أسْرعَ الجَميعُ ـ كِبارًا وصِغارًا ـ نَحوَ ذلكَ الصُّندوقِ ، وأخذَ كلٌّ منهم 
	مَكانَه ، فقد آنَ أوان تناول الجُرْعَةِ الجَديدةِ من ذلكَ السُّم الغريبِ ، 
	سُم لا يُشرَب ولا يُؤكَل ولا يُحقن في الوَريدِ ، إنَّما يتسرَّبُ بهدوءٍ إلى 
	قنواتِ الفكرِ والوجدان ، فيُسمِّمَ الأفكار ويُلوِّث المشاعر !
	تَغلغله الهادئ حَماه من مُقاومَةٍ أو انتباهةِ غافلٍ ، وتكرار تناول الجُرعة 
	بانتظام جعلَ طعمه المُر مُستساغا بل ومَطلوبا ..! 
	"المسلسلات المدبلجة" وحُلَّة جَديدة أكثر قربًا وحَميميَّة : فاللَّهجة معروفة 
	مُحبّبة ، والملامح مألوفة ، والأسماء عربية أصيلة ، وشيء من المعاني الدينيّة 
	غلَّفَ زُجاجة السُّم ببريق خَادِع !
	سادَ صَمتٌ يُشبه صَمتنا العربي ، فالكلّ مشغول بمتابعةِ أحداثِ المُسلسَل ، 
	وما آلت إليه أحوال القلوب المُتعبة التي أضناها الهَجر وأرَّقها الحَنين !
	والويلُ كلّ الويل لمَن يُحدِث إزعاجا ، أو يُصدر أصواتًا تَعلو فوقَ تلكَ 
	الأصوات المنبعثة من ذلك الصندوق ، فالأحداث غاية في الأهميّة ، والمَشهَد إن 
	فاتَ لا يُعَوَّض ، لذا فليصمت الجَميع ، وليُتابع الجميع بهيام ونشوة !
	الغريب في الأمر أن أولئك القوم لم يكونوا من المُدمنين المُنحرفين ، ولا مِمَن 
	اعتادوا اللهو والعَبث ، بَل هُم مِن الأسوياءِ العُقلاء الذين يَحرصون على 
	تربية أبنائهم تربية صَالحة ، فيحثّونَهم على حفظِ كتابِ الله ، ويَسعَون ـ 
	بجدٍ ـ إلى غرسِ العَفافِ في قلوبِ بُنيَّاتهم ، ويواظبونَ على صلاتِهم 
	وصِيامِهم !
	ما الأمر إذا ؟! ماذا أصابهم ؟!
	كيف غفلوا عمَّا تَنطوي عليه تلكَ المُسلسلات ـ طويلة الأمدِ ـ من فسادٍ ؟!
	حيّرني السُّؤال ، فانتهزتُ فرصة التقائي بجَمع مِنهم في جلسةٍ وَدود لأستوضحَ 
	الأمر ، ودون كَبير عَناء في اختيارِ المَدخلِ ـ الذي طالما يُؤرِّقنا عندما 
	نُريدُ الحديثَ عن أمرٍ نَظنّه حساسًا أو رُبما يُسبب ضيقًا ـ كان الحوار 
	عَفويًا صريحًا ...
	توجهتُ بسؤالي بداية إلى "إيمان" تلك الفتاة اليافعة التي تبلغ من العمرِ ستة 
	عشر عاما فسألتها : هل تتابعين المُسلسلات المُدبلجة ؟
	احمرت وجنتاها وخَفضَت بصرها ، فبادرتها قائلة : لستُ بصدد تَجريمَك ، إنَّه 
	مُجرد حوار صديقات ـ رغم فارق السن .
	ابتسَمَت قائلة : سأجيبُ عن جميع أسئلتك ...
	- نعم أتابع المُسلسلات المُدبلجة ، لكن التركيَّة منها وليست المكسيكيَّة ..
	وكأنها أرادت أن تقول أن المسلسلات التركيَّة أحسن حالا من المكسيكيَّة !
	- حسنا .. ولماذا تُتابعينَها ؟
	- هي مسلسلات مُتقنة من النَّاحية الفنيَّة ، كما أنها تُرينا الحياة على 
	بساطتها دون تكلّف في رَسمِ أبطالها وبطلاتها ، الأمر الذي يَجعل المُشاهد 
	يَشعر أنَّه قريب منهم ، بعكس ما يحدث في مسلسلاتنا العربيَّة ، حتى بتنا نسأل 
	أنفسنا ـ ونحن نتابع الأحداث ـ : هل هذا يَحدث عِندنا ؟!
	أعترف أن المسلسلات المُدبلجة تَطرح أمورًا لا تتناسَب مع عقيدتِنا الإسلاميَّة 
	إلا أنها تُناقش قضايا مهمّة !
	استوقفتها سائلة : - ما هي تلك القضايا المُهمَّة التي تناقشها ؟
	- الأسرة وأهميَّتها ، وضرورة وجود الحبّ بين أفرادها ، وجمال العلاقات 
	الإنسانيَّة التي نفتقدها !
	- برأيكِ هل يستطيع مسلسل تغيير قناعات ما لدى الشَّخص ، هل له هذا التَّأثير 
	بالفعل ؟
	- يعتمد ذلك على طبيعة الشَّخص ؛ لكنَّها في جميع الأحوال تَنقل الشَّخص إلى 
	أحداثها فيعيشها بحزنها وفرحها ، ويكون التَّأثير حسب واقع الشخص المُعاش ، 
	والخوف ـ كما تقول والدتي ـ من طول فترة التَّعايش مع أحداثها ...
	صَمتت هُنيهة وبَدا عليها مَلامح مَن تاه في دربِ الإجابة ثم قالت مبتسمة : - 
	لا تسأليني أسئلة صَعبة !
	فابتسمتُ قائلة : - أجيبي وِفقَ فََهمكِ للأمر ورؤيتكِ الخاصَّة له دون توتر .. 
	اتفقنا ؟
	- حسنا اتفقنا ؛ سأبوح لك بأمر : لقد عاهدتُ نفسي مِرارًا ألاَّ أتابع مثل هذه 
	المُسلسلات لأنها مَضيعة للوقتِ ، كما أنَّها تُصيبني بحزنٍ في أكثرِ الأوقاتِ 
	لكن المشكلة تَكمن في التَّشويق !
	فأحداث الحلقة تنتهي عند نُقطةٍ حَرجةٍ ، تَشحنُكِ بفضول كبير لمعرفةِ ماذا 
	سَيحدث في الحلقةِ القادمةِ ، وهكذا أظلُّ أترنَّحُ بين فضولي في معرفة ماذا 
	سيَحدث وبين رغبتي في التوقف عن المُتابعة .
	- جلّ المشاهد ـ إن لم يكن كلّها ـ فيها تجاوزات شرعيَّة : كشرب الخمرِ ، علاقة 
	الشَّاب بالفتاة الأجنبيَّة عنه ، الانتقام من أجل الفوز بالحبيبة ، ممارسة 
	الفاحشة ، فما هو شعوركِ عِندما تنظرين إليها ؟ 
	- لا أدري بماذا أجيب ! لأن مثل هذه المشاهد غَدَت عاديَّة الوجودِ في 
	مسلسلاتنا العربيَّة ...
	على كل حال عندما تظهر مثل هذه المَشاهد أقومُ بتغيير القناة ، وأحيانا أغلِق 
	التلفاز ولا أكمل مُتابعة الحلقة !
	- حسنا ؛ لو أخبرتك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " كلُّ ابن آدم 
	أصابَ مِنَ الزّنا لا محالة ، فالعين زناها النَّظر ، واليد زناها اللَّمس ، 
	والنَّفس تهوى وتحدِّث ، ويُصدّق ذلك ويكذبه الفَرْج "* فهل هذا يكفي لردعك عن 
	مُتابعة المُسلسل ؟
	- سؤال صعب ..!
	ثم تابعت : - قد يَردعني هذا فأغيّر القَناة عند ظهور المَشاهد غير اللائِقة ، 
	أمَّا أن أتوقف عن مشاهدة المُسلسل بالكليَّةِ فلا !
	أرجو ألا تفهمي من كلامي أنَّني أدافعُ عن مثل هذه المسلسلات !
	- أفهمك جيدا ، وأحيّي فيك صدقكِ وصراحتكِ .
	إلى هنا انتهى الحديث مع تلك الزَّهرة اليانِعة ، وبدأ حديثٌ آخر مع سيداتٍ في 
	مختلف الأعمار ، كانت حَصيلته أنَّنا في زمنٍ طغت فيه المَّادة على كلِّ شيء 
	حتى وصَلت إلى قلوبِنا ، فصيّرت القلبَ عَضلة جوفاء تضُخ الدِّماءَ دون ماءِ 
	الإحساس إلى أن تحجّر وقسى !
	مَشاعرُنا تَحتضر ، وأرواحُنا تَئِن مِن فرطِ ما أصابها من جَفاءٍ ، والفَراغ 
	العاطفي يَفغر فاهُ يريدُ ابتلاعنا ، فنَفرُّ هاربين من قبضةِ فكَّيْهِ إلى مثل 
	هذه المُسلسلات لنعيشَ "الرومانسيَّة" ولو وَهمًا !
	عَجَبًا ..!
	مُنذ مَتى كانَ الوَهمُ بَلسمًا ، ومُنذ مَتى كانَ رِزقُ اللهِ يُستَجلب 
	بمَعصيتِهِ ؟!
	
	
	-------------------------------
	* مسند الإمام أحمد