أبو إسحاق الحويني
حجازي محمد شريف يروي قصة هدايته إلى العقيدة السلفية
إن الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالي من شرور أنفسنا
، و سيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالي ، فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ،
وشرالأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين
إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إباهيم وعلى آل
إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد.
(( فالحمد لله الذي لا يؤدَّى شكر نعمةٍ من نعمه، إلا بنعمة منه توجب على مؤدى
ماضى نعمه بأدائها : نعمةً حادثة يجبعليه شكره بها ، ولا يبلغ الواصفون كُنه َ
عظمته ، الذي هو كما وصف نفسه ، وفوق ما يصفُهُ به خلقُهُ ، أحمده حمدا كما
ينبغي لكرم وجهه عزَّ وجلَّ ، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به ،
وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه ، وأستغفره لما أزولفت وأخرت ،
استغفار من يُقرُّ بعبوديته ، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ، ولا ينجيه منه إلا هو ،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمد عبده و رسوله .
فنسأل الله المبتدئَ لنا بنعمة قبل استحقاقها ، المديمها علينا مع تقصيرنا في
الإتيان عليما أوجب به من شكره بها ، الجاعلنا في خير أمة أخرجت للناس ، أن
يرزقنا فهما في كتابه ، ثم سنة نبيه ، وقولا وعملا يؤدي به عنا حقه ، ويوجب لنا
نافلة مزيدة )) (1) .
فإن الله – جل ثناؤه – لما خلق الناس ، ركز في فطرهم محبة الإحسان ، والخضوع له
، كرِهَ لهم الكبر والعلو في الأرض بغير الحق .
فقال جل ثناؤه : { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [ الرحمن :
60 ] .
يعني لا ينبغى أن يكون الإحسان إلا من حنسه ، فليس لمن أحسن العمل في الدنيا
إلا الإحسان إليه غي الآخرة .
و ما أجمل فول القائل : ليس هناك حمل أثقل من البر ، من برًكَ فقد اوثقك ، ومن
جفاك فقد أطلقك . فإن أردت إسترقاق إنسان ، فأحسن إليه ، فيكون ذلك مانعا إياه
أن يوصل السيئة إليك .
ومما يدلُّك علي صحة ما أقول من أن محبة الإحسان ، والخضوع لأهله مركوزٌ في فطر
الناس ، حتي الكافر ، ما أخرجه البخاري (5/329-333) ، وأحمد (4/324 ، 329 )
وغيرهما من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه ، وذكر حديثه في (( صلح الحديبية
)) وفيه :
و أخرج بعضه : أبو داوود ( 2765) ، والنسائي في (( الكبرى)) . كما في (( أطراف
المزي)) (8/383) . وغيرهما
فانظر – يرحمك الله من مُنصف – قول عروة لأبي بكر ، فما منعه من الرد عليه وقد
بالغ في عيب آلهتهم ، إلا أنه كان أسير الإحسان المتقدم من أبي بكر له .
وقد ورد في رواية ابن إسحاق عن الزهري في هذا الحديث أن عروة قال لأبي بكر : ((
لولا يد لم أجزك بها ، ولكن هذه بها )) كأنه قال له : هذه الإساءة منك إلي
آلهتنا قد استوفيت بها جميلك السابق عندي ، فلم يبق لك حسنة تمنعني من الرد فى
قابل إذا أسأت إلىَّ .
وأما من جفاك ، وأساء إليك فما استودع يداً تمنعه من رد السيئة بمثلها و زيادة
، لذلك كان طليقا لا يوقفه شئ .
وإذ الأمر كذلك ، والوفاء سجيةٌ و خُلُقٌ ، فما إعلم أحد – بعد والديً – له
عليً يد مثل شيخنا الشيخ الإمام ، حسنة الأيام ، وريحانة بلاد الشام ، أبى عبد
الرحمن محمد ناصر (3) الدين الألبانى ، ألبسه الله حُلل السعادة و كافأه
بالحسني وزيادة ، إذ الإطلاع علي كتبه كان فاتحة الخير العميم لي ، و أبدأ
الحديث أسوقه من أوًلِهِ .
ففي صيف عام (1395هـ) كنت أصلي الجمعة في مسجد ((عين الحياة)) ، وكان إمام إذ
ذاك ، الشيخ عبد الحميد كشك (4) –حفظه الله تعالي - ، وكان تجار الكتب يعرضون
ألواناً شتى من الكتب الدينية أمام المسجد ، فكنت أطوف عليهم و أنتقي ما يعجبني
عنوانه ، فوقعت عيني يوما علي كتاب عنوانه (( صفة صلاة النبي صلي الله عليه
وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها )) . تأليف محمد ناصر الدين الألبانى .
فراقني اسمه . فتناولته بيدي ، وقلبت صفحاته ، ثم أرجعته إلي مكانه ، لأنه كان
باهظ الثمن لمثلي ، وكان إذ ذاك بثلاثين قرشا !
و مضيت أتجول بين بائعي الكتب ، فوقفت علي كتاب لطيف الحجم بعنوان (تلخيص صفة
صلاة النبي صلي الله عليه وسلم )) .ففرحت به فرحة طاغية ، ولم تردد في شرائه
وكان ثمنه خمسة قروش ، ولم أشتري غيره ، لأنه أتي علي كل ما في جيبى ! ومن
فرحتي و إغتباطي به قرأته و أنا أمشى في طريقي إلي مسكني مع خطورة هذا المسلك
علي من يمشي في شوارع القاهرة ، ولما أويت إلي غرفتي تصفحت الكتاب بإمعان ،
فوجدته يدق بعنف ما ورثته من الصلاة عن آبائي إذ أن كثيرا من هيئتها لا يمت إلي
السنة بصلة ،أ فندمت ندامة الكُسعِيِّ (5) اننى لم أشتر الأصل ، وظللت أحلم
بيوم الجمعة المقبل – و أدبِّر ثمن الكتاب طوال الأسبوع - ، و أنا خائفٌ وجلٌ
أن لا أجده عند البائع ، و كنت أدعو الله أن يطيل في عمرى حتى أقراه ، ومَنَّ
الله علىَّ بشرائه فلما تصفحته ؛ ألقيت الألواح ، ولاح لي المصباح ُ من الصباح
! وهزَّنى هزَّا عنيفاً ، لكنه كان لطيفاً ؛ مقدمته الرائعة الماتعة في وجوب
اتباع السُّنة ، ونبذ ما يخالفها تعظيماً لصاحبها صلي الله عليه وسلم ، ثُمَّ
نقوله الوافيه عن ائمة المسلمين ، إذ تبرأوا من مخالفة السنة أحياء و أمواتا ،
فرضي الله عنهم جميعا ، و حشرنا وإياهم مع الصادق المصدوق – بأبى هو و أمى –
وقد لفت إنتباهى جدا حواشى الكتاب – مع جهلى التام آنذاك بكتب السنة المشهورة
فضلا عن غيرها من المسانيد والمعاجم والمشيخات و كتب التواريخ ، بل لقد ظللت
فترة فى مطلع حياتى – لا أدرى طالت أم قصرت – أظن أن البخاريُّ صحابيُّ ، لكثرة
ترضى الناس عنه .
وعلى الرغم من عدم فهمى لما فى حواشى الكتاب ، إلا اننى أحسستُ بفحولة وجزالة
لم أعهدها فى كل ما قرأتُهُ ، فملك الكتاب على حواسىّ ، وصرت فى كلِّ جمعة أبحث
عن مؤلفات الشيخ ناصر الدين الالبانى ، ولم تكن مشهورةً عندنا في ذلك الوقت ،
لكساد الحركة العلمية ، فوقفت بعد شهرٍ تقريبا على جزء من " سلسلة الأحاديث
الضعيفة " – المائة حديث الأولى ، فاشتريته في الجمعة التى تليها لاتمكن من
تدبير ثمنه .
أمَّا هذا الكتاب فكان قاسمة الظهر التى لا شوى لها ! ، وهو الذى رغَّبنى فى
دراسة علوم الحديث .
قلتُ : إنَّ الحركة العلمية كانت هامدةً في ذلك الوقت ، وكل من تصدَّر لوعظ
الناس فهو عندنا عالمٌ ، فما بالك بأشهر الواعظين عندنا في ذلك الزمان - وهو
الشيخ كشك – الذي كان له بالغ التأثير في الناس بحسن وعظه ، ومتانة لفظه ،
وجرأته في الصدع بالحق ، لم ينجُ منحرفٌ من نقدهِ مهما كان منصبه، وكان فى صوته
– مع جزالته – نبرة حُزن ، ينتزع بها الدمع من المآقى إنتزاعاً ، حتي من غلاظ
الأكباد و قساة القلوب ، فكان هذا الشيخ العالم الأول والأخير عندي ، لا أجاوز
قوله . وقد انتفعت به كثيرا في بداية حياتى ، كما انتفع به خلقٌ ، لكننى لما
طالعت " السلسلة الضعيفة " وجدت أن كثيراً من الأحاديث التى يحتج بها الشيخ
منها ، حتى خيل إِلىَّ أنه يحضر مادَّة خطبه من هذه " السلسلة " ، وسبب ذلك
فيما أرى أن الشيخ حفظ أحاديثه من كتاب " إحياء علوم الدين " لأبى حامد الغزالى
، وكان الغزالى – رحمه الله – مزجى البضاعة فى الحديث ، تام الفقر فى هذا الباب
!
فعكَّر علىَّ كتاب الشيخ ما كنت أجدهُ من المتعة في سماع خطب الشيخ كشك حتى كان
يومٌ ، فذكر الشيخ على المنبر حديثا عن النبى صلي الله عليه وسلم قال : (( إن
الله يتجلي يوم القيامة للناس عامة ، ويتجلي لأبى بكر الصديق خاصة (6) )) .
فلأول مرة أشك فى حديث أسمعه ، وأسأل نفسى : ترى ! هل هو صحيح أم لا ؟ ومع شكى
هذا فقد انفعلت له و تأثرت به بسبب صراخ الجماهير من حولى ، استحساناً و
إعجاباً ! .
ولما رجعت الى منزلى ، قلبت " السلسلة الضعيفة " حديثا حديثا أبحث عن الحديث
الذي ذكره الشيخ كشك فلم أجده فواصلت بحثي ، فبينما كنت فى بعض المكتبات وقفت
على كتاب " المنار المنيف " لابن القيم – رحمه الله – بتحقيق الشيخ محمد حامد
الفقى – رحمه الله – فوجدتُ الحديث فيه ، وقد حكمَ الإمامُ عليهِ بالوضع فيما
أذكرُ ، فعزمت على إبلاغ الشيخ بذلك نصيحة لله تعالى ، وقد كان رسخ عندى أن
التحذير من هذه الأحاديث واجبٌ أكيدٌ .
وكان للشيخ جلساتٌ فى مسجده بين المغرب والعشاء ، فذهبتُ فى وقتٍ مبكرٍ لألحق
بالصف الأول حتي أتمكن من لقائه فى أوائل الناس ، فلما صلينا جلس الشيخُ على
كرسيه فى قبلة المسجد ، وكان له عادة غريبةٌ وهي أنه يمدُّ يده ، فيقفُ الناس
طابوراً طويلاً ، فيصافحونه ، ويقبِّلون يده وجبهته ، و يُسُّر إليه كل واحد
بما يريد ، و كنت العاشرَ فى هذا الطابور ، فقلت في نفسى : وما عاشر عشرة من
الشيخ ببعيد !
فلما جاء دوري ، قبَّلتُ يده وجبهته ، وقلت له : إنَّ الحديث الذى ذكرتموه في
الجمعة الماضية – وسميتُه – قال عنه ابن القيم أنه موضوع .
فقال لى : بل هو صحيح ، فلما أعدت عليه القول ، قال كلاماً لا أضبطه الأن لكن
معناه أن ابن القيم لم يُصِب في حكمه هذا ، ولم يكن هناك وقت للمجادلة ، لأن من
فى الطابور ينتظرون دورهم !
ومما حزَّ فى نفسى أن الشيخ سألنى عن العلة فى وضع الحديث فلم يكن عندى جواب ،
فقال لى : يابنى ! تعلم قبل أن تعترض ، فمشيت من أمامه مستخذياً ؛ كأنما ديكٌ
نقرنى !
وخرجت من مسجد (( عين الحياة )) ولدىَّ من الرغبة في دراسة علم الحديث ما يجلُّ
عن تسطير وصفه بنانى ، ويضيق عطنى ، ويكُّل عن نعته لسانى ، وكان هذ العلم
آنذاك شديد الغربة ، ولست أبالغ اذا قلت : إنه كان أغرب من فرس بهماء بغلس !!
وطفقت اسأل كل من ألقاه من إخوانى عن أحد من الشيوخ يشرح هذا العلم ، أو يدلني
عليه ، فأشار على بعض إخوانى – وكان طالبا في كلية الهندسة – أن أحضر مجالس
الشيخ محمد نجيب المطيعى رحمه الله تعالى وكان شيخنا - رحمه الله – يلقى دروسه
فى ( بيت طلبة ماليزيا ) بالقرب من ميدان ( عبده باشا ) ناحية العباسية ، وكان
يشرح أربع كتب ، وهي ( صحيح البخارى ) و ( المجموع ) للنووى ، و( الاشباه
والنظائر ) للسيوطى ، ( إحياء علوم الدين ) للغزالى ، فوجدت في هذه المجالس
ضالتى المنشودة ، ودرتى المفقودة ، فلزمته نحو أربع سنوات حتى توقفت دروسه بعد
الإعتقالات الجماعية التى أمر بها أنور السادات و أنتهي الامر بمقتله في حادث
المنصة الشهير ، و رحل الشيخ - رحمه الله – إلى السودان ، وظل هناك حتى توفى -
رحمه الله – بالمدينه ودفن فى البقيع كما قيل لى . رحمه الله تعالي .0
و أتاحت لى هذه المجالس دراسة نبذ كثيرة من علمى أصول الحديث و أصول الفقه ، و
والله ! لا أشطط إذا قلت : إننى أبصرت بعد العمى لما درست هذين العلمين
الجليلين ، و أقرر هنا أن الجاهل بهذين العلمين لا يكون عالما مهما حفظ من كتب
الفروع ، لأن تقرير الحق في موارد النزاع لا يكون الا بهما ، فعلم الحديث يصحح
لك الدليل ، و علم أصول الفقه يسدد لك الفهم ، فهما كجناحى الطائر .
ولم يكدر علي متعتي بدروس الشيخ المطيعي رحمه الله إلا حطه علي الشيخ الالباني
صاحب الفضل على بعد الله عز وجل ، وكان ذلك بعد حادثة طويلة الزيل ملخصها : أن
شيخنا المطيعى - رحمه الله – كان يتكلم عن قضاء الفوائت ، و أن من لم يصل ولو
لسنوات ، فيجب عليه القضاء ، و أطال البحث في ذلك . فقلت له – ولم يكن عندي علم
بمن يقول بغير هذا المذهب من القدماء – قلت : إن الشيخ الألبانى يقول : ليس
هناك دليل على وجوب القضاء . فقال لى بلهجة . علمت بعد ذلك بزمانٍ انه كان
يقولها تهكماً : من الألباني ؟ فقلت له : أحد علماء الحديث .
قال : لعله أحد أصحابنا الشافعية ؟
قلت : لا أدري ، لكنه معاصر لنا ، وقد علمت انه لا يزال حيا .
فقال لي حينئذٍ : دعك من المعاصرين .
وكانت هذه أول مرة أسمعه يتكلم عن الألباني ، ثمَّ توالي السيلُ .
ثم جاء الشيخ الألباني الى مصر فى حدود سنه ( 1396هـ) أو بعدها بقليل ، وألقى
محاضرة في المركز العام لجماعة أنصار السنة في عابدين ، وكانت محاضرته عن تخصيص
السنة لعام القرآن ، وتقيدها لمطلقه ، وذكر من أمثلة ذلك الذهب المحلَّق .
ولم يكن عندي علم بمحاضرة الشيخ ولا وجوده ، فرحل ولم أره ، وكان إحدى أمانىَّ
الكبار أن ألتقى به ، ولم يتحقق لى ذلك إلاَّ بعد زمان طويل وذلك فى أول المحرم
سنة (1407 هـ) وكان قد طبع لى بعض الكتب منها " فصل الخطاب بنقد المغنى عن
الحفظ والكتاب " و كنت فى هذه الفترة أتتبع كل أخبار الشيخ فكانت تصلنى أخبارٌ
عن شدته على الطلبة وقسوته عليهم، و اعتذاره عن التدريس بسبب ضيق الوقت و ارهاق
الدوله له ، فكدتُ أفقدُ الأملُ حتى قيَّض الله لى أن ألتقي بصهر الشيخ – الأخ
نظام سكجّها – فى فندق بحيّ الحسين بالقاهرة ، فسألتُه عن الشيخ و إمكان
التتلمُذ عليه ، فأخبرنى أن ذلك متعذرٌ ، ولكن تعال وجرِّبْ !
فكان من خبرى أن سطَّرتُ رسالة للشيخ قلتُ له فيها : إننى علمتُ أنكم تطردون
الطلبة عن بابكم ، ولدىَّ أكثر من مائتى سؤال فى علل الأحاديث ومعانيها ، ولا
أقنع إلاَّ بجوابكم دون غيركم ، فسأجمع همتى و أسافر إليكم فلا تطردونا عن
بابكم ، أو كلاماًَ نحو هذا .
و أخبرنى الأخ نظامٌ بعد ذلك أن الشيخ تألمَّ لما قرأ حكاية " الطرد " هذه .
وسافرت إلى الشيخ فى أول المحرم سنة (1407 هـ) ، و استخرجتُ تصريح العمل الذي
يُخوِّل لى السفر بأعجوبةٍ عجيبةٍ ، و أُمضيت ثلاثة أيامٍ فى الطريق كان هوانى
فيها شديداً ، ومع ذلك لم أكترث له ، لما كان يحدوني من الأمل الكبير في لقاء
الشيخ .
ولما نزلت عمَّان استقبلنى الأخ الكريم أبو الفداء سمير الزهيري جزاه الله
خيرا، إذ أعانني في غربتى ، و آوانى فى داره ، و بعد الوصل بقليلٍ ، كلَّمنا
الشيخ بالهاتف ، فرحَّب بى غاية الترحيب ، وقال لى : حللت أهلاً ونزلت سهلاً ،
ولم أصدق أذنى ! ، فأنا ذاهبٌ اليه وقد هيأت نفسى تماماً على الرضا بالطرد ،
إذا فعل الشيخ ذلك .
وقد بدأنى بالسلام ، فرددتُ عليه السلام بمثل ما قال . فقال لى : ما أحسنت
الردَّ ! فقلتُ : لما يا شيخنا ؟
فقال لى : إجعل هذا بحثاً بينى وبينك إذا التقينا غداً !
و ظللتُ ليلتى أُُفكر فى هذا الأمر ؛ ترى : ما وجهُ إساءتى الردَّ ، حتى خمنت
أن الرادَّ ينبغى له أن يزيد شيئاً في ردِّه نحو : (( و عفوه ، ورضوانه )) ولم
أكن وقفتُ على الحديث الذى قوى الشيخ فيه زيادة (( ومغفرته )) في الرد .
وكان الشيخ يصلى الغداة فى (( مسجد الفالوجا )) بجوار منزل أبى الفداء ، ولم
أذق طعم النوم ليلتى بسبب تأمُّلى المسألة التي طرحها الشيخ ، و لم تكتحل عينى
بنومٍ إلاَّ قبيل الفجر ، وراح علىَّ بسبب ذلك لقاء الفجر مع الشيخ ، وكلمناه
فى الصباح ، فأعطانا موعداً عقب صلاة العشاء في منزل أبى الفداء .
وكان لقاءً حاراًّ ، بدأنى الشيخ بالعناق ، لأننى لا يمكن أن أبدأه بذلك هيبةً
له ، وكان معنا في هذا اللقاء الأخ الفاضل أبو الحارث على الحلبى حفظه الله ،
وجلسنا نحو ساعةٍ ونصف الساعة نسألُ ، والشيخ يجيبُ ، فلما تصرمت الجلسة ،
وخرجنا من الدار ، إنتحيتُ بالشيخ جانباً ، وشرحتُ له باختصارٍ ما كابدتهُ فى
السفر إليه ، ولم يخرجنى من بلدى إلاَّ طلبُ العلم ، فلو أذن لى الشيخ أن أخدمه
وأساعده لأتمكن من ملازمته ، فشكرنى و اعتذر لى ، نظراً لضيق وقته . فقلت له :
أعطنى ساعة كل يوم أسألك فيها . فاعتذر
فقلت له : أعطنى ما يسمح به وقتك ولو كان قصيراً ، فاعتذر !
فأحسست برغبة حارَّة ٍفى البكاء ، وتمالكت نفسى بعناء بالغٍ ، و أطرقتُ قليلاً
ثم قلت للشيخ : قد علم الله أنه لم يكن لى مأربٌ قطُّ إلاَّ لقاؤكم و
الإستفادةُ منكم ، فإن كنتُ أخلصتُ نيتى فسيفتح الله لى ، وانْ كانت الأخرى ؛
فحسبى عقاباً عاجلاً أن ارجع إلى بلدى بخفى حنين !
وانا سأدعو الله أن يفتح قلبك لى .
ولست أنسى هذا الموقف ما حييت .
ثم التقيت بالشيخ فى صلاة الغداة من اليوم التالى ، فقبلتُ يده – وهذا دأبى معه
– فقال لي : لعلَّ الله استجاب دعاءك ؛ وكان فاتحة الخير . وكنت أكاد وقن أن
الله سيستجيبُ لى ، وأن الشيخ سيقبلنى عنده ، لا سيما بعد أن قابلت الأستاذ
أحمد عطية – وكان من معظمى الشيخ قبلُ - ، فاستضافنى فى داره وقال لى : لما طبع
كتابك (( فصل الخطاب بنقد المغنى عن الحفظ والكتاب )) اشتريت منه نسخة وقرأته
فأعجبنى أنه على طريقة الشيخ ، وكان الشيخ يقول : ليس لى تلاميذ – يعنى على
طريقته فى التخريج والنقد – قال : فأرسلت هذا الكتاب الى الشيخ وقلت له : وجدنا
لك تلميذا ، وراجعتُ الشيخ بعد ثلاثة أيام فقال : نعم .
قلت : لمَّا قصَّ علىَّ الأستاذ أحمد عطية هذه الحكاية ضاعف من أملى أن يقبلنى
الشيخ عنده .
ووالله ! لقد عاينت من لطف الشيخ بى ، وتواضعه معى شيئا عظيما ، حتى أنه قال لى
يوماً : صحَّ لك ما لم يصحُّ لغيرك ، فحمدت الله عز وجل على جسيم منته ، وبالغ
فضله ونعمته .
فمن ذلك أننى كلما التقيتُ به قبلت يده ، فكان ينزعها بشدَّة ، ويأبى علىَّ ،
فلما أكثر قلتُ له : قد تلقينا منكم فى بعض أبحاثكم فى " الصحيحة " أن تقبيل يد
العالم جائز .
فقال لى : هل رأيت بعينيك عالماً قطُّ ؟
قلت : نعم ، أرى الآن .
فقال : إنما أنا " طويلبُ علمٍ " ، إنما مثلى ومثلكم كقول القائل :
إن البُغَاثَ بِأَرْضنَا يَسْتَنْسِرُ !
وبدأت جلساتى مع الشيخ بعد كل صلاة غداةٍ فى سيارته ، ولمدة ساعة ، ثم زادت
المدة حتى وصلت الى ثلاث ساعات .
واستمر هذا الأمر ، حتى جاء يومٌ ولم يُصلِّ الشيخ معنا صلاة الغداة ، فحزنت
لذلك لضياع هذا اليوم علىَّ بلا استفادة ، واستشرت من أثق برأيه من إخوانى : هل
أذهب الى الشيخ فى بيته أم لا ؟
فكان إجماعهم أن لا أذهب ، لأنك لا تعلم ما ينتظرك هناك ، ولا يذهب أحد الى
الشيخ فى بيته إلَّا بموعدٍ سابقٍ ، فلربما ردَّك ، فلا يكون بك لائقًا ، لا
سيما بعد المكانة التى صارت لك عند الشيخ .
وتهيبتُ الذهاب ، ولكن قوى من عزمى أمران :
الأول : أن رفيقى آنذاك والذى كان يصحبنى بسيارته الأخ الفاضل الباذل أبو حمزة
القيسى جزاه الله خيراً – قد أيدنى فى الذهاب .
الثانى : أننى استحضرت قصةً لابن حبان مع شيخه ابن خزيمة ذكرها ياقوتُ بسنده
إلى أبى حامد أحمد بن محمد بن سعيد النيسابورى قال : كنا مع أبى بكر محمد بن
إسحاق بن خزيمة فى بعض الطريق من نيسابور ، وكان معنا أبو حاتم البُستى ، وكان
يسألُه ويؤذيه ، فقال له محمد بن إسحاق بن خزيمة : يا بارد ! تنحَّ عنى ولا
تؤذينى ! أو كلمة نحوها ، فكتب أبو حاتم مقالته ، فقيل له : تكتب هذا ؟ قال :
أكتب كل شىء يقوله الشيخ )) ا هـ .
فقلتُ فى نفسى : ومالى لا أفعل مثلما فعل ابن حبان ؟ وحتى لو قال لى الشيخ
مقالة ابن خزيمة لعددتها من فوائد ذلك اليوم .
وانطلقنا اليه ، وكان من أفضل أيامى التى أمضيتُها فى هذه الرحلة ، فقد
استقبلنى الشيخ استقبالا كريما ، وأمضيت معه أكثر من ساعتين ، وكان
يخدمُنا بنفسه ، ويأتينا بالطعام يضعه أمامنا ، فكلما هممت أن أساعده أبى علىَّ
، ويشيُر أن أجلس ، ويقول : (( الإمتثالُ هو الأدبُ بل خيرٌ من الأدبِ ))
ويعنى به : أن الإمتثال لرغبته فى الجلوس خير من سلوكى الذى أظنُّه أدباً ، لأن
طاعتى له هى الأدب . وكان يوماً حافلا قص على الشيخ فيه ما جرى بينه وبين الشيخ
محمد نسيب (7) الرفاعى حفظه الله .
ولا يفوتنى أن أقول : كنت قابلت الشيخ نسيب الرفاعى بصحبة الأستاذ أحمد عطية
المتقدم ذكره فى بيته بحى الهاشمى فى عمان البلقاء ، ولقلما رأت عيناى مثله فى
تواضعه وأدبه وحسن خلقه ، وكان معظم كلامه عن الشيخ الألبانى ، وبرغم تقاربهما
فى السن الا أنه كان يبالغ فى تعظيم الشيخ ، وقال لى : أنا مدينٌ بالفضل لرجلين
: الأول : ابن تيمية ، والثانى : الألبانى .
وقال لى : لقد تآزرنا فى نشر الدعوة السلفية فى سوريا ، وكان الشيخ يزورنا فى
حلب ، فدخلت على ابنتى " عائشة " وكانت صغيرة ، فقال لى الشيخُ : لو كانت كبيرة
لتزوجتها وكنت منى بمنزلة أبى بكر من محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فانظر ما كان
بينى وبينه من الآصرة .
وقرأ علينا أبو غزوان مقدمته لكتابه : (( التوصل الى حقيقة التوسل )) وقصَّ
علىَّ أشياء ذكرتها فى (( طليعة الثمر الدانى فى الذب عن الألبانى )) . وهو
القسم الخاص بترجمة الشيخ الألبانى حفظه الله تعالى .
وقد أمضيت نحو شهر فى هذه الرحلة ، ولما علم الشيخ بموعد سفرى دعانى على الغداء
عنده فى يوم الرحيل ، وسألنى عن حال السلفيين فى مصر ، وسألته عن الطريقة
المثلى لنشرة الدعوة ، وكيف نواجة المخالفين لنا ، وكان يوما حافلا أمضيته مع (
عميد السلفيين ) فى العالم الإسلامى حفظه الله وبارك فى عمره0
--------------------------------------
(1) اقتباس من كلام الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ورضي عنه في
مقدمته لكتابه ( الرسالة ) تحقيق المحدث النبيل أبي الأشبال أحمد شاكر رحمه
الله .
(2) قال النبي صلي الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء الخزاعي : ((إِنَّا لَمْ
نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ
قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاءُوا
مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ
أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ
فَعَلُوا وَإِلا فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا ، فَوَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي
، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ )) فَقَالَ بُدَيْلٌ : سَأُبَلِّغُهُمْ مَا
تَقُولُ .
(3) توفي شيخنا رحمه الله و رضي عنه يوم السبت 22 / جمادي الآخرة / 1420 هـ
الموافق 2/ 10/1999 بعد عصر هذا اليوم ، فاللهم ارض عنه و اغفر له و ارحمه كفاء
ما قدَّم للمسلمين من تقريب السنة والذب عنها .
(4) ثم ثوفي الشيخ رحمه الله في رجب ( 1417هـ) اللهم اغفر له و ارحمه ، وارض
عنه كفاء ما نافح عن دينك ، وما جاهر بكلمة الحق .
(5) و في " لسان العرب " ( 4/3876 ) قال : " والكسعي الذى يضرب به المثل في
الندامة ، وهو رجل رام رمي بعد ما أسدف الليل عيرا فأصابه ، و ظن أنه أخطأه
فكسر قوسه ، وقيل : وقطع أصبعه ثم ندم من الغد حين نظر إلي العير مقتولا وسهمه
فيه ، فصار مثلا لكل نادم علي فعل يفعله ، و اياه عني الفرزدق لما قال:
ندمت ندامة الكسعى لما غدت مني مطلقة نوار
وقول الآخر :
ندمت ندامة الكسعى لما رأت عيناه ما فعلت يداه "
وذكر ابن منظور سببا آخر
(6) وهو حديث باطل كما حققته عند الرقم ( 1529 ) من هذا الكتاب والحمد لله
(7) ثم توفى رحمه الله يوم الأربعاء الرابع عشر جمادى الآخرة سنة ( 1412هـ)
فاللهم ارض عنه وتقبله
موقع الشيخ:
http://www.alheweny.com/index2/index.htm