|
لم أكن املك سيارة ، وكنت مدرساً في وزارة الدفاع والطيران في المملكة العربية
السعودية ، حديث عهد بالرياض المدينة التي لا ترى فيها المارة يمشون في الطرقات
، بل الكل في سيارته وإلى عمله أو إلى مصلحته ، فقررت أن يكون منزلي قرب عملي ،
حيث لا أقع في مشاكل المواصلات ، والوصول إلى العمل في الوقت المناسب حتى لا
أكون متأخراً .
أسرتي مكونة من ستة أفراد ، وأنا وزوجتي ، أجمع متطلبات بيتي من الماء الذي كان
يُباع في المحطات ، وكذلك الغاز ، بواسطة سيارة أجرة ( ليموزين ) مرة ، أو أحد
الأصدقاء يأتي إلي متبرعاً ومتعاطفاً مرة أخرى .
أمضيت على هذا الحال ثلاث سنوات وذلك لأسباب حتى اشتريت أول سيارة سنة 1983 م .
وذات مرة قبل أن أملك السيارة ، اتصل ابن عم لي قائلاً أنني قادم من اليونان ،
ومعي حمولة فاكهة ، وأريد مشاهدتك في سوق اعتيقه .
اتصلت بصاحب لي وقلت : تعال معي .. ابن عمي في الرياض قادماً من اليونان ، تعال
لنحضره للبيت .
قال الرجل : دقائق وأكون عندك ، وفعلاً بعد سبع دقائق كان الرجل عندي ، ذهبتُ
معه وأمام شارع الكباري قديماً الحجاز حالياً ، كانت الإشارة قد احمرت ولم ننظر
إليها ، وإذا بنا نعبر الشارع ونحن مخالفين ، وكانت الشرطة لنا بالمرصاد ، قف !
قف ! قف على اليمين خلف الجسر .. لماذا !؟ فإذا بشرطي يتسم بالأخلاق والأدب ،
فقال : لماذا أنتم قطعتم الإشارة الضوئية وهي حمراء ؟ قلت : اتّق الله يا رجل ،
لم تكًن حمراء ، قال : يا شيخ إنها حمراء ، قال صاحب السيارة وسائقها : نحن
نعتذر إن كانت الإشارة حمراء ، وأقسم انه لم ينظر إلى الإشارة قط ، قال : أنتم
مخالفون ، قلت : وماذا تريد ؟ قال : الرخص ومخالفة ، قلت لصاحبي : والله لن
تدفعها ، قال : لا والله ، بل أنا أتحمّل خطئي ، قلت : لا والله ، أنا السبب ،
أنا الذي أحضرك ، فلو بقيت في قيلولتك نائماً لما أخذت المخالفة .
الشرطي يكتب المخالفة ، ثم يتقدّم إلينا .. وقال : على ماذا تُقسمون ؟ قلت :
على من يدفع المخالفة ، قال : لماذا ؟ قلت : لي ابن عم قدِم ضيفاً عليّ ، وطلبت
من صديقي هذا أن يذهب معي لإحضاره ، لأنني لا أملك السيارة ، فقال : إذاً أنتما
تُقسمان على من يدفع المخالفة !! قلت : نعم ، قال : لماذا قلت أنا لا املك
سيارة وهو يتبرّع لمساعدتي في إحضار ضيفي ، فكيف بي أجعله يدفع المخالفة وهو
فاعل خير ؟ عندها قال الشرطي : ما دام الأمر هكذا ، وكل منكم يريد أن يعمل
معروفاً ، فأنا أسامحكم لصدقكم ، ولن تدفع أنت ولا هو .. فالمخالفة ستُلغى ،
قلنا : بارك الله فيك وفي أمثالك من الشرطة ، فمسك المخالفة ومزّقها .
ومرة في جنح الظلام ، حمل صديق لي كيساً من الدقيق لعائلة مقدارها ثلاثة عشر
نفراً ، وذلك لمساعدتها لظروفها المادية القاهرة ، وعجز أهل هذا البيت سداد
الالتزامات المادية عليهم ، بسبب ظروف الانتفاضة والإغلاقات ، والوضع الاقتصادي
الحرج .
وما أن طرقنا الباب ، وإذا بالرجل يخرج قائلاً : ما هذا ؟ قلنا : رزق ساقه الله
لك ، فسأل من أين ؟ قلنا : من باب خير من مُحسن كريم ، قال : بارك الله فيكم ،
وجزاكم الله خيراً ، لكني البارحة اشتريت سبعة كيلو غراماً من الدقيق ، أما
جارنا أبو أحمد ، فليس عنده ذرة من دقيق منذ ثلاثة أيام ، فلو أنكم قدّمتموها
له لكان أفضل ، قلنا : ليس له اسم عندنا ، بل اسمك أنت ، قال : لكني أصدقكم
القول أنني أملك قوت اليوم والغد ، ولكن جاري لا يملك قوت الأمس ولا اليوم ولا
الغد ، فقدموه له ما دام عملكم لله تعالى ، قلنا : خيراً إن شاء الله ، وتقدّم
معنا وطرق الباب حتى خرج أبو أحمد ، وقدّم له كيس الدقيق ، فكم كانت فرحة أبي
احمد عندما حمل الكيس وادخله داخل المنزل وه9و يدعو بالخير لفاعله .
وفي ثالث أيام عيد الأضحى المبارك ، انطلقت بنا السيارة توزّع لحوم الأضاحي ،
وقد قامت اللجنة الاجتماعية برفع أسماء الأشخاص الذين سيستفيدون من هذا المشروع
، وستُوزَّع عليهم لحوم الأضاحي ، وكان عملنا ليلاً ، لأنه أفضل على نفوس أولئك
المحتاجين ، والعمل فيه أبعد عن الرياء ، وأرضى لرب العباد .
طرقنا الباب ، خرج الرجل وقال : ما هذا ؟ قلنا : لحوم أضاحي ، وهذا حقّك ، قال
: يا جماعة : انا ضحيت ، قلنا : من أين لك هذا ؟ قال : من باب الكريم ، إذ أرسل
إلينا أحد الإخوة شاة كاملة لنذبحها أضحية للأسرة كاملة ، فكم كانت فرحة
الأولاد عندما شاهدوا الذبح والسلخ والتقطيع والطبخ .
أما جارنا فلم يدخل عليه ولا على أولاده شيئاً من هذا ، فلو أنكم أعطيتموه إياه
لكان خيراً لكم ، ذهبنا وقدّمنا للرجل ، فما أن قيض على الكيس إلاّ وإذا به
يلهج بالدعاء مع البكاء لفاعلي الخير ، الذين يذكرون إخوة لهم لم توقد لهم نار
منذ أسابيع ولم يُطه عندهم لحم منذ أشهر .
وصورة ثالثة تزيد إشراقاً / كان نشيطاً ومتعاوناً مع الندوة العالمية للشباب
الإسلامي ، الكل يعرفه ، ويعرفون جهوده ، كان ابنه نموذجاً في الخُلُق والأدب
والدين ، ومن حفظة كتاب الله تعالى ، ما مرّت مسابقة قرآن إلاّ وشارك فيها ،
أتحف إخوته وأخواته بالهدايا التي كان يحصل عليها ، فقال رئيس قسم الابتعاث في
الندوة : هذه منحة لولدك لما تقدّمونه من جهود خيّرة للمسلمين ، ولحفظ ابنك
لكتاب الله تعالى ، علاوة عن أدبه وأخلاقه .
وافق الأب ثم عاد إلى بيته ليُخبر زوجته بما حصل معه ، وهو في حالة تردد بين
القبول والرفض ، فقص عليها الأمر ، قالت الزوجة : نحن يرزقنا الله وأمورنا
ميسّرة ، وكثير غيرنا أولى وأحقُّ بها منا ، اذهب إليهم وتنازل عن البعثة لأحد
الطلبة الفقراء .
يقول الأب : عُدت إلى الندوة وأخبرت الإخوة أن ابني ليس بحاجة لهذه البعثة ،
وإنني متنازل عن حق ولدي لأي فقير آخر ترونه ، ونحن لسنا بحاجة لها .
قال أحدهم : الله أكبر ، هل أنت بعقلك ؟!! قلت : نعم ، قال : خير ساقه الله
إليك وترفضه ! قلت : لا أرفض الخير ، بل أشكر الله سبحانه وتعالى عليه ، لكني
أستطيع أن أُدرّس ولدي على حسابي الخاص ، قال : كم راتبك ، قلت : فيه البركة ،
فألحّ فقلت ، قال : غيرك يأخذ ثلاثة أضعاف راتبك ، ويطالب ببعثة لابنه ليل نهار
، ويُوسّط آخرين عند المسؤولين للحصول عليها ، أما أنت فالرأي رأيك والقرار
قرارك ، قلت : الله هو الغني ، وهو المُغني ، لا أريدها ، قال : إذن لمن تريدها
؟ قلت : أن تذهب لأي مستحق أكثر حاجة من إبني لها ، قال : بارك الله فيك .
وفي اليوم الثاني كلّمني الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي في
مكتبه الخاص د. مانع الجهني – رحمه الله – فقال : يا أبا ....................
، قليل ما نجد مثل هذه الحالة ، ومثل هذا النموذج الغني في نفسه ، ولو أن كل
إنسان خاف الله واتّقاه ، ونظر لمن هو أقل منه ، لما حلّ بنا ما حل ، قلت له :
كل نفس بما كسبت رهينة ، فردّ عليّ – رحمه الله –قائلاً : نعم .. نعم " وكل
إنسان ألزمناه طائره في عنقه " لو أن الناس فهموا هذه المواقف لطبّقوا قوله
تعالى " ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
فطوبى لعبد قدّم غيره على نفسه في مصلحة خير .. والله الموفِّق .
www.ibenbaz.org
info@ibenbaz.org