و كان حريصاً على العدل ،
و على ألا يُظلم أحد من الرعية أو يتعرض للأذى أو الضغط ، و على تنمية روح
العزة و الشعور بالكرامة عند أبناء الأمة و كفالة حرية الرأي ، فاعتمد بدل
القسر على منطق الشرع و العقل . قال ابن الأثير : (( و من عدله أنه لم يعاقب
على المظنة و التهمة ، بل يطلب الشهود على المتهم ، فإن قامت عليه بينة شرعية
عاقبه العقوبة الشرعية من غير تعد . فدفع الله تعالى بهذا الفعل عن الناس من
الشر ما يوجد في غير ولايته من شدة السياسة و المبالغة في العقوبة و الأخذ
بالظنة ، و أمنت البلاد مع سعتها ، و قل المفسدون ببركة العدل و اتباع الشريعة
المطهرة )) .
و على هذه السيرة الحسنة الصالحة سار صلاح الدين الأيوبي ، و على نفس المستوى
من العلم و الورع و الكفاءة كان رجاله ، فصلاح الدين ما كان ليصنع شيئاً وحده ،
فتُوجت جهودهم بإخلاصهم لله و بأخذهم بالأسباب بأن حرروا القدس و المسجد الأقصى
، و كان جيش صلاح الدين يتقدمه جميع القيادات ، و يضم الأمراء و العلماء و
الفقهاء ... فهل عرفتم الطريق التي يجب أن تسلكوها لتحرير الأقصى اليوم يا من
تنادون صباح مساء .. قم يا صلاح الدين ؟!! ، فصلاح الدين لم يكن يبتسم ، و يقول
: و كيف أبتسم و الأقصى يئن جريحاً في الأسر !! ، كان هم تحرير الأقصى متأصل في
وجدانه و يشغل باله و تفكيره ، أما نحن ، فكم منا من يتذكر الأقصى و الآلام و
الجراحات التي تصيب أمته عند أكله و شربه و نومه ، أو يجلس مع نفسه يتفكر في
حال هذه الأمة اليوم ؟! كم منا من يعيش مع هم أمته و ما يصيبها من أحزان و لا
ينفعل مع الأحداث انفعالات لحظية ثم ما تلبث أن تذهب أدراج الرياح مع هدوء
العاصفة ، و تصبح الوقائع شيئاً طبيعياً اعتاد سماعه من وسائل الإعلام ، و هكذا
الحياة تسير و يسير هو مع هذه الحياة !! . لا بد من أن نعيد حساباتنا ، فليس
الأمر بالأماني ، و إنما بالجهد و العمل و البذل و التضحية في سبيل الله ،
باتباع شرع اللله و التربية و تطهير العقول و إصلاح القلوب و جمع الكلمة و
توحيد الصفوف و نبذ العنصرية و العصبية المقيتة ، و تكامل الجهود و الطاقات و
القيادات ، و إعداد العدة .
إن هذا بعضاً مما ميز قيادة نور الدين زنكي و جعله أهلاً لمنصب القيادة ،
فالقائد لا بد له من ميزات و صفات تؤهله ليتبوأ مركز القيادة ، و لا ينبغي أن
يترشح لهذا المكان من ليست فيه هذه الصفات ، فالذي لا يكون قدوة لفريقه ، في
الدين و العلم و الخلق ، و لا يتمتع بالذكاء و الحكمة و رجاحة العقل و التواضع
، و لا يستطيع أن يجعل فريق العمل كأنهم على قلب رجل واحد ، و غاياتهم خالصة
لله ، و هدفهم الوصول للحق و ليس انتصار كل لرأيه و فكرته ، ليس أهلاً لأن يكون
قائداً ، و الذي يعزز فردية العمل داخل الجماعة و لا يحرص على توحيد جهود
الأفراد في فريق العمل و تكامل أدوارهم و أفكارهم و استثمار طاقاتهم و استخراج
أحسن ما لديهم ، و التنسيق بينهم و بين الفرق و الجماعات الأخرى ، لا ينبغي أن
يكون في منصب القيادة ، فالقائد كما قلنا لا بد له من مقومات خاصة تؤهله لأن
يستلم مركز القيادة ، و كما رأينا كان نور الدين و صلاح الدين مثالين رائعين
للقيادة الحكيمة الناضجة ، و تاريخ الدولة الإسلامية مليء بنماذج مشرقة كالشمس
من القيادات الناضجة ، و كلهم كان يتأسى بالقائد و المربي الأول – عليه و آله
أزكى الصلاة و السلام - ، و كلهم كانوا قادة و أمراء و لكن في ذل لله لينشروا
دعوة الإسلام .
فيا الله .. عوناً في طريق الدعوة ... آمين ، و الحمد لله رب العالمين .
لبنى شرف – الأردن .