تباريح في سيرة العلامة حمد السريح

تباريح في سيرة العلامة حمد السريح

عبدالله سعيد أبوحاوي القحطاني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد:
ففي أحد الأيام دعاني أحد طلبة العلم الكرام لحضور درس أحد الشيوخ الأعلام، ولم أكن إذْ ذاك أعرفه أو أسمع به، إلا أن صاحبي حث كثيرا على الحضور والاهتمام ، وكان الدرس كما هو معهود في بعض أيامنا عن بُعد، حضرنا وسمعنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفِرا كل الصيد!!
وقد سمعت في أول الدرس كلاما في الحث على الإخلاص في العلم والعمل، لا أظن أني سمعته من قبل ! سرد من نوادر الأحاديث والأثار، وأقوال السلف الأبرار ما يُعجب ويُدهش، ثم شرع وكان الدرس في شرح كتابِ مَن أحبه قلبي، وأسْهَرتْ كتبه وفوائده نهاري وليلي، كتاب "المحرر" للحافظ الهُمام محمد بن عبدالهادي طالب شيخ الإسلام.
وفي تلك الليلة شرح شيخنا حديثا واحدا فقط أتى فيه بأفانين من العلوم والفهوم، وفي آخر الدرس فُتح المجال للسؤال؛ فرشقته شآبيب المسائل من كل جانب ، فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر!!
ومضى على هذا أشهرا، وكل لقاء يغوص بحر فكره على نفائس ودررا!!
حصل لي من الظروف مع الخروج في طريقة الطلب الحديثة عن المألوف؛ ما لم أستطع بعد ذلك الحضور. والله المستعان .
إنَّ من أتكلم عنه في هذا المقال، وأترجم له على غاية من الإعجال كالارتجال أو قريبا من الارتجال، هو شيخنا العالم المفضال، الحجة الحافظ النقّال ، المتضلع من فنون كثيرة، والمتمرس في علوم غريبة، حافظ لا يجارى ، ولافظ لايبارى، صاحب الشكل المليح، واللسان الفصيح،والعقل الرضي الصحيح، الشيخ حمد بن عبدالرحمن السريح، القصيمي النجدي -فسح الله في مدته ، وبلغه من خير الدارين غاية أمنيته، وهو من مدينة عنيزة.
وبعد الدرس المذكور وقد سمعت فيه ما يُثلج الصدور؛ عزمت على السفر إلى ديار الشيخ، ديار العلم والعلماء، والعُبّاد الأتقياء، وقد رافقني إلى ذلك أحد الأصحاب الشرفاء .
وصلنا للقصيم، وخطتنا أن نقرأ على بعض المشايخ هناك، وكان منهم وفي مقدمتهم شيخنا المُترجم له ،فحصل بفضل الله وجوده ما كنا نرجوه وأكثر، إلا أن زيارة شيخنا كانت في اليوم الأخير من هذه الرحلة التي لا أنساها،
وتالله لو لم نعتسف مفازات الطريق إلا لمشاهدة هذا الشيخ والجلوس معه؛ لكانت الصفقة الرابحة والوجهة الناجحة، فلله الحمد على ما منَّ وتفضل!!
لقد جئنا الشيخ بعد صلاة العشاء، فخرج علينا مرحبا ومهللا أجمل ترحيب وتهليل:
وضياء وجهٍ لو تأمله امرؤٌ
صادِي الجوانح لارتوى من مائه
جلسنا في مجلسه العامر، وسرد لنا مباشرة ثلاثة أحاديث أو أكثر في فضل الزيارة في الله ولله، وكان سرده لها بأسانيدها ومتونها الطويلة، فتنسمتُ فيه عبق ما كنت أقرأ لهم وعنهم؛ أصحاب الحديث أهل الفضل والتحديث!!
وبعد السؤال عن الأحوال والأخبار والأخيار، شرعنا في القراءة عليه ما اعتمدناه، وهو كتاب "ثنائيات موطأ مالك" للشيخ محفوظ الفيضي، ووقّت لنا في القراءة مع التعليق اليسير من ساعة إلى ساعة ونصف، واعتذر أنه على موعد مسبق مع طلاب آخرين.
بدأتُ بالقراءة وتناوبتُ أنا وصاحبي، وجاء الطلاب الآخرين في الموعد الموعود، ونسي الشيخ عن كل موجود إلا في الكلام عن الموطأ ورجاله الأسود ، أطال وأفاض مرتجلا ومُشرّقا ومُغرِّبا، فإن شئت فحدث ولا حرج عن البحر ، وهيهات ليس الخُبر عنه كالخَبر !!
ولعلك أيها القارئ الكريم تعذرني في ذِكرِ ما تميز به الشيخ رويدا .
ذهبنا وكتبتُ عنه في تلك الليلة معجبا ومندهشا، ودعوتُه قبل ذلك لزيارتنا في أبها البهية -حرسها الله- فوافق، وأكد عليه بعض الأحبة وحرّصُوا عليه، وبعد أشهر ، أخبرنا بمجيئه ففرحنا غاية الفرح، واستقبله بعض الأحبة، وأكرمه أحد الكرام في اليوم التالي كرامة لم أعهد مثلها :
يصونون أحسابا ومجدا مؤثلا
ببذل أكف دونها المزن والبحر .
وسأُنيخ المطايا في هذا المجلس الحافل قليلا.
كان من ضمن الحاضرين دكاترة، وطلبة علم وقضاة، وبدأنا مع الشيخ بلقاء مفتوح، وطُلب منه موضوعا يتعلق بالآيات الكونية وما يدور حولها، فتكلم فبهر عقول الحاضرين، وشخصت إليه أعين الناظرين، ولو فرغت كما هي لجاءت في مجيليد لطيف!! فسبحان من يخص بالفضل والعلم والفهم من يشاء من عباده، لا إله غيره .
وقد كان أغلب الحاضرين يبتدرونه بالمسائل، فيجيب بأكثر مما في السؤال، بل ويضيع جواب السؤال للسائل بين الجبال والرمال ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء سبحانه وتعالى .
ثم كان اللقاء الثاني مع الشيخ، وفيه المجلس المقصود في شرح "سنن ابن ماجه" عليه رحمة المعبود.
كان الحاضرون في تلك المجالس الخمسة ما يقرب من خمسين،وقد تكلم هذا الهزبر في أول هذه الدروس بجواهر العلم وأنفسِه، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه !!
واستمر الدرس لخمسة أيام؛ لم يفصلنا عنه إلا المنام والمُقام في الدوام!!
سقى الله ذاك اليوم ما كان في الحمى
ألذ لقلبي منه إذْ للمُنى يحدو

وقد حان الأوان أن أحدثك عما عرفته عن الشيخ ورأيته في ذلك الزمان :

١-من الأعاجيب أن عُمر هذا الشيخ الأريب لم يتجاوز الخامسة والأربعين، وقد سألته فلم يصرح بشيء، وقد أخبرني أحد أصحابه المقربين بأن مولده كان في سنة ١٤٠٤هـ، وهذا النبوغ عجيب في زماننا، معتاد عند من سبقنا !! ولعل الشيخ لم يتصدر للتحديث والبروز إلا بعد بلوغه الأربعين، وهكذا فعَل الإمام أحمد رحمه الله، والذي جعلني أظن هذا أو أكاد أجزم؛ أن أحد أصحابنا الأكابر في-بريدة - العارف بشيوخها وطلاب عِلمها قد سألته عنه فلم يعرفه.

٢-التفنن في معرفة المنقول والمعقول، وأقف عند هذه الفقرة وقفة .
فأما المنقول: فهو من الحفاظ للقرآن والسنة والآثار،عالم بفقهها، وبعلل الحديث والصحيح والضعيف من الأخبار، عالم بالأصول وما يتبعها من علوم وله وصايا بكتب أصولية كبيرة وغير مدروسة،
فقيه بارع مهتم بفقه السلف أيما اهتمام، وله في معرفة المذهب خاصة اليد الطولى،وشاهد حلقته الموسومة ب(أنظار في الفقه الحنبلي) تعرف مُكنته ومكانته، وأما علمه بالعقيدة ومصطلحاتها ومعرفة المذاهب المخالفة والمعاصِرة فلا أظن أحدا يبلغ شأوه بلْه أن يعرف أحسن منه !! وانظر في موقعه دروسه المتكاثرة في هذا الباب، وشروحه لكتاب كبار!!
وأما التفسير فقد شرح لنا عبر الشبكة "تفسير الحافظ ابن جريج رحمه الله" وهو قطعة منه، فسال واديه حتى ملأ الخوابي وبلغ الروابي، وأتى بفوائد ونوادر لم أسمعها من متخصصين فضلا عن غيرهم ، وفضل الله عظيم يؤتيه من يشاء لا إله سواه .
الشيخ له اهتمام كبير بعلوم اللغة، ويذكر دائما: أن الطالب كلما ازداد معرفة بالعربية زاد معرفة بعلوم الشريعة !!
أما العلم بالمعقول مع المنقول وهو العلم بكل علوم العصر الدينية والدنيوية ، علوم الأمة وعلوم الأمم الأخرى ، مذاهب الأمة ، ومذاهب الأمم الأخرى؛ فقد سمعنا عجبا ورأينا عجبا !! فمما يُذكر لا على سبيل الحصر :
أن الشيخ يتقن أربع لغات والخامسة يعرف حروفها ولا ينطقها، منها (الانجليزية ، والعبرية ، والفرنسية وغيرها ) وقد حدثنا بأول معرفته لهذه اللغات خاصة الانجليزية، وأنه تعلمها من أعمامه أو عماته !!
وكذلك معرفته العميقة بالفلسفات والمنطق ومداخلها ومخارجها وكيف يرد على شبهات المتكلمين أربابها!! وتعلمه لها كتعلم شيخ الإسلام لها، وإلا ليست من علوم الإسلام، فمن رام الرد على هؤلاء لابد أن يعرف مصطلحاتهم (ومن تعلم لغة قوم أمن مكرهم) وهذا قول لبعض العلماء ومعناه صحيح .
معرفته بالفيزياء والفلك والحساب وغير ذلك ، فسبحان الوهاب .
ومن الطرائف ما ذكره لي أحد الشباب وكان الشيخ معهم، واللقاء في بعض علوم الشريعة فرأى عصيرا أو غيره مما لا يحضرني وعليه اسم شركة أظنها إمريكية، فأخذ الشيخ يتكلم عنها ويُعَرِّف بها في نحو نصف ساعة !!

٣-
الشيخ نحسبه من عباد الله الصالحين القانتين ولا نزكي على الله أحدا، صوته بالقرآن جميل، إذا قرأ أطرب المسامع وأخذ من القلوب بالمجامع!!

٤-
ضحكه قليل، ونفسه منبسطة ، وسيوف فوائده مخترطة، كثير الفوائد والنوادر ، وهو حسن المفاكهة، ولا يمل من طول المحاضرة.

٥-
ذهبنا معه قبل أحد الدروس عندنا في أبها للتنزه فترة قصيرة، وعلى مطالعته لكثير من الأسفار وكثرة الحفظ والاستحضار، إلا أنه كان متواضعا بسيطا لا تُمله ولا يُمِلك، وأظننا في ذلك اليوم لبساطة الشيخ قد قلّ أدبنا فالله يغفر لنا .

٦-
من عرف الشيخ عن قُرب علم أنه من المتزهدين والوَرعين، والزهد عمل قلبي ويظهر أثره، فمن ذلك بساطة الشيخ في الملبس، وهذا من الإيمان، كما جاء في سنن أبي داود وابن ماجه عن أبي أمامة بن ثعلب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن البذاذة من الإيمان .. الحديث ) قال أحمد كما في الزهد : هو التواضع في اللباس، ولا يعارض قوله عليه الصلاة والسلام(إن الله جميل يجب الجمال) وراجع ما ذكره أهل العلم من وجوه في الجمع بينهما.
وبُعدُه عن كثير من المناصب، وانشغاله بالعلم والتعليم عن كل ما يُشغل من الدنيا ! ولأبيه وهو من الزهاد في ذلك أعظم الأثر .

٧-
مما سمعته من الشيخ :
-رؤيته للإمام أحمد وابن تيمية في المنام، ووصفه لهما مطابقا لما ذُكر في ترجمتهما !
-وكذلك وأشهد له بذلك معرفته التامة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وفهمها كما ينبغي !!
وكنت بعد لقائي بالشيخ قد قلت لبعض الأصحاب: أنه من القلائل في الدنيا الذين يفهمون كتب شيخ الإسلام وخاصة الكبار منها، ك(الدرء،وبيان تلبيس الجهمية، ومنهاج السنة، وغيرها)، ومن العجيب الغريب أنه شرح كتاب (درء التعارض) لبعض الطلبة فلم يُكمله معه أحد، ولن يستطيع إكماله بشر!!
وقد سئل في آخر مجالس ابن ماجه عن منهجية في قراءة كتب شيخ الإسلام، فذكر كلاما طويلا، وأطنب وأكثر واستطرد بكلام يشبه كلام شيخ الإسلام وغاب المقصود من السؤال لصعوبة الكلام!! والله المستعان .
-وكذلك وقد كررها مرات وكرات أن علم الحديث عنده بفنونه المعروفة، أصعب العلوم حتى من الفيزياء والفلك والمنطق، فوا أسفا ثم ألف فوا أسفا على حصيلتنا من هذا العلم واغترارنا بما علمناه وفهمناه!! ومن عجائب زماننا أنه متى أتقن المتحدث النزهة وحفظ له عدة أحاديث وجمع له ثلاثة أسانيد وصف بأنه أكبر محدث!!

٨-
الشيخ من المساعدين للفقراء والمحتاجين، يهتم لهَمّهم ويسعى في حوائجهم ويسد فاقتهم فرضي الله عنه وأرضاه.

٩-
الشيخ له مؤلفات لا أعلم منها مطبوعا إلا كتابا واحدا، وهو كتاب (تفكيك الديمقراطية) وما أصعبه من كتاب وما أعمقه!! ومن الطرائف أنني اقتنيه وحرصت على ذلك، فلما وصلت إلى البيت وتصفحته،عرضته في اليوم الثاني للإهداء فلم يأخذه مني أحد، ولم أفهم منه إلا قليلا بكد!!
وأما الكتب المخطوطة فقد أخبرني باثنين أحدهما : (الغيث الهائم على علل ابن أبي حاتم) واشوقاه،
والآخر : شرحه "لمسائل صالح ابن الإمام أحمد"، وهناك غيرها.
وقد أشرت عليه بشرح أحد كتب السنة على طريقة الحافظ ابن رجب في "شرحه للبخاري" فكأنه تقبل الفكرة، يسر الله له بمنته وكرمه، والشيخ حري بذلك.
بل من أمنياته إكمال شرح البخاري أيضا على طريقة الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى.

١٠-
من شيوخه فيما أظن :
الشيخ الفقيه خالد المصلح
والشيخ المربي العالم بالعقيدة الشيخ أحمد القاضي
والثالث شيخ من شيوخ الإسلام وما أدراك ما هذا الشيخ الضرغام، وهو أجل شيوخه وأكثرهم أثرا فيه !!
وأما طلابه فهم في الوقت الحالي كثير، كثرهم الله وزاد الشيخ من فضله وخيره .

١١-
الشيخ في الوقت الحالي مسافر إلى بلاد الله ، منقاد لأمر الله ، ومستور بستر الله، فحفظه المولى ورده إلى مقامه سالما معافى.
وسفره لنشر العلم والدعوة إلى الله.
وأخيرا وليس آخرا : لو حصلت على معلومات أكثر عن الشيخ لأودعتها هذا المقال، ولكن شهرته الآن بالعلم والحفظ تغني عن بسط القلم فيه، وكما يقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وهو الآن في مقر إقامته يشرح (سنن أبي داود) وما أجمله من شرح، وقد وعدنا في قابل الأيام بإذن الواحد الديان إكمال شرح سنن ابن ماجه الإمام. والله المستعان .

١٢-
لقد قلتُ جملة أخيرة عند ترجمتي لشيخي الحبيب الأريب الفريد الشيخ عبدالله العبيد، وأقولها الآن عند نهاية هذه الترجمة، وأسأل الكريم أن تكون لوجهه خالصة؛ بأني لا أرجو القرب من الشيخ أكثر من غيري ، فمعاذ الله من ذلك، وعقل الشيخ وسمو شخصه تنبو عن مثل هذه الأفعال، ولكن حتى يُدرك هذا العالم قبل الفوات،ويُهتم بعلمه ونشره قبل الممات، فمن مات أو عجز فقد فات ، وحينئذ لا ينفع الندم يا أصحاب الهمم !! وأحسب أن التعريف والدلالة على المشايخ من أنواع الخير والأجر .
ومن لا يعرف أسلوب كتب التراجم وأعلامها الأكارم، فسيقول هذا غلو وإطراء ، وأعوذ بالله وعزته من ذلك، وهدفي معلوم، والشيخ غير معصوم، ويخطيء ويصيب ويَهم ويُؤخذ من قوله ويُرد ومن قال غير ذلك فهو ظلوم جهول ملوم.

يا أحبة ويا طلاب الشيخ الأجلة:
من وجد خطأ أو ما لا يليق فليعذر الكاتب الضعيف في العلم والكتابة والعمل، فقد كتبتها من فيض الخاطر على عجل كما ذكرت لك في نصف هذا اليوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر، أحسن الله عاقبتها في الأمور كلها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتبها /عبدالله سعيد أبوحاوي القحطاني .