كانت فتاتي بطلة هذه القصة ، تعيش لوحدها في منزلها مع أخوتها الأولاد ، و
كانت تشعر بالوحدة رغم اهتمامهم بها ، و قربهم الدائم منها ، لكن الظروف
السيئة قد اجتمعت عليها من كل الاتجاهات...... وحده ، عزلة و فراغ .
فتاتي كانت طالبة في الجامعة ، تخرج منها فتقوم بإعداد وجبة غداء بسيطة لها ،
لأن أخوتها كانوا يأتون متأخرين من أعمالهم ، فكان عليها أن تأكل وجبتها
وحيدة ، وفي أحيان كثيرة كانت تفقد الرغبة بالأكل بمجرد انتهائها من إعدادها
، فتتركها مكانها وتخلد للنوم .
استمر وضع فتاتي على هذا الحال طويلاً ، خاصة و أنها لم يكن لديها علاقات
واسعة مع الفتيات ، فكانت لا تجد من تحدثها حتى ولو بالهاتف .
كانت تقصي أوقات فراغها غالباً بالقراءة ، فهي لا تحب مشاهدة التلفاز ، و لا
تجد شيئاً يقطع عليها وقت الفراغ سوى القراءة ، و تدوين ملاحظاتها على الكتب
التي تُعجب بها .
في أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع ، كانت فتاتي تشعر بالملل ، رغم حرص أخوتها
على قضاء الأوقات معها في مثل هذا اليوم ، لكن ذلك المساء كان أخوتها مدعوين
على حفل عشاء ، ما عدا واحد منهم كان خارج المنزل لظروف العمل .
عاد هذا الأخ فوجد أخته تنظر للسماء و حيدة ، فتعجب من وجودها لوحدها في يوم
الخميس ، أقترب منها و سألها :
وش تطالعين فيه ؟
قالت : الجو رائع اليوم ، شكلها بتمطر الحين بإذن الله .
رد عليها وقال : فعلاً الظاهر بتمطر ، لكن تعالي هنا ، ليش قاعده بروحك ؟ وين
أخواني ؟
أجابت قائله : معزومين على العشاء .
قال : هذه أول مره تقعدين فيها لوحدك في البيت يوم الخميس !
قالت : صحيح لكن وش أسوي ، الظروف أقوى مني .
صمت أخيها قليلاً و ذهب ، وبعد برهة عاد إليها و قال :
وش رأيك نطلع أنا و أنت اليوم ؟
أجابته باستغراب : لكن الحين الساعة 8 معاد فيه وقت للطلعه !
قال : لا ! فيه وقت ، بس أنتِ أخري وقت نومك اليوم و خليه يوم استثنائي في
التاريخ المعاصر ! ............... ذهب و هو يضحك منها ، وطلب منها أن تستعد
خلال دقائق .
فرحت بهذه الدعوة المفاجئة ، ومن أخيها هذا بصفة خاصة ، لأنها نادراً ما كانت
تخرج معه لظروف عمله .
ركبت السيارة ، و علق على سرعتها في الخروج قائلاً :
ما شاء الله عليك ، أربع دقائق بالضبط ، شكلك متحمسة للطلعه !
انطلقا في شوارع الخبُر الجميلة ، و أخذت تتأمل السماء و تنتظر هطول الأمطار
فتلك اللحظات عندها لا تقدر بثمن ، عندما تسقط قطرات المطر على الشوارع ، و
تسمع صوته على زجاج السيارات ، وتشاهده من خلال الأضواء المسلطة من السيارات
.
بدأا في تجاذب أطراف الحديث ، فأخذ يسألها عن دراستها و زميلاتها و كل
أخبارها ، فكانت تجيبه بصراحة و صدق وعفوية ، و هو يستمع و يعلق على بعض
المواقف ، فإن لم يعجبه تصرف منها ، نصحها و بين لها وجهة نظره ، و ترك لها
فرصة للتفكير ، كان يعطيها المجال لتتحدث بما تريد دون خوف من قول حتى
الأخطاء التي وقعت فيها ، و من بين تلك الحكايات ، ذكرت له موقف حدث معها في
الجامعة صباح ذلك اليوم ، حيث اقترحت عليها بعض الزميلات الخروج معهن (
للسيفوي ) ، لكنها رفضت الخروج ، فسألها أخيها مستفسراً عن سبب موقفها معهن
قائلاً :
وش السبب اللي خلاك ترفضين تروحين معاهن ، مع أن الأجواء تساعدك على الطلعة ؟
قالت : صحيح البنات قالوا نفس الكلام ، قالوا لي محد حولك من اهلك لو طلعتِ ،
فتعالي وسعي صدرك معانا احسن لك ، المحاضرات خلاص انتهت وش تقعدين تسوين
الحين ؟ ليش ما تطلعين ؟ قلت لهن معليه بنتظر اخوي لين يجي ويأخذني ، و ما
ابغى اطلع معاكن ، لأنه ماله داعي لطلعاتكم بالأساس و أنا عن نفسي توني جايه
من السيفوي من يومين و كنت رايحه مع اخوي ، فليش أروح له الحين و أنا مالي
حاجة .
تبسم أخيها من ردها و أرتاح لهذه الإجابة التي كان بانتظارها ، فهو يدرك
جيداً أن خير أسلوب للتعامل مع الفتيات هو عدم الحرمان من كل شئ ، فالضغط
يولد الانفجار ، و الكبت يسبب الانحراف ، فلا بأس من تلبية رغبات الفتيات
طالما أنها لا تخرج عن حدود الشرع ، وليس فيها تجاوزات أخلاقية ، ففي هذه
الحالة من المهم تلبية طلباتها فهذا خير من حرمانها من امور بسيطة قد تلجأ
إلى تحقيقيها بطرق ملتوية .
ما قلت لي وين بروح ؟
قطع صوتها المفاجئ حبل افكاره ، و رد عليها قائلاً :
بخليها مفاجأة !
قالت : طيب قل لي يمكن تودين مكان رحت له من قبل .
قال : أبداً ما أظن انك رحت لهالمكان أبداً ، و بتشوفين بعد شوي .
أخذت تفكر بالامكان التي لم تذهب إليها ، ولم تتذكر مكان معين ، خاصة و أنا
المناطق الترفيهية محدودة ، و عندما تعبت من التفكير نسيت أمر المكان وعادت
لتجاذب أطراف الحديث مع أخيها .
و صلا عند عمارة من تسعة طوابق ، تقع أمام الكورنيش مباشرة ، في الدور التاسع
منها مطعم فخم ، دُهشت ولم تصدق أنها ستنزل لهذا المطعم ، فلقد سمعت عنه من
زميلاتها لكنها لم تزوره يوماً .
نزلت من السيارة و نظرت للسماء بحزن ! لأن حلمها لم يتحقق برؤية المطر في هذه
الليلة .
دخلا للمطعم و أخذت تنظر بدهشة لما حولها ، فكل شئ غريب بالنسبة لها ،
الأشخاص و الوجوه و الأجواء ، لم تتعود الذهاب لمطاعم بهذا المستوى ، فتعجبت
مما رأت و تسألت بصوت غير مسموع : كيف تتغير أوضاع البشر من مكان لمكان آخر
بهذه الطريقة ؟
أختار أخيها طاولة في زاوية المطعم التي تطل على البحر مباشرة ، فرحت بهذا
الاختيار الموفق لأخيها ، رغم أن أجواء المطعم لم ترق لها ، و توجها لتلك
الطاولة ، لكن قبل جلوسهما طلب أخيها من النادل ، أن يُحضر الحاجز لكي يضعه
حول طاولتهم ، و في أثناء انتظارهما أخترق سمعهما كلمات وجهت إليهما من فتيات
بالقرب منهما : شوفوا الفرق بين شكلها و شكل هالجذاب اللي معاها !!
ضحكت الفتاة بصمت من تفاهة عقول بعض الفتيات ، التي لم يكلفن أنفسهن عناء
تغطية وجوههن عن الرجال ، فقد استغربن من نقابها الضيق و عباءتها الواسعة ، و
أن هذا يدل على سوء المظهر بزعمهن !
تم تثبيت الحاجز ، و جلسا في مكانهما و اختارت الكرسي القريب من النافذة ، و
نظرت نحوها لتشاهد أمواج البحر الهائجة و هي تضرب بقوة على صخور كورنيش
الخُبر ، ابتسمت من قوة موج البحر ، لكن سرعان ما تذكرت حلمها القديم فزاد
الشوق في نفسها مرات ومرات لرؤية قطرات المطر و هي تهطل لتلتحم مع هذه
الأمواج العاتية .
طلب أخيها الطعام ، و سألها عن رأيها في المكان ، فقالت :
حلو ، و موقعه ممتاز ، لكن الأجواء اللي فيه مش مريحه !
قال : فعلاً ، انتبهت لهالأمر ، لكن عموماً جمال المكان ، يهون الموضوع .
سألته عن المطعم وصاحبه ، فدار الحديث عنه ، ثم اخذ يحدثها عن طبيعة الشعب
التي ينتمي إليها صاحب المطعم ، و دخلا في موضوعات عن البلدان التي زاراها
أخيها ، و كانت تلح عليه بأن يحكي لها عن كل شعب من تلك الشعوب .
في أثناء تناولها للعشاء كانت تنظر بين الحين والآخر للبحر و السماء ، و تفكر
في جمال هذا التمازج العجيب بينهما في هذه الظلمة ، ولولا أن الليلة تصادف
منتصف الشهر لما رأت ذلك المنظر الرائع ، والذي يعكس ضوء القمر مباشرة على
البحر لينير الآفاق البعيدة .
أخذت تتأمل بهدوء و كأنها تشاهد مسرحية طبيعية نفذها و صنعها و ابدعها خالق
السموات والأرض ، و قام كل بدوره المرسوم له بدقة ، القمر يضئ المكان ، و
البحر مسرح الأحداث ، و الموج العاتي البطل المتمرد على الأحداث ، و كان
ينقصها البطل الحقيقي ( المطر ) .
في هذه الأجواء تناولا طعامهما ، و لما انتهيا منه ، سألها أخيها عن نوع
الحلى المفضل عندها ليطلبه لها ، فأجابته :
آيس كريم !
ضحك بصوت عالي هذه المرة ، وقال لها بتعجب : وش معنى الآيس كريم ! الدنيا برد
.
شعرت بالحرج من طلبها لكنها أصرت عليه ، و اشترطت أن يكون بالفراولة .
تأملها أخيها و أحس بأنها تشعر بالسعادة و الراحة ، وتريد أن تكتمل سعادتها
بأكل الآيس كريم ، ففكر أن يجعلها تشعر بالمرح أكثر و يدخل السرور إلى نفسها
، فقال لها :
يا لله قومي بنمشي .
نظرت له بتعجب و قالت : والآيس كريم !
قال : لا تخافين بناكل آيس كريم و أنا بأكله معك بس في مكان ثاني عنده آيس
كريم رائع !
فرحت بهذا الاقتراح و لبست نقابها و أخذت حقيبتها ، وقبل أن يسيرا خطوة واحدة
، ألقت النظرة الأخيرة على البحر ، فرأت أمراً أدهشها و أستوقفها مكانها
فأخيرا تحقق حلمها !
نادت أخيها وقالت له : مطر أخيراً نزل المطر !
وقفت تنظر لتلك الصورة التي طالما تمنت رؤيتها و هي لحظة التحام المطر بأمواج
البحر ، و موقف البحر عند هطول المطر ، هل يستمر في سكونه ، أم يزداد تمرده ؟
كان ذلك المنظر رائعاً ، و زاد في جماله ، ارتطام أمواج البحر بالصخور بقوة
اكثر ، نتيجة هطول الأمطار بغزارة ، فذهب بصرها بعيداً و في عينها دموع تكاد
أن تنحدر ، لكن حاولت إخفائها حتى لا تلفت نظر أخيها فيظن أنها غير سعيدة .
تلك الدموع ارتسمت في عينها ، لأنها و منذ زمن تريد رؤية البحر لحظة هطول
المطر ! كان ذلك حلمها الذي طالما تخيلته ، ولم تتوقع أن تراه هكذا و دون
ترتيبات مسبقة .
قطع أخيها لحظة التأمل تلك ، وقال لها :
أنتِ إلى الآن هنا ، رحت ادفع الحساب و جيت و أنت على نفس وقفتك ! وش فيك ؟
قالت له : لا يفوتك منظر المطر ، وصمتت .
أقترب أخيها و قال سبحان الله فعلاً رؤية المطر تشرح صدر الإنسان ، طيب وش
رأيك ننزل بسرعة قبل لا يوقف المطر ؟!
تذكرت رغبتها الأولى ، فعلاً هي تريد رؤية العالم الخارجي وهو مبلل بالمطر ،
فأسرعت بالنزول .
عند الباب الخارجي للمطعم ، قال لها أخيها : الحين وشلون نمشي في هالمطر ؟
قالت : ليش نمشي ، وين السيارة ؟
قال : بنروح مشي للمطعم الثاني .
تعجبت من رده وقالت : ليش ؟ وين هالمطعم ؟
قال : هنا قريب مطعم الملتقى فيه آيس كريم لذيذ ، وفرصة علشان نمشي في هالمطر
!
زادت فرحتها عند سماعها الكلمة الأخيرة ! هل حقاً ستسير هكذا بانطلاق في هذه
الأجواء الرائعة من اجل أن تأكل الآيس كريم !
صرخ بها قائلاً : هاه وش قلتِ موافقة ؟
و بسرعة أجابت : طبعاً موافقة و من دون شروط يا لله .
قال : لحظة ، إذا بنمشي عادي ، ما راح نوصل المطعم إلا وحنا متبللين بالكامل
، وش رأيك نروح ركض و نتسابق من يوصل أول للمطعم ؟
كاد أن يغمى عليها و هي تسمع هذا الاقتراح الأخير ، فهذا أقصى ما كانت تتمناه
!
صرخ مره أخرى عليها : هاه وش قلتِ موافقة !
قالت : موافقة موافقة موافقة ، كل شئ تقوله موافقة عليه ، لكن أخاف يشوفنا
أحد !
قال : لا تخافين الحين الساعة في حدود 12 محد حولنا ، بس يا لله شدي حيلك ، و
شيلي نقابك وشدي غطائك على وجهك و انا أضمن لك محد بشايفك .
ألتفت لتتأكد من خلو الشارع ، ورأت الهدوء يخيم على المكان فقامت بشد غطاء
الوجه حول رأسها و كشفت عن جزء من وجهها لكي تبلله قطرات المطر أثناء جريها .
ركضت بكل قوتها ، و نسيت المكان و الزمان و أرادت فقط أن تسبق أخيها كالأطفال
.
وصل أخيها قبلها فأثار هذا غضبها وقالت له :
أنا كنت بسبقك لكن كنت مرتبكة ، خائفة أحد يشوفني !
ضحك أخيها من تبريرها السخيف ، و طيب خاطرها كما هو الحال مع الأطفال ، وقال
: طيب شاطره أنت بطلة !
زاد التعليق الأخير غضبها ، لكن سرعان ما زال وهي ترتب عباءتها و نقابها ، و
تمسح قطرات المطر عن عباءتها ، ماعدا تلك القطرات التي على وجهها تركتها و هي
سعيدة بها .
دخلا و طلبا الآيس كريم ن وتناولها بنهم شديد ، لكن لم تشعر بالراحة لأنها لم
تجد نافذة تنظر من خلالها لزخات المطر ، وما هي إلا لحظات حتى يعلن إغلاق
المطعم ، فخرجا منه و كانت تدعوا الله أن يكون المطر مستمر في التساقط .
و فعلاً كان الجو كذلك ، فالمطر ما يزال يسقط لكن بكميات اقل ، فذهبا إلى
السيارة سيراً ، مستمتعان بهذا المشي .
وصلا للسيارة ، و سلكا طريق العودة للمنزل ، وكانت الأجواء كما تريد ، المطر
ينهمر على زجاج السيارات و قد تغير لون الشارع و الأبنية ، و كان منظر قطرات
المطر أكثر وضوحاً عند الاقتراب من أضواء السيارات ، فكانت تركز عليها عينيها
لترى بوضوح المطر .
بدأت تشعر بالنعاس فأصبحت أكثر هدوء ، ولم يتخلل طريق العودة حديث طويل سوى
بعض التعليقات حول ما رأوا .
وصلت لمنزلها و دخلت مباشرة لغرفة
نومها ، و توجهت لسريرها وقد أنهكها التعب ، و ما أن وضعت رأسها على السرير
حتى
رن جرس الهاتف
و نظرت للساعة و أدركت أن الوقت متأخر كثيراً ، لكن خشيت أن يكون المتصل أحد
أهلها المغتربين و لم يجدوها في المنزل .
تناولت سماعة الهاتف و قالت :
نعم .
رد عليها المتصل وكان شاب فقال لها :
السلام عليكم .
ردت :
وعليكم السلام ، من يتكلم ؟
قال :
شكلك طفشانه و ما عندك أحد و ابغى
أسليك شوي ،…ودي أصادقك و … واخذ يردد بعض الكلمات الفارغة .
في أثناء حديثه أخذت تفكر :
هل يظن هذا الشخص أني بخون الأمانة و
أصادقه فعلاً و اخوي توه قايل لي تصبحين على خير !
وضعت السماعة بقوة ، دون أن ترد بحرف عليه ، و أقفلت جرس الهاتف ، و وضعت
رأسها على سريرها
و هي تفكر في تلك اللحظات الجميلة
التي قضتها مع أخيها ، و التي كانت سبباً
- دون أن تشعر –
في حمايتها من ذلك الذئب الذي أراد العبث معها
،
تلك الساعات كانت بمثابة الدرع الواقي
لها من ذلك الشخص ، تلك اللحظات التي منحتها العطف والحنان و الشعور بالأمان
، جعلتها تعيش لحظات في منتهى السعادة
رغم بساطتها ، تشعر و كأنها كانت في رحلة لبلاد العجائب ، رغم أن هذه السعادة
كانت بسبب رؤية أمواج البحر العاتية و هي تضرب في صخور اليابسة ! و بسبب
الركض تحت قطرات المطر من اجل لقمة آيس كريم !