بدأ حلماً .. يراودها ، منذ تسع سنوات . وقتها .. كانت في الصف الثالث
الابتدائي ، حين صارحت أمها ، بأمنية ( بريئة ) كأحلام الطفولة ، بعد موقف مرّ
بهما . موقف ظل يتكرر كثيراً ، في أعوام تالية ، كلما أخذ والدها والدتها إلى
المستشفى ، للكشف عليها .. حين تمر بعارض صحي . تسمع توسلات أمها عميقة ولحوحة
، وهي تتمنّع في بعض المرّات ، عن الذهاب إلى المستشفى ، رغم وضعها الصحي السيء
، ثم توافق على مضض :
- أرجوك يا ناصر ، إذا كان دكتور ، لا أريده أن يكشف علي ..!
في كل مرّة ، كان زوجها يرد بحزم :
- ليس عندنا حل ثانِ يا مها ، إذا لم يكن هناك دكتورة ..
- لا .. أرجوك يا أبا أحمد .. أموت ، ولا يكشف عليّ رجل .
سنوات تمضي ، ومشهد يتكرر . في إحدى المرّات .. تذكر أن والديها ، عادا من
المستشفى ، بكيس من الأدوية . أبوها كان هادئاً ، لكن والدتها بدت بحالة نفسية
متردّية ، أسوأ من تلك التي ذهبت بها . سمعت والدها يتحدث .. يطمئنها ، ويؤكد
بأن حالتها عادية ، ولا تستدعي القلق ، وأقسم على ذلك عدة مرّات .. وأن الطبيب
أخبره بذلك . ثم ختم حديثه قائلاً :
- وكان كذلك ، مؤدباً جداً .. وهو يكشف عليك . أليس هذا هو المطلوب ؟
أفرغ كيس الأدوية على طـــاولة صغيرة ، في وسط غرفة النوم ، وأخذ يستعرض
تعليمات الاستعمال ، الملصقة عليها :
- كل شيء واضح .. أهم شيء الالتزام بالمواعيد .
نظر إلى ساعته وقال :
- سأخرج للصلاة الآن ، ولدي موعد بعدها ، استريحي .. عائشة ستساعدك .
نادى على ابنته ، وقال ممازحاً :
- أكيد تعرفين .. تقرأين ..؟
هزت رأسها ..
- شوفي التعليمات المكتوبة على الأدوية ، وأعطيها ماما .
جثت على ركبتيها قريباً من الطاولة ، ثم التقطت منديلاً ورقياً ، وفرشته في
إحدى زواياها . شرعت تقرأ الإرشادات ، المرفقة مع كل علبة دواء ، ثم تفتحها ،
وتأخذ منها ، حسب ما هو مبين في ملصق التعليمات ، وتضعه على المنديل ، حتى مرّت
عليها كلها ، وأعادتها بعد ذلك إلى الكيس . أحضرت كأس ماء ، ثم جمعت الدواء في
المنديل ، واتجهت إلى والدتها ، التي كانت قد استلقت على السرير ، ووضعت وسادة
على وجهها :
- ماما .. الدواء ..
التفتت الأم ، بعد أن رفعت الوسادة عن وجهها ، ونظرت إليها بعينين مبللتين .
مدت يدها إليها لتأخذ الدواء ، وبقايا ألم ما زالت في العينين .. تحاول أن
تواريها :
- تسلمين حبيبتي ..
- أمي .. بابا يقول ، أنت طيبة ، وما فيه شيء خطير ، ليه أنت متضايقة ؟
- ما فيه شيء حبيبتي ..
- أجل ليه تبكين يا ماما .. أنت متضايقة من المستشفى ..؟
أغلقت كفها على الدواء ، ثم أغمضت عينيها وأطرقت . كانت تحبس وجعاً غير عادي ،
وتتمنى لو تجد من تبوح له به . في خاطرها أن البنت صغيرة ، ولا تستوعب حديثاً
عن أحوال النساء .. بهذا المستوى . كيف تفصح لها ، عن خجلها الشديد ، من كشف
الطبيب عليها ؟
عندما رفعت رأسها ، كانت ابنتها ما زالت واقفة ، ممسكة كأس الماء بيدها ،
وعلامات الاستفهام ، قد استولت على كـــــامل وجهها . أخذت كأس الماء منها ،
وتـــناولت كومة حبوب الدواء من المنديل ، وجمعتها في كــفها ، ثم قذفتها في
فمها ، وأتبعتها بجرعة ماء . وضعت الكأس بجانبها ، ولم تشأ أن تنظر في وجهها ،
حتى لا تشعر بحرج من تهربها من الإجابة . أحست بها تتقدم نحوها .. ثم تقف ،
وتطوق عنقها بكـــفين ، وساعدين ممدودين . رفعت رأسها ، ولما التقت نظراتهما ..
فاجأتها بما لم تتوقع :
- ماما .. لمّا أكبر ، أصير دكتورة وأكشف عليك .
صرخت وضمتها :
- يا عمري يا ( عيّوش ) .. حاسة فيني ..!
انـــزاح عن صـــــدرها هم ثــــقيل ، فانفرجت أساريرها . كـــــانت تريد البوح
، أن تتـــــحدث إلى ( أحد ) . لم تظن أن عائشة الصغيرة ، قادرة على إدراك ما
يعتمل في داخلها . أجلستها إلى جانبها على طرف السرير ، وانطلقت تحدثها عن
حيائها من الرجال ، وشعورها بالإثم ، لإطلاع الطبيب على أجزاء من جسدها :
- أستحي يا بنيّتي ، وأحس إني أموت مئة مرّه ، قبل ما يخلص الدكتور من الكشف .
لم تعلق عائشة ، وإنما استمرت تتأمل أمها ، وتمسح وجنتيها بكفّيها .. وتكرر بين
آن وآخر جملتها : " أكبر وأصير دكتورة ، وما يكشف عليك إلا أنا " . تبتسم الأم
وتضمها ، لكنها لا تخفي عدم رغبتها في أن تصبح عائشة طبيبة :
- اسم الله عليك يا حبيبتي .. أخاف عليك..!
كبرت عائشة ، وبقي الحلم يكبر ، في كل مرّة يتكرر الموقف ، حينما تضطر أمها
للذهاب إلى الطبيب .. وكثيراً ما حدث ذلك . حلم طفلة التاسعة ، بقي خواطر عفوية
ساذجة ، تروح وتجيء ، إلى أن كان قدره أن يتعرض لصدمة ، حوّلته إلى هدف ، غير
قابل للمساومة .. لفتاة أصبحت أكثر نضجاً ، وتقترب من سن الزواج ، وصارت تعرف
من أمور النساء الشيء الكثير .
في مجتمع ينشئ نساءه ، على الحشمة والحياء ، وتنظر المرأة لذلك ، على أنه مقياس
لقيمتها ، وسور يمنع التعدي عليها .. لم يكن صعباً أن تفـــهم ، لماذا تعاني
أمها ، كل هذه المعاناة ، في كل زيارة لها .. للطبيب . إنها .. بمفهوم آخر
ثقافي ، غــــير معــــلن ، تعتبر إطلاع الطبيب الرجل ، على خصوصية جسدها
إنتهاكاً لمحرم ، واختراقاً لحصونها ، التي تستمد منها ، واحدة من أهم قيمها
المعنوية . في مقابل القيمة الحسية ، التي تَعْمَد إلى ( تَشْيِيء )
المـــــــــرأة ، والنظر إليها ، بوصفها شـــــيئاً ( متاحاً ) ، باعثاً للّذة
.. ومن ثم ابتذالها جنسياً ، يعلي الحياء والحرص على خصوصية الجسد .. من القيمة
المعنوية للمرأة ، بوصفها كــــينونة بعقل .. ومنظومة قيم . صحيح أن حالة
والدتها ، لا تتكرر كثيراً ، لكنها تستند إلى بيئة تربوية وثقافية .. تتفاوت
النساء في تمثّلها .
كانت شابة في السابعة عشرة .. طالبة في الصف الثاني الثانوي ، حينما رافقت أمها
الحامل ، برفقة والدها إلى المستشفى .. في رحلة أحدثت تحولاً عميقاً في مجرى
حياتها :
- أمك تحتاج إلى مساعدة يا عائشة .. تعالي معنا . أصلّي المغرب ونمشي .. كونوا
جاهزين ..
حين وصلوا المستشفى ، توجهوا لقسم الطوارئ . قصد موظف الاستقبال ، وقال أن
زوجته حامل ، وتشكو من آلام شديدة ، رغم أن موعد وضعها لم يحن بعد :
- لديها ملف ..؟
- نعم ..
ثم مد يده إلى جيبه ، وأخرج بطاقة بلاستيكية ..
كانت على كــرسي متحرك . أشار إليه ، وهو يمد البطاقة .. إلى ممرضة على يمينه ،
بأن يدفعها باتجاه مكتب ، يتجمع حوله عدد من الممرضات . أخذت الممرضة التي تحدث
إليها ، البطاقة التي كانت تحمل اسمها ، ورقم الملف ، ومعلومات عامة عن المريض
. شرعت تملأ البيانات ، في ورقة تناولتها من ملف أمامها ، وتملي في الوقـــت
نفسه ، عبر الهاتف ، الذي رفعته بكتفها ، وألصقته بأذنها .. معــلومات الملف ،
على شخص آخر تحادثه . أثناء ذلك ، كانت الممرضات الأخريات قد وضعنها على سرير ،
في إحــــدى غرف الطوارئ ، وبدأن بأعمال الفحص الأوّلي . أبـــــو أحمد ..
زوجها ، كان متوتراً ، على غير عادته ، فبادر الممرضة :
- هاه .. يا ( سستر ) ، إن شاء الله خير ..؟
- إن شاء الله .. " ممكن فيه ولادة ، بس لازم دكتور يشوف أول " .
عائشة كانت إلى جوار أمها ، حـــين لاحظت أنها انتفضت ، بمجرّد سماعها كلمة (
دكتور ) . بعفوية لا تخلو من توتر ، سحبت الأم الغطاء على بطنها المكشوف ، رغم
أنه لم يكن موجوداً ، إلا زوجها وابنتها والممرضة ، التي تقيس ضغطها ، ودرجة
حرارتها .. ولم تكن قد انتهت بعد ، من استكمال إجراءات الكشف . لما أرادت
الممرضة أن تزيح الغطاء ، لتضع السماعة على بطنها ، أبعدت يدها ، واجترّت نفساً
عميقاً .. وقالت :
- أرجوك يا ( سستر ) ، إذا خلصتِ .. أبغى دكتورة تكشف علي .
لم ترد الممرضة ، وإنما واصلت إجراءات الفحص ، وطرح الأسئلة التقليدية ، عن
تاريخها المرضي ، وإذا ما كان لديها حساسية ، تجاه دواء معين . تجاهل الممرضة
لطلبها ، زادها إحباطاً ، ورفع وتيرة قلقها .. فنظرت إلى زوجها بعينين منهكتين
، أثقلهما الإحراج ، والشعور بالعناء الذي تسببه له .. فعجزت عن فتحهما بكامل
استدارتهما .. وقالت :
- أسألك بالله .. يا أبو أحمد ، فكّني من وجع القلب هذا ..!
أغضى .. وتنهد بصوت مكتوم ، ولم يعلّق . وقف للحظة .. ثم شد على يدها ، قبل أن
يذهب . خرج من عندها ، وصار يتلفّت بحثاً عن أحد يسأله . شاهد شاباً يرتدي
معطفاً أخضراً ، يناقش إحدى الممرضات في ورقة يحملها . اقترب منه ، وأخبره
بحاجة زوجته لعناية عاجلة . لم يقطع الشاب حديثه مع الممرضة ، بل التفت بسرعة
.. وقال وهو يشير بيده .. باتجاه أحد الأشخاص :
- كلّم الدكتور بشير ..
- وأنت ..؟
- أنا طبيب امتياز .
- يعني ..؟
لم يـــــرد عليه ، بل استمر في حديثه ، واكتفى بالإشارة إلى شخص سوداني في طرف
الصالة ، عليه معطف أبيض ، ويتحلق حوله عدد من الأشخاص ، بينهم ممرضات . سأل
إحدى الممرضات عن الدكتور بشير ، فأشارت إليه . أراد أن يحدثها عن حالة زوجته ،
فاعتذرت وأخبرته .. أن عليه أن يتحدث مع الطبيب المسؤول في قسم الطوارئ ..
الدكتور بشير . اقترب وحيّاه :
- مساء الخير دكتور ، أنا زوجتي حامل وتعبانه .. ممكن ..
- الدور جاي عليها ، دقائق فقط ، وأجيء لها .
- المشكلة يا دكتور ، إنها تريد طبيبة تكشف عليها .
- للأسف .. الليلة الدكتورة صار عندها حالة طارئة .. ومشت ، ولا يوجد في القسم
عندنا ، إلا دكاترة رجال ، يكشفون على المرضى .
- والولادة ..؟ الممرضة قالت أنها ربما تكون عندها حالة ولادة مبكرة ..!
- موضوع الولادة ليس فيه مشكلة ، على حد علمي ، يوجد طبيبة ، لكن دعنا الآن
نراها ، ونعرف ما هي حالتها بالضبط ، مع الدكتور فيصل ..
ثم أشار برأسه إلى طبيب ، يقف على بعد أمتار منه ، يقلب مجموعة أوراق بين يديه
. يبدو الدكتور فيصل ، من ملامحه ومظهره الخارجي أنه سعودي . فرح بذلك ، وقال
يحدث نفسه : دكـــتور سعودي .. سوف يتفهم موقف زوجتي ، ورفضها للأطباء الرجال
.. ويقدر حالتها النفسية ، وشعورها .
عاد إلى زوجته ، وفضل أن يبدأ بإطلاعها ، على ما يظن أنه الخبر الذي سيطمئنها
ويريحها . يعلم أنه لو أخبرها بعدم وجود طبيبة ، تتولى الكشف عليها ، فإن وضعها
النفسي سيتدهور ، وحالتها الصحية ستزداد سوءاً . قال إنه تحدث إلى الدكتور رئيس
قسم الطوارئ ، عن رغبتها في طبيبة تتولى متابعة حالتها ، وأن الدكتور أكد وجود
طبيبة نساء وولادة ، سوف تتولى رعايتها ، والإشراف على الولادة .. بمجرد أن يتم
تحويلها من الطوارئ إلى قسم التوليد ، بعد أن تنتهي إجراءات الكشف ، والتأكد من
حالتها .. ثم أضاف ، بكثير من الاطمئنان :
- هناك أيضاً دكتور سعودي موجود في الطوارئ ، سيساعدنا لو حصل أي إشكال ..
بدت أمارات الرضا على وجهها ، ولم تنتبه لكلام زوجها ، أن من سيتولى الكشف
عليها ، وينهي إجراءات فحصها .. قبل تحويلها لقسم التوليد ، دكتور وليس دكتورة
. كان انتباهها مركزاً على الجزء الأول من الكلام ، الذي يتحدث عن طــــبيبة
النــساء والولادة . عائشة انتبهت للأسلوب ، الذي خاطب به والدها والدتها ،
ولاحظت مظاهر ارتياح اتسم بها حديثه ، وهو يتحدث عن وجود طبيب سعودي . انتبهت
أيضاً للسكينة التي غمرت أمها ، بعد سماعها لكلام والدها . اختلست نظرة لوجه
والدها ، الذي أدرك ما يدور في خاطرها .. فتبادلا ابتسامة ارتياح وإعجاب . هي
للطريقة الذكية التي استخدمها لطمأنة أمها ، وهو لذكائها وسرعة بديهتها .
كانت الممرضة قد فرغت من إجراءات الفحص ، ودونت النتائج في بيان معها ، وعلى
وشك أن تخرج ، حين دخل الدكتور بشير السوداني ، ومعه الطبيب الآخر ، الذي كان
واضحاً ، من لهجته وكلامه أنه سعودي . أخذ الدكتور بشير الورقة من الممرضة ،
وتحدث بلغة إنجليزية مع الطبيب الآخر ، وصارا يستعرضان المعلومات التي دونتها
الممرضة . طلب الدكتور بشير من الممرضة أن تكــشف عن بطن المريضة . تمسكت أم
عائشة بالشرشف ، لكن زوجها نظر إليها بعتاب .. وخاطبها بصوت خافت :
- مها ..!
طرفت عيناها من خلف النقاب ، ثم أرخت قبضتي كفيها عن الغطاء .. وتنهدت بعمق .
في الوقت نفــــسه ، انحنت عائشة ووشوشت في أذن أمها بكلمات غير مسموعة ، أطلقت
بعدها الشرشف ، وتركت الممرضة تقوم بواجبها .
وضع الدكتور بشير السماعة على الجزء الظاهر من بطنها ، وتحدث مع الطبيب الآخر ،
الذي تناول منه السماعة ووضعها في أذنيه . أصغى لبضع ثواني ، ثم التفت إلى
الدكتور بشير ، وهز رأسه موافقاً ، وعلق بعبارة واحدة . كان الحوار باللغة
الإنجليزية ، فلم يفهموا شــيئاً مما دار بينهما . التفت الدكتور بشير إلى والد
عائشة ، أبو أحمد وقال :
- زوجتك لديها حالة ولادة مبكرة ، وسنكتب لها إذن تنويم . الدكتور فيصل هو
استشاري النساء والولادة .. سيتولى إكمال الإجراءات .. والإشراف على الولادة .
تبادل أبو أحمد نظرات سريعة مع زوجته ، التي فاجأها الخبر ، وكان خلاف ما
توقعته .. فظهر الهلع في عينيها ، وأخذت تجمع الشرشف حولها بعصبية ، وتردد : لا
.. لا . كان الدكتور بشير على وشك أن يخرج ، قبل أن يستوقفه زوجها ، ويقول له :
- لكني يا دكتور ذكرت لك ، أن زوجتي لديها مشكلة ، ولا تريد إلا دكتورة لتقوم
بتوليدها .
- والله يا أستاذنا ، هذا ليس من اخــــتصاص الطوارئ .. كلم الدكتور فيصل .. هو
المسؤول .
غادر الدكتور بشير ، فالتفت أبو أحمد إلى الدكتور فيصل ، الذي كان يرتب إجراءات
التنويم مع الممرضة ، وسمع الحديث الذي دار بينه وبين الدكتور بشير .. فقال :
- دكتور فيصل ، لو سمحت ..
قبل أن يكمل كلامه ، فاجأه الدكتور فيصل ، دون أن ينظر إليه ، وهو ما زال
منشغلاً مع الممرضة .. برد جاف ، وتقاطيع جامدة :
- الإجراءات تتم حسب المتوفر ..
- الدكتور بشير ، قال لي قبل وصولك بدقائق ، إن فيه طبيبة .. دكتورة .
انفعل الدكتور فيصل ، ورد بعصبية :
- يعني أنا كذاب ..؟!
- أنا ما قلت كذا ..!
واصل الدكتور فيصل انفعاله ، وبوتيرة أعلى :
- قلت .. أو ما قلت ، أزعجتونا . كل واحد يجيء لي .. أبغى دكتورة تولد زوجتي .
إيش الأوادم هذي ؟ صلحوا لكم مستشفيات بمزاجكم . عاجبك نظامنا ، أو خذ زوجتك
وتوكّل على الله .. الباب يوسع جمل ..!
ثم ختم ردّه الحاد ، بعبارة خافته ، حاول أن تكون غير واضحة :
- ناس متخلفة ..!
لكن يبدو أن أذن أبو أحمد ، قد التقطت الكلمة :
- يا دكتور .. هذا مستشفى حكومي ، ومن حق المواطن أن يلقى احتراماً ، وخدمة
صحيحة . التخلف .. ليس التزام الإنسان بما يؤمن به ، بل معاملة الناس بهذه
الطريقة .
اندفع الدكتور فيصل خارجاً من غرفة الفحص ، بعد أن أكمل بلغة غاضبة ، توجيه
تعليماته للممرضة . لم تفلح في إيقافه .. عبارة : " أرجوك يا دكتور " ، التي ظل
أبو أحـــمد يرددها .. أملاً في أن يستمع إليهم ، ويتفهم ظروف زوجته ، ووضعها
النفسي . أراد أن يشرح له ، أنها ليست مسألة حلال أو حرام فقط ، ما يجعل زوجته
ترفض الأطباء الرجال .. وهو ما فهمه ، من وصفه لهم بالتخلف .. بل بسبب حالتها
النفسية . كان واضحاً أن مــــوقفه قطعي ونهائي ، لأن الممرضة ، بعد انصرافه ،
جاءت وأكّدت لهم ، أن الدكتور فيصل ، طلب منها أخذ توقيعه وإقراره ، على أن من
سيتولى توليد زوجته طبيب رجل ، وليس طبيبة .
أراد أن يتبعه .. ليجادله ، لكنه فضل أن يبقى ليهدئ زوجته ، التي أخذت تنتحب ،
وفاض الدمع من عينيها ، حتى بلل معظم نقابها . منظر زوجته تتلوى من الألم ،
وموقف الدكتور الحاد من طلبهم ، جـعله يشتعل سُخطاً وغضباً .. ولم يبقِ مجالاً
للصبر ، فخرج ليلحق به . جال في قسم الطوارئ يبحث عنه ، وهو يردد بغيظ :
- أين دكتوركم المحترم ..؟
لم يجده .. وكذلك الدكتور بشير ، لم يكن موجوداً .. هو الآخر . بدأ يعلو جداله
مع موظف الأمن ، الذي كان يطالبه بالهدوء .. أو سيضطر لاستدعاء الشرطة لإخراجه
. زوجته وابنته كانتا تسمعانه من داخل غرفة الفحص . خشيتا عليه أن ينفعل ،
فيقدم على تصرف غير محسوب :
- عائشة .. نادي على والدك بسرعة .
خرجت عائشة لتجد والدها في جدال محتدم مع رجل الأمن ، وبعض العاملين في قسم
الطواريء . نادت عليه ، وأخبرته أن أمها تريده . حين دخل على زوجته ، كان وجهه
محتقناً ، عليه أثار الإجهاد والغضب ، من النقاش الحاد ، والشعور بالإحباط . لم
يطق الصبر على نظراتها الكسيفة ، ولا استطاع أن يديم النظر إلى وجهها الأبيض
الغض ، الذي انقبض وعــصرته آلام المخاض ، وشحب .. فصار أصفر ، بعد أن امتص
نضارته ، الإحساس بالعجز .. والمهانة ، من طريقة تعامل الدكتور فيــصل معهم .
قال لها .. كأنما يريد أن يعيد إليها ولنفسه ، كرامة مهانة ، وإنسانية مهدرة :
- حبيبتي مها ، لا يهمك الدكتور قليل الأدب هذا . الآن نطلع ، ونروح لمستشفى
خاص ، وتولّدك دكتورة .
ثم التفت إلى ابنته .. ليؤكد ما عزم عليه :
- عائشة .. هاتي عربية . أنا سأساعد ماما على النزول من السرير .
اعتدلت زوجته في جلستها ، وأمسكت بيد ابنتها ، لتمنعها من الذهاب ، وقالت ..
وهي تنظر إليه ، بعيون امتلأت حباً :
- لا يا ناصر .. الله يخليك لنا . المستشفيات الخاصة تكلف كثير ، وأنا ولادتي ،
يحتمل أن تكون غير طبيعية . العمليات القيصرية غالية جداً .. يفرجها ربك إن شاء
الله .
ثم أضافت ، بنغمة لا تخلو من خوف :
- تذكر جيراننا أم خالد .. كيف طردهم المستشفى الحكومي ، لعدم وجود أَسِرِّة ..
لأن زوجها ، ليس من منسوبي ذلك القطاع ، وراحوا لمستشفى أهلي ، وكلفتهم الولادة
أكــثر من 25 ألف ريال .. ما قدروا يدفعونها ، فرفض المستشفى تسليمهم المولود ،
إلا بعد شهر ، لمّا استلفوا .. ودفعوا لهم .
عائشة كانت ترقب المشهد . تتأمل صراع أمها مع الألم ، وصراعها مع نفسها .. بين
رفضها أن تذهب إلى مستشفى خاص ، سوف يكلفهم فوق ما يطيقون ، وبين قبولها بأن
يتولى عملية توليدها رجل ، وهو أمر فوق أن تحتمله . نغمة اليأس العميق ، بدت
واضحة جداً ، وهي تعترض على اقتراح زوجــــها . جملتها الأخـــــيرة : " يفرجها
ربك " ، خرجت خافتة متقطعة ، وعبّرت عن حقيقة شعورها العميق ، بالأسى والمرارة
، رغم أن ظاهر كلامها خلاف ذلك . حين أنهت عبارتها هذه ، أسبلت جفنيها ، ثم
انزلقت على وسادتها ، فغاص رأسها في الوســــادة ، وهبط صدرها ، بعد أن زفرت
نفساً عميقاً . بدا المشهد ، بين انغماس رأسها في الوسادة ، وهبوط صدرها ..
وكأنها تهوي إلى قاع .
ألم عائشة تضاعف ، وهي تشـــاهد والدها تقسّمه الحيرة ، بين ما آلت إليه حال
أمها ، بسبب موقف الدكتور فيصل ، وبين رغبته في أن يساعدها ، للخروج من هذا
الوضع ، بنقلها إلى مستشفى خاص ، رغم ضعف إمكاناته المادية . انتبهت إلى أن
حيرته تضاعفت ، بعد رواية أمها لقصة أم خالد . تسترجع المشهد لبضع دقائق مضت ،
حين كــــان والدها ، يشرق وجهه بالأمل ، وتكسو محيّاه علامات الارتياح ، لوجود
طبيب سعودي . تلحظ الآن ، شعوراً بالمرارة ، يجعله يوالي ارتشاف الماء ، من
زجاجة مياه صحية لم تفارق يده ، منذ أن تجادل مع العاملين في قسم الطوارئ ، حول
موقف الدكتور فيصل . سمعته يردد في جداله معهم : " تصوّروا .. يصفنا بالتخلف ،
لأن زوجتي امرأة تستحي ، وتراقب ربها ، ولا تريد أن يقوم بتوليدها .. إلا طبيبة
. هل يعقل أن يكون هذا الدكتور وأمثاله ، من نفس مجتمعنا ، ويدينون بدينه ..؟ "
. أحست أن صدمتها من تعامل الطبيب ، وخيبة أمل والدها به ، أشد أذى على نفسها ،
مما اعترى والدتها من انزعاج ، لعدم وجود طبيبة تـــتولى توليدها .
هــذا المــوقف ليس الأول ، الذي يصدمها فيه تعامل بعض السعوديين . العام
الماضي ، روت لها زوجة خالها ، التي كانت عائدة من رحلة خارجية ، موقف راكب
سعودي ، رفض أن يتنازل لهم عن مكانه ، ليلتئم شمل الأسرة ، وتبرع بذلك شخص هندي
. تتذكر أن زوجة خالها ، قالت بسخرية ، تعليقاً على ذلك الموقف : " لا .. وبعد
، لابس قميص ( تي شيرت ) ، كاتب عليه : ارفــع رأسك .. أنت سعودي . على ويش ..؟
على زين الطبائع ..! " .
ابتسمت في سرها ، إذْ صادف تعليق زوجة خالها ، قناعة داخلية لديها ، بأن هذا
الشعار ، ينطوي على إحساس مزيف بالتفوق .. ولا يخلو من نبرة عنصرية ، تكرّس
فوقية فارغة .
استغرقت في التفكير ، تتأمل والديها الموزعين بين عناءين : الرهاب النفسي
لوالدتها من الأطباء الذكور ، وعجز والدها عن تحقيق رغبة أمها . مادياً .. بسبب
ضيق ذات اليد ، ومعنوياً بسبب صلف الدكتور وعجرفته . عادت بها الذاكرة إلى
سنوات مضت ، إلى حلم صغير لابنة التاسعة . أمنية طفلة باحت بها .. في لحظة
براءة ، لأم اشتكت إلى ربها .. في خلوتها ، عجزها ، وقلة حيلتها . كادت أن تفلت
منها ابــــــتسامة ، في أجـــــــواء الأسى هذه ، حــــــــــين تذكرت قولتها
القديمة لأمها : " ماما .. لما أكبر أصير دكتورة ، وأكشف عليك " . أحست أن هذه
الأمنية ، صارت أكثر إلحاحاً .. الآن ، لتكون حقيقة . شريط الذكريات انقطع فجأة
، على صوت ممرضة تزيح ستارة غرفة الفحص ، وهي تدفع سريراً بعجلات .. وتقول :
- " يا الله ماما ، نروح القسم ، فيه تنويم " .
تناظروا فيما بينهم . الأب لزم الصمت ، أما عائشة فاصطنعت ابتسامة ، لتشجع
والدتها على النهوض ، وصارت تهز رأسها ، وتشير إلى السرير الذي تمسك به الممرضة
. أدركت والدة عائشة أن صمت زوجها ، ينطوي على موافقة ضمنية على رأي ابنتها ..
بالاستجابة للممرضة . أصلحت من ملابسها ، ونهضت واستقرت على السرير .
دفعت الممرضة السرير باتجاه باب خشبي من درفتين ، لونه أزرق فاتح ، بمستطيل
زجاجي .. يمتد عمودياً وسط كل درفة . من خلال الزجاج ، يبدو ممر طويل ، يلمع
بلاط أرضيته البلاستيكية ، من شدة النظافة . حين انطبقت درفتا الباب ، لحظة
تجاوزوه .. اختنقت الأصوات ، التي كانت تملأ قسم الطوارئ ، فخيّم الهدوء ، إلاّ
من وقع أقدام ، لرجل يسرع الخطو ، في آخر الممر .
نحيب أم أحمد المتقطع ، صار هو الأعلى ، مع ابتعاد وقع خطوات الرجل . صار صوتها
كذلك ، يرتفع احتجاجاً ، فيدوي في المكان.. معترضة على ذهابها لقسم الولادة .
الممرضة التي يبدو أنها قد تأثرت بحالتها النفسية ، وشاهدت انفعال الدكتور فيصل
في حديثه معهم ، أشفقت عليها ، وسعت لتهدئتها .. بعــــبارات من نوع : " ماما
.. ليش فيه خوف .. كله بسيط ، هذا فيه بنج ، ما فيه ألم . إن شاء الله .. الله
يخلي ولادة طبيعي " .
كانت الممرضة ، أثناء حديثها مع أم أحمد ، تربّت على كتفها بهدوء ، أو تضع كفها
على جبينها . حديثها اللطيف ، ولمساتها الحانية ، جذبت انتباه عائشة ، فاختلست
نظرة إلى بطاقتها الشخصية ، المعلقة على صدر معطفها . استطاعت أن تلتقط اسمها
الأول : روزماري . أثار الاسم فضولها :
- ( سستر ) .. أنتِ من أندونيسيا ..؟
ردّت بابتسامة :
- " لا ... أنا فلبين " .
فاجأها الرد . كأنما كانت تتمنى أن تكون من أندونيسيا ، رغم أن ملامحها ،
واسمها لا يدلان على ذلك . في ذهنها .. ارتبطت اندونيسيا بالإسلام ، والفلبين
بالمسيحية . همست لنفسها : " من الفـــلبين .. ليست مسلمة ، تعاملها طيب ، يا
الله .. خسارة " .
أبقت في نفسها أملاً .. أن تكون من مسلمي الفلبين ، لكنها استحت أن تسألها عن
دينــها ، وأحست بحاجز نفسي ، انتصب بينهما ، يمنعها من استمرار التواصل معها
.. حين داخلها شك بأنها مسيحية . لا تدري لماذا ينتابها مثل هذا الشعور .. مع
غير المسلمين ، رغم أنها ، ليست المرّة الأولى ، التي تقــابل فيها شخصاً غير
مسلم ، بأخلاق حسنة . كما أنها .. تصادف حالات كثيرة ، لا يكون تعامل المسلمين
فيها جيداً . هذا الوضع ، سبب لها إرباكاً ، وشعوراً بالإحباط . إنها حاجتنا أن
ننسجم مع إيماننا وقناعاتنا ، وأن ننفر من التناقض : أليس التعامل الحسن ،
خلقاً إسلامياً ؟ .
كانت سارحة ، تقلب في ذهنها معنى اسمها : ( روزماري ) .. وتود لو سألتها ماذا
يعــــــني . ربما يفصح ذلــــــك عن دينها .. الذي ما زالت في شك منه ، وقد
يفسر لها .. كما تعتقد ، علاقة ذلك ، بسلوكها اللطيف .. دون أن تتعرض لحرج
السؤال المباشر . عزّت نفسها بخاطر آخـر : " حتى لو لم تكن مسلمة .. تعاملها
طيب " . قطعت عليها الممرضة أفكارها ، حين بادرتها :
- " ليه ماما .. فيه خوف من ولادة " ..؟
- " لا .. ماما ما فيه خوف . ماما ما تبغى دكتور رجال يسوّي ولادة " .
فتحت عينيها بدهشة .. وقالت :
- " بَسْ ..! ما فيه مشكلة ، أنا أكلم دكتورة " .
كانوا عند مدخل قسم الولادة .. ووضع أم أحمد النفسي قد ازداد سوءاً ، حين طلبت
منهم الانتظار ، لتتولى بحث الأمر . عائشة ووالدها التزموا الصمت ، لكن والدتها
، صارت تلهج بالدعاء لها بالجنة ..! سحبت الممرضة الملف ، المعلق بذراع السرير
المعدني ، وأسرعت إلى مكتب رئيسة جهاز التمريض .
أبو أحمد علق مازحاً .. ليخفف عنها ، ويضفي جواً من المرح :
- تدعين لها من قلب .. يا أم أحمد ، تراها مسيحية .. كأنك تغيرت ..!
لم ترد .. لكنه أضاف باسماً :
- أيّام إعصار ( كاترينا ) ، لما كنت تدعين على الأمريكان ، بالموت والغرق ،
كنت لما أقول لك : مساكين .. ما لهم علاقة بــ ( بوش ) وحكومته الملاعين ، قلت
لي : خلهم .. كفار ، يستاهلون ..!
- الأمريكان يكرهوننا .. أنت ناسي إني ما دعيت عليهم ، لأنهم كفار ، لكن لأنهم
يسجنون الشباب السعوديين في غوانتانامو .. ويقتلونهم ، ثم يقولون إنهم انتحروا
.. وبعدين الممرضة هذي طيبة .. ما علي منها ، دينها لها ، أنا يهمني التعامل
الطيب !
استمر في مشاكستها ، بأسلوب ، لا يخلو من الدعابة والاستفزاز :
- ما شاء الله .. هذا شيء جديد ..!
- لا .. أنا سمعت الشيخ في صلاة التراويح .. في رمضان ، يقول إن الإسلام يأمر
بالإحسان ، والتعامل الطيب مع الكفار ، الذين لا يأتي منهم ضرر أو أذى .
- الله يجعلها سبب خير ..
أقـــبلت الممرضة تحمل الملف معها . كانت تمشي بسكينة ، دون انفعالات ظاهرة على
وجهها . حين اقتربت ، قالت بهدوء .. وهي تعيد الملف إلى مكانه :
- " خلاص ماما .. ما فيه دكتور رجّال ، دكتورة ميمونة يسوّي ولادة " .
صرخت أم أحمد من المفاجأة ، وصارت تردد : " يا بعد عمري ، يا بعد عمري " ، ثم
التفتت إلى ابنتها :
- إيش اسمها يا ( عيّوش ) ..؟
- روزماري ..
- يا بعد عمري يا روز ..
ابتسمت الممرضة ، وهي تدفع السرير إلى داخل القسم .. من رد فعلها الشديد . كانت
تراقب أم أحمد ، وقد تحول وجهها من قطعة أسى مغموسة بالدمع ، إلى مساحة من
البهجة . يتطاير الفرح من كل قسماته ، وتومض في وسطه ابتسامة ، افتر عنها ثغرها
المرصع بثناياها البيض .. المتراصة بانتظام . أدركت أن هذه الفرحة الكبيرة ،
كانت بسبب ما قامت به ، من أجل أن تتولى توليدها طبيبة . لم تزد على أن ابتسمت
ابتسامة خفيفة ، ورمقتها بنظرة رضا ، ثم طلبت من زوجها أبي أحمد ، أن يبقى في
غرفة انتـــظار جانبية ، لأنه ليس مسموحاً للرجال ، من غير العاملين ،
بتـــجاوز هـــذه المنطقة .
فرحة أم أحمد ، بما فعلته الممرضة من أجلها ، لم تقف عند حـــــــــد الدعاء
لها ، والتعبير عن شكرها العميق ، لما قامت به .. أو حتى القبلة العنيفة ، التي
طبعتها على خدها . ثمة امتنان يتوارى في اللاوعي ، ترغب في ترجمته إلى ســـلوك
واعي .. قـــــالت لعائشة :
- اسأليها .. عن معنى اسمها . إن الله رزقني بنيّة ، لأسميها عليها .
ضحكت عائشة ، ونقلت للممرضة ، التي كانت تجهز سرير التنويم .. ما تقوله أمها .
ابتسمت الممرضة ابتسامة عريضة وقالت ببهجة واضحة :
- " روزماري .. أووه هذا ( كريستيان نيم ) ..!
لم تكن لغة عائشة الإنجليزية .. تسعفها ، لتفهم ماذا تقصد ، وكانت على وشك أن
تسألها توضيحاً لكلامها ، عندما دخلت امرأة منقبة ، ترتدي معطفاً أبيضاً . فهمت
عائشة ووالدتها ، من مخاطبة الممرضة لها بالدكتورة ، أنها قد تكون طبيبة من قسم
الولادة . عرفت بنفسها :
- أنا الدكتورة ميمونة .. مناوبة الليلة في قسم الولادة .. أنت ستكونين مريضتي
وتحت متابعتي .
- يعني أنتِ التي ستولّدينني يا دكتورة ..؟
- نعم .. الدكتور عبد العزيز ، كبــــير الأطباء ، كان في الطوارئ ، وأتصل بي ،
وطلب مني أن تكوني مريضتي .. كأنه ألمح إلى وجود مشكلة .
خجلت أن تتحدث عن حالتها .. ولم ترد . نظرت عائشة إلى أمها ، تستأذنها
بالــكلام :
- أمي يا دكتورة ، عندها مشكلة مع الأطباء الرجال . حالتها النفسية تسوء ، إذا
كشف عليها طبيب . كانت على وشك أن تنهار ، لمّا رفض طبيب في الطوارئ اسمه فيصل
، أن تتولى توليدها دكتورة ، وقال ما فيه طبيبات ..
- حصل خير . الممرضة روز شرحت حالتها لرئيسة الممرضات في القسم ، وهي بدورها
اتصلت على الطوارئ ، وصادف وجود كبير الأطباء ، مع الدكتور بشير ، وتم تكليفي
بمتابعة حالتها .
قاطعت الأم ، وسألت بلهفة :
- يعني أكيد يا دكتورة .. دكتور فيصل هذا ما له علاقة ..؟
- الدكتور عبد العزيز ، كبير الأطباء ، هو صاحب القرار .. وهو إنسان رائع ، ومن
خيرة الأطباء السعوديين .. ويتفهم مثل هذه الحالات .
أخبرتهم الطبيبة أن دلالات الفحص الأولى ، تشير إلى أن الولادة لن تكون طبيعية
، وأنها قد تحتاج إلى عملية قيصرية ، خاصة وأن الأشعة فوق الصوتية تبيّن ، ولكن
بشكل غير مؤكد ، أنها قد تكون حاملاً بتوأم . ثم أضافت ، موجهة الحديث لعائشة :
- قد تتأخر ولادتــــها عدة ساعات .. ستكون تحت المراقبة ، ولن تكون بحاجة
لمرافق . خذي من الممرضة رقم هاتف القسم ، ورقم التحويلة .. واتصلوا في الصباح
للاطمئنان ، وعندما يحين موعد الزيارة بعد الظهر ، تستطيعون الحضور .
عادت عائشة ووالدها إلى البيت . حينما رجعت الظهر من المدرسة ، كان الخبر السار
بانتظارها . في غرفتها وجدت على وسادتها رسالة من والدها : ورقة بيضاء ، رسم
عليها شكلاً لوجه يبتسم ، وتحته كتب هذه العبارة : " انضم اليوم عضوان إلى (
قبيلتنا ) " . فهمت الرسالة : أمها ولدت توأم . هذه واحدة من دعابات والدها ،
الذي قال مرّة ، لما ذهبوا إلى أحد المطاعم ، ولم يجدوا مقاعد كافية لجميع
أفراد العائلة .. أنه في المستقبل ، سوف يـــفتح مطعماً ، ويغير قــــسم
العائلات ، إلى قسم ( القبائل ) .
لم تسعها الفـــرحة . أخذت تقفز ، وتدور حول نفسها .. وتدندن . اتجهت إلى
الهاتف ، واتصلت بالمستشفى . جاءها الرد ، فطلبت التحويلة .. ثم تتابع الرنين
عدة مرات ، دون إجابة . كررت الاتصال أكثر من مرّة ، وفي المرّة الرابعة ، سمعت
صوتاً مختلفاً على الطرف الآخر .. سألت :
- ممكن أكلم أم أحمد ..؟
- فيه واحدة في السرير الثاني .. اسمها مها ، هل هي التي تقصدين ..؟
- نعم ..
- نائمة ..!
أغلقت الخط ، واستبد بها قلق . أخذت تحدث نفسها .. مترددة : هل تتصل بوالدها ،
أو تنتظر وصوله ؟ لا تدري هل هو الخوف على أمها ، أم الفضول .. هو ما يلح عليها
بالاتصال . لم يطل ترددها ، فالتقطت جوالها واتصلت . فوجئت بأنه مغلق . نظرت
إلى ساعتها ، وقالت .. وهي تهز رأسها : " وقت الصلاة " . اعتاد والــدها أن
يغلق جوّاله ، وقت الصلاة . رأت أن تنتهزها فرصة ، لتغير ملابس المدرسة ، وتصلي
.. ثم تعاود الاتصال بوالدها . سيكون وقتها ، قد فرغ من الصلاة ، وأعاد فتح
جواله . كانت قد انتهت من صلاتها ، حين دق جوالها بنغمة مميزة . همست في سرها :
" هذا البابا " .. ردت مازحة :
- أهلاً بشيخ ( القبيلة ) ..!
- يا لعّابة ..
قالها وهو يغالب الضحك .
واصلت معابثتها له :
- كيف حال حرمكم المصون .. أيها الأمير ؟
- أنا في الطريق . سوف نتناول غداءنا ونذهب . كلمتُ والدتك الصباح .. ولادتها
قيصرية ، وهي طيبة ، لكنها في ورطة ..!
ردّت بوجل :
- بسْم الله عليها .. عسى ما شر ؟!
- أبداً .. صحتها جيدة ، لكنها متورطة .. بالعهد الذي قطعته على نفسها .
- أي عهد ..؟
- بأن تسمي واحدة من البنتين ، على الممرضة روز ماري ..
- يعني التوأم بنتين ..؟ دم .. دم يلاللىّ ..!
جالت في البيت ، على إخوانها وأخواتها ، تغني وتهزج ، تبشرهم بولادة أمها لتوأم
:
- ولدت أمي بنتين جميلتين .. مثل القمر .
اتصلت بخالاتها وعماتها وبناتهن ، وأرسلت رسائل جوال لعدد من الصديقات . خلال
ربع ساعة ، كان الخبر قد انتشر ، مثل نور القمر ، على حد تعبيرها .. بين دائرة
كبيرة ، من الأقارب والأصدقاء . حين وصل الأب ، تناولوا غداءهم بسرعة ، ثم
انطلقوا إلى المستشفى ، يرافقهم الابن الأكبر أحمد .. الذي يصغرها بما يزيد
قليلاً .. عن العام . تداولت هي وأحمد في السيارة ، أثناء الطريق .. أسماء
كثيرة . في الأخير علق والدهما :
- اختاروا اسماً واحداً فقط . والدتكم جادة في تسمية واحدة من البنات ، على
الممرضة .
وصلوا المستشفى قبل بداية موعد الزيارة بخمس دقائق . مسؤول الأمن كان واقفاً
بالباب ، يمنع الدخول قبل بدء الموعد تماماً . رفض قطعياً طلب والدها ، استجابة
لتوسلاتها .. بأن يسمح لهم بالدخول ، وكان حازماً :
- النظام يا الطيب .. ما فيه دخول قبل الموعد .
كانوا في مقدمة الزوار المنتظرين ، عند باب المستشفى ، ولحظة فتح رجل الأمن
الباب ، وضعت علبة الشـــوكلاته في يد أحمد .. شقيقها ، واندفعت مثل السهم ،
إلى الداخل . تبسم والدها ، وهو يراها تهرول نحو المصعد ، وكتم ضحكة ، وهو يسمع
تعليق شقيقها : " بابا .. أوقف المهبولة هذي " .
في الغرفة .. التفوا حول سرير الوالدة ، وكان التوأم في حاضنة إلى جانبها .
الدعوات بالسلامة ، والتغزل بحلاوة البنتين وجمالهما .. والتعبير عن الدهشة
بقدوم التوأم ، اختلط بأصوات أخــرى ، داخل الغرفة . كانوا أول الواصلين إلى
قســــم الولادة .. الأطباء والطبيبات لم ينهوا بعد ، جولتهم الإعتيادية على
مرضاهم . عائشة كانت الأكثر انفعالاً بالحدث . أخذت تحاول أن تخرج إحدى البنتين
، لتحملها بين يديها ، ووالدتها تصرخ عليها .. لتمنعها ، وتؤكد أن التعليمات
تمنع إخراجهما من الحاضنة . في هذه اللحظة انزاحت الستارة ، التي تفصل بين
أسِرّة المريضات ، ودخلت الطبيبة . ألقت السلام ، وقالت :
- الحمد لله .. العملية كانت سهلة يا أم أحمد ، والبنات حالتهن ممتازة .. ومثل
الأقمار ، ما شاء الله .. تبارك الله .
ردّت أم أحمد .. ووهج ابتسامة يكسو وجهها :
- جزاك الله خيراً يا دكتورة ميمونة .. جهدك ودورك ما ينكر .
- أبداً .. لم أقم إلا بالواجب . بالمناسبة .. هل سمّيتوا الحلوات ..؟
تبادلوا النظرات .. ثم قالت أم أحمد ، وقد برقت عيناها :
- واحدة منهن .. خلاص ، اتفقنا نسميها ميمونة ..
قالتها .. والتفتت إلى الجانب الآخر من ا لسرير ، حيث يصطف زوجها وأولادها ..
وغمزت لهم بعينها . لمعت عينا الطبيبة بالسرور من خلف نقابها .. وقالت بامتنان
:
- والله .. ؟ هذا شرف كبير لي ..!
عائشة التقطت طرف الحديث ، وقالت :
- اسمك محل اتفاق يا دكتورة .. لكن الوالدة ، تريد أن تسمي البنت الثانية على
الممرضة روز ، لكنها محرجة ، لأن الاســــــم غير عربي .. وغريب . وأتذكر إني
لما ســـــــــألت الممرضة عنـــــــــه ، قـــــــالت إنـــه " كريستيان نيم "
.. ولم أفهم قصدها ..!
- أووه .. قصدك الممرضة روز ماري . صحيح اسمها مسيحي .
نظرت أم أحمد إلى زوجها ، الذي كان قد رفع حاجبيه بتعجب .. كأنما يريد أن يوصل
لها رسالة . فهمت حركة وجهه : الاسم ليس غير عربي فقط ، بل له دلالات غير
إسلامية .. كذلك . بدت على وجهها أثار الخيبة ، ولم تعلق . عائشة بادرت ، لكي
تنقذ الموقف .. فــــسألت الطبيبة ، إن كانت تقترح اسماً آخر . الطبيبة .. التي
رأت الإحباط في وجه الأم ، وأدركت رغبتها في التعبير عن امتنانها للممرضة .
إضافة إلى إحساسها العميق هي شخصياً ، بالعرفان لها ، بتسميتها إحدى بناتها
عليها .. أرادت أن تتخذ موقفاً مسانداً لرغبتها .. فقالت :
- هناك حـــل وسط ، تتحقق من خلاله رغبة أم أحمد . نأخذ نصف اسم الممرضة
روزمــاري ، وتسمون البنت مارية ، تيمناً باسم زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم
، مارية القبطية .
وقع الاقتراح في نفوسهم جميعهم ، موقعاً حسناً ، ظهر على أسارير وجوههم ، التي
انفرجت ، وعبّرت أم أحمد عن ذلك ، بشعور تلقائي :
- والله إنك يا دكتورة وجه خير .. وميمونة على اسمك ..
خرجت الدكتورة ، بعد أن أملت عليها عدداً من التعليمات ، بخصوص حالتها الصحية .
أكدت على وجوب الالتزام ببرنامج دوائي ، لعلاج التهاب بكتيري ، أظهر الفحص
المخبري وجوده ، في عنق الرحم .. ثم قالت في ختام حديثها :
- الالتزام بأخذ الدواء ، كما هو محدد .. مهم . الإهمال قد يؤثر في قدرتك على
الإنجاب .. وبالمناسبة ، ممنوع الحمل ، قبل 3 سنوات .. على الأقل ، لأن ولادتك
قيصرية .
بعد أن أنهت حديثها ، مالت عليها عائشة ، وهمست في أذنها . فتناولت القلم من
جيب معطفها ، وانتزعت ورقة من دفتر الوصفات الدوائية ، وكتبت فيها ، ثم أعطتها
إياها .
عندما خرجت ، وأغلقت الستارة خلفها ، التفتت عائشة إلى والدتها مبتسمة ، دون أن
تفصح عن الذي دار بينها وبين الطبيبة .. وقالت :
- ولا يهمك .. إذا حملتِ بعد 3 سنوات ، أكون قرّبت أتخرج من كلية الطب . وقتها
.. أنا سأشرف على الولادة .
ابتسمت أم أحمد وأبو أحمد . أما أحمد ، الذي اعتاد على مناكفة أخته ، فقد عبر
عن سخريته ، بطريقته الخاصة ، حين أخرج لسانه ، وقال : " بالمشمش " . لم يعجب
أم أحمد تعليق أحمد على كلام شقيقته .. فقالت :
- إذا كانت تريد أن تكون مثل الدكتورة ميمونة .. أنعم وأكرم .
انطلقت بعدها أم أحمد ، تثني على الدكتورة ميمونة ، وعلى التزامها وأخلاقها .
وصــــفت بكثــــير من الإعجاب ، كيف أن الفريق الذي كان معها في غرفة العمليات
، كله من النساء ، بما في ذلك طبيبة التخدير . حديث أم أحمد عن الدكتورة ميمونة
، والفريق النسائي العــــامل معها ، يمثل تحولاً كبيراً في موقفها . بقدر ما
كان يعذبها ، اضطرارها للّجوء إلى أطباء رجال للفحص أو العلاج ، كانت تنفر
كثيراً من فكرة شائعة ، عمّا يــدور في المستشفيات من اختلاط ، بين الرجال
والنساء ، من أفراد الطاقم الطبي .. يتجاوز حدود الحاجة ، إلى ما تسميه إحدى
صديقاتها : " قلة الحياء " .
لم تكن عائشة تحتاج أكثر من ثناء أمها على الدكتورة ميمونة ، لتزداد إعجاباً
بها ، ويزيد تعلقها بشخصيتها . كلام أمها ، حمل أيضاً ، موافقة ضمنية على دور
للمرأة ، كانت ترفضه ، وتتوجس منه ، بل وتعتبره كذلك معيباً .. وتدعو الله أن
يحفظها منه . لا تذكر كم من المرّات ، قالت أمها : " بسم الله عليك " ، حينما
تفصح عن أمنيتها بأن تكون طبيبة . جاء كلام أمها عن الــدكتورة ميمونة ، ليعزز
الحلم الأمنية ، ويمنحه دافعاً و شرعية .
عام مضى . البنتان التوأم كبرتا ، وأصبحتا قمرين حقيقيين . ليس جمالهما ورقتهما
، هو ما يجعلهما موضوعاً لحديث أهل البيت المستمر .. بـــل اسماهما أيضاً . اسم
مارية ، ما يفتأ يذكّر الأم ، بمعاناتها مع الأطباء الرجال ، وبتلك الليلة
بالذات ، وذلك القدر الجميل ، الذي ساق الممرضة روزماري لتتدخل ، وتضع نهاية
سعيدة ، لليلة امتلأت بالعناء . أبو أحمد ، يتأمل طفلتيه ، ويتذكر بمرارة
الدكتور فيصل ، وخيبته في طبيب سعودي ، توقع أن يـــكون أكـــــثر تفهماً من
غيره . ما زال غير مدرك ، لماذا تقف بعض النخب ضد أهلهم ومجتمعهم ..؟ أمّا
عائشة فلها شأن آخر . لقد نجحت هذا العام من الثانوية العامة بتقدير ممتاز ،
وبمعدل فوق 95% . اسم أختها ميمونة .. التوأم الأخرى ، أقرب إلى قلبها ، ولا
يكاد يغادر ذهنها . ليس لسبب معين ، لكنها تستذكر بكثير من الأمـــل ، من خلال
اسم أختها ، الدكتورة ميمونة .. لتعزز حلمها وأمنيتها ، بأن تكون طبيبة . خاصة
أن أمها تحمل للطبيبة شعوراً ايجابياً ، وذكريات طيبة . قالت مداعبة والدتها ،
بشيء من المكر :
- يعني يا ماما ، أنـــــت ما تذكرك أختي مارية ، إلا بالممرضة روز ..؟ طيب
ميمونة .. ما تذكرك بالدكتورة ميمونة .. أو مالها فضل ..؟
- يا حبي لها الدكتورة ميمونة .. الله يكثر من أمثالها ..
- أنت جادة يا ماما .. ودّك إن الله يكثر من أمثالها ..؟
نظرت الأم إلى ابنتها ، نظرة تعجب ، وشعرت أنها تخفي شيئاً ، وتهدف من
استثارتها بهذه الطريقة ، إلى الوصول إلى أمرٍ ما . وقفتها الغريبة زادت من
حيرتها . عائشة .. كانت تضع يدها خلف ظهرها ، ثم فاجأت أمها بإبراز ما كانت
تخفيه ، وقالت :
- حبيبتي ماما .. هذا إشعار نجاحي من الثانوية . نسبتي تؤهلني لدخول كلية الطب
. ما تبغيني أكون مثل الدكتورة ميمونة .. أحل مشكلتك ، ومشاكل كثير من الأمهات
أمثالك ..؟
لم تجد الأم ما ترد به على ابنتها ، سوى أن تقول لها ، أن الأمر بيد والدها .
ردّت عائــشة ، على اعتذار والدتها ، وربطه بقرار والدها وموافقته ، بأنها هي ،
وليس غيرها ، من يستطيع أن يقنعه ، إن كانت هي موافقة .. ومقتنعة بالهدف ، الذي
تسعى من أجله ، لتكون طبيبة . ردت والدتها :
- ما عندي مانع أكلم الوالد . صحيح أنا بعد التجربة الأخيرة .. وموقف الدكتورة
ميمونة ، صرت أقدر الحاجة ، لأهمية وجود طبيبة لعلاج النساء ، خصوصاً من هم
مثلي . لكني .. أيضاً تهمني مصلحتك ومستقبلك ، وخائفة عليك ..!
انشق ثغر عائشة عن ابتسامة عريضة ، فقذفت بإشعار النجاح من يدها ، وقفزت في
الهواء .. وهي تردد صيحات فرح .. ثم اتجهت إلى أمها وضمتها :
- يا عــــمري ، يا أحلى ماما . إن شاء الله إني أكون عند حسن ظنكم . أنا قلت
لها ، إنك لن تخذليني ..!
لم تفهم والدتها قصدها ، لكن عائشة نظرت إلى ساعتها ، ثم سارعت وأخرجت من جيبها
، ورقة وصفة دوائية ، مدون عليها رقم . أخذت تتصل به .. وهي تقول بصوت مسموع :
" إن شاء الله الوقت مناسب " :
- السلام عليكم .. دكتورة ميمونة ، كيف حالك ؟ أنا عائشة ، أخت التوأم ميمونة
ومارية .. عرفتيني ..؟
- وعليكم والسلام ، أهلاً .. أهلاً ، أكيد عرفتك ..
- أبشرك .. نجحت من الثانوية بمجموع مرتفع ، الحمد لله . الماما تســـلم عليك ،
وتراها وافقت على تسجيلي في كلية الطب .
مدّت عائشة الجوّال لوالدتها ، التي أخذتها المفاجأة . الآن فقط .. فهمت قصة
الحديث الهامس بين ابنتها والدكتورة ميمونة ، والكتابة على ورقة الوصفة
الدوائية .. قبل عام ، حين مرت عليها الدكتورة بعد الولادة ، في غرفتها في
المستشفى .. للاطمئنان عليها ، وإعطائها التعليمات . تحدثت مع الدكتورة ميمونة
، وكررت شكرها وامتنانها العميق لما قامت به تجاهها . اعتذرت عن ارتباكها ، لأن
عائشة فاجأتها بهذا الاتصال ، الذي يبدو أنها كانت تخطط له منذ زمن .. وأختارت
له ، لحظة حاسمة مثل هذه . تحدثت كذلك ، عن توأمها الجميل .. وكيف أن اسميهما
زاداهما حلاوة ، ملمحة إلى اسم الدكتورة .
الدكتورة ميمونة شكرتها على تأييدها لرغبة ابنتها عائشة ، في دراسة الطب ،
ووعدت أن تقف معها وتساندها ، أثناء دراستها في الكلية . تمنت أيضاً ، أن
تزورها في المستشفى ، ومعها توأمها مارية وميمونة .. لتراهما :
- لقد شوّقتني لرؤية سَميِّتي ميمونة ، وتوأمها الأخرى .. الأَمّورة مارية .
أنا متأكدة أن روزماري ستفرح بهما كثيراً . بالمناسبة ، فهي ممتنة جداً ،
لتسميتك مارية عليها ، وقد ترك ذلك انطباعاً جيداً لديها.
انتظمت عائشة في دراستها في كلية الطب . البيت كله صار يؤيدها ويساندها . أمها
الرافضة الخائفة ، خصصت لها غرفة خاصة في البيت . الوالد المتردد ، صار يطوف
على المكتبات ، يوفر لها الكتب والمراجع . أما شقيقها أحمد ، الذي كان كل ما
تفعله وتحلم به أخته ، محل استهزاء وسخرية منه .. فقد أصبح مصدراً رئيساً ،
لدعم لم تكن تتوقعه .
أحمد صار متابعاً منتظماً لمنتديات الإنترنت . لا يمر يوم أو يومان ، إلا ويزود
عائشة بأوراق ، طبعها من بعض منتديات الانترنت ، بعضها يتكلم عن أهمية دعم عمل
المرأة في القطاع الصحي ، لتخدم بنات جنسها ، وأخرى عن وجوب توفير بيئة مناسبة
للطالبات في الكلـيات الطبية ، والعاملات في القطاع الصحي .. تمنع التحرشات
والمضايقات ، التي قد تقع عليهن . أكثر ما لفت نظرها ، كتابات لصاحب معرّف ، في
أحد منتديات الانترنت الشهيرة ، رمز لنفسه باسم " شهاب الإسلام " . كانت كتابات
شهاب الإسلام ، تفيض حَمَيّة وحماساً ، في الدفاع عن حــــــــــق المرأة ، بأن
يتولى علاجها وتطبيبها ، امرأة مثلها ، وضرورة وجــود بيئة عمل ( نظيفة ) في
المستشفيات ، تؤدي المرأة العاملة فيها ، وظيفتها ورسالتها .
في سنتها الأولى في الكلية ، مثلت لها هذه الكتابات ، بالإضافة إلى ما تلقاه من
دعم أهلها .. سنداً معنوياً غير عادي . خاصة .. وأن والديها تعرضا لانتقادات
كثيرة من أقارب ومعارف ، لسماحهم لابنتهم بالدراسة في كلية ( موبوءة )
بالاختلاط ، كما يقولون . أو بتعبير إحدى قريباتهم : " ريحتها فايحة " ..!
جارتهم .. وهي امرأة متعلمة ، كثيراً ما تفخر بأن زوجها رجل الأعمال ، يملك
مركزاً طبياً ، كل العاملات فيه من النساء . قالت لوالدتها مرّة ، على مسمع جمع
من نساء ، كن مجتمعات عندها .. في إحدى المناسبات ، أن آخـــــر شيء كانت
تــــتوقعه ، هــــو أن ( تفرط ) أم أحمد بأخلاق ابنتها عائشة ، وتسمح لها
بدخول كلية الطب . كاد كلام المرأة يصيبها بيأس . هل هذا رأيها ، أم موقف سببه
الغيرة . لأنها قبلت في كلية الطب ، ولم تقبل ابنتها . كانت تتوقع .. بحكم نشاط
زوجها التجاري .. الذي له علاقة بطبيعة دراسة الطب ، أن تكون أكثر إدراكاً من
غيرها ، لحاجة المرأة ، لامرأة مثلها ، تتولى علاجها . " قليل من الناس من
يتخلى عن هواه وحظ نفسه ، ويتجرد لذات المبدأ " .. همست لنفسها .
نجاح عائشة المميز ، في عاميها الأوّلين في الكلية ، رغم الصعوبات ، وتحقيقها
نتائج ممتازة في سنتها الـثالثة .. عزز من موقفها ، وزاد ثقتها بنفسها . صارت
الكلية ، خياراً لا رجعة عنه ، وحملات التثبيط ، وموجات الإحباط .. أصبحت
تاريخاً ، تتأمله بكثير من السخرية . ليس هذا فحسب ، بل غدت جزءاً مهماً ، من
نشاط تجمع طالبي ، يقوده عدد من الطالبات ، يسعى لدعم استقلالية المرأة ، ضد
سياسات تهدف لاستغلالها ، وتوظيفها في ( أجندات ) خاصة .. كما ذكرت مرّة ، في
نقاش لها مع والدها .
لم تعد الكلية ، يوم دراسي طويل .. ممل ومضنٍ . على مائدة الأكل .. في نهاية
الأسبوع ، صار مألوفاً ، أن تتوقف عائشة عن تناول طعامها ، وترد على اتصال
هاتفي من زميلة ، وتكرر عبارات من نوع : نكافح ، نناضل ، ننتزع حقوقنا . لم
تفهم والدتها ، ماذا تعني بالضبط ، حين سمعتها ذات مرّة تقول ، في واحد من
حواراتها على الهاتف ، مع صديقة لها من الكلية : " أرأيت كيف بدا زميلنا التافه
اليوم ، حينما تصرفنا معه بأسلوب ، أدرك من خلاله أن المرأة .. وطالبة الطب
خصوصاً ، ليست ( لحماً معروضاً ) .. يتذوقه بعينه أو بكلامه ..! " . كلامها كان
مثيراً للاستفهام .. فاستفسرت منها . أخبرتها ، أن زميلاً لهن " استخف دمه " ،
على حد تعبيرها .. فأوقفناه عند حدّه . كانت واثقة أن ابنتها تسير في الطريق
الصحيح . همست في سرها : " أنا فرّطت بأخلاق بنتي ..؟ يا حبي لك والله .. يا
عيوش " .
اليوم شهدت الكلية موقفاً غير مألوف . عائشة وبعض زميلات دفعتها ، رفضن الكشف
السريري على مرضى ذكور . كان الكشف يتطلب التعرض المباشر لبعض الأعضاء الحساسة
. أستاذ المادة ، استهجن تصرفهن ، ونعتهن بأوصاف ، تعبّر عن تشدد وضيق أفق ..
وعدم ( تقدير ) العلم . بعد أن هدّدهن بحرمانهن ، من دخول امتحان المادة ،
وتطبيق ( النظام ) عليهن ، على حد قوله .. قال :
- الكلية ليست حكومة طالبان .. ونحن ندرس طب ، وليس نواقض الوضوء ..!
عبارته الاستفزازية ، لم تدفعهن لأي ردة فعل ، وتعاملن معها بصمت ، ولا مبالاة
.
لكنه .. عاد وأكد بشكل قاطع ، أنه جاد في تطبيق النظام ، ومعاقبة أي طالبة لا
تنفذ ما هو مطلوب منها . التهديد أثر في بعض الطالبات ، فتراجعن عن رفضهن
الامتثال لطلبه . عائشة وعدد من زميلاتها بقين على موقفهن :
- دكتور .. نرجو أن تتفهم موقفنا ، ووجهة نظرنا . هذا الجزء من الدرس ، سنكتفي
بالجانب النظري منه ..!
- كـــلامي واضح .. ونهائي . لن تجتاز طالبة المادة ، إلا بأداء القسم العملي
منها ..
ردّت عائشة بثقة :
- أعتقد أن في الجامعة نظاماً للامتحان ، يحدد الكيفية ، التي تجتاز فيها
الطالبة المادة ..
- من أنت ..؟
- عائشة الصالح ..
حــدق بها ، بنظرة حادة ، وقال بلهجة لا تخلو من غضب ، وعبارة ملأها مقتاً
وإزدراء :
- آه .. عرفتك ، أنت التي يسمونك الزملاء " الملا عمر " ..!
لم تمر الحـــادثة بهدوء . أصبحت حديث مجتمع الجامعة ، وتداولتها بعض البيوت .
بعد أيام وصلت القصة .. وإسم عائشة ، إلى زميل قديم لوالدها .. جار لهم . صلى
معه العصر ، وبعد الصلاة همس له :
- لعله بلغك خبر الذي حصل في كلية الطب ..!
- نعم .. ابنتي حدثتنا ، بما صار ، بين بعض الطالبات والدكتور .. وقد ذكرت أنها
وزميلاتها ، قدمن شكوى لعميد الكلية ضد الدكتور ، الذي هددهن بالحرمان ..
- لا .. يا أبا أحمد .. الأمر ليس بهذه البساطة . الطالبات اتهمن الدكتور
بالخروج على تعاليم الإسلام ، وقلن إن نظام الكلية كافر . نصيحتي لك أن تنتبه
لابنتك .
عاد أبو أحمد إلى البيت ، وروى لعائشة وأمها ، الذي دار بينه وبين صاحبه . كان
واضحاً أنّ ثمة هم ، بدأ يتسلل إلى قلبه ، ولم تفلح التلقائية التي حاول أن
يتصنعها في حديثه ، في إخفاء ذلك . عائشة أرادت أن تهوّن الأمر ، ولم تخف
سخريتها من الشائعات ، التي ضخمت الحادثة ، فأوصلتها إلى هذا الحد . الطبيعة
القلقة لوالدتها ، جعلتها تنظر للموضوع من زاوية مختلفة :
- أنا قلبي يوجعني يا عائشة ، الموضوع يكبر ، والناس ما لهم إلا الظاهر . المثل
يقول : " ابعد عن الشر وغني له " ..!
صمت الأب ، فيما بقيت عائشة ، تجادل عن موقفها . أكدت أن الأمر لم يتعد النقـاش
الذي روته بتفاصيله ، بين الدكتور والطالبات .. وأن أي شيء خلاف ذلك ، هو من
الإشاعات والأراجيف ، التي يروجها بعض الناس . أرادت أن تضع تفــــسيراً علمياً
لتضخم الشائعة ، فعزت ذلك إلى طبائع بعض الأشخاص النفسية ، الذين يعيدون
صــــياغة الأحداث ، بما يتفق مع رؤاهم ، ويوافق طــــبائعهم . ذكّرت والدها
بما كان يقوله عن صاحبه هذا ، وأنه ميّال لتبني الرأي ، الذي يبرر سلوكه
الانسحابي ، الذي يقوم على تضخيم المواقف ، بدافع الخوف ، لتبرير التنصل منها :
- ألم تقل يا أبـــــي أن صاحبك هذا جبان ، وأنكم أيـــام الدراسة ، كــــنتم
تسمونه ( الدجاجة ) .. لشدة خوفه ..؟
أخذت تشرح كيف أن طبيعة الرجل ، تفسر سلوكه . فالقصة وصلته مع بعض الإضافات .
بيّنت .. أن كونه يعرفهم ، دفعه لأن يصنع له دوراً في الحدث ، يتناسب مع طبيعة
شخصيته .. الجبانة ، التي لا تستطيع أن ترى نفسها في موقف ( ضد ) أي مؤسسة
رسمية . في نظره .. كلية الطب مؤسسة حكومية ، والحكومة ( دائماً ) على حق ..
ولا يمكن أن يصدر منها ما يخـــالف الدين ، أو يصادم الأعراف والتقاليد . أضافت
.. أنه ثمة أمرٌ آخر . كل التجاذبات والصراعات ، التي يمر بها البلد ، تدور حول
العلاقة بين التكفير والإرهاب . أفـــضل ( سلاح ) يمكن استخدامه الآن ، لإدانة
الرأي الآخر .. المعترض على بعض السياسات الرسمية ، هو دمغه بالتشدد والتكفير ،
ثم إدانته بالإرهاب :
- هذا كل ما في الأمر يا أبي .. ويا أمي ، وستسمعون كلاماً أكثر غرابة وشذوذاً
من هذا .. من نوع أننا قلنا : يا ليت طالبان تحكمنا .. مثلاً ..! هل تصدقون ..؟
أنا لم أقل لكم هذا الجزء ، مما دار بيننا وبين الدكتور . لقد وصفني الدكتور
بــ ( الملا عمر ) ..! ماذا يحصل لو أني قلت للدكتور : أنت مثل نوال السعداوي ،
أو شبهته بأحد العلمانيين المتطرفين ..؟
بدا التفسير مقنعاً ومنطقياً لوالد عائشة ، ولكن والدتها ظلت قلقة . انصبت
نصائحها لعائشة ، بوجوب إيثار السلامة ، والإهتمام بدراستها فقط :
- يا بنيّتي .. خليك في دراستك ، " لست وكيلة آدم على ذريته " . فيه خراب وفساد
في البــــلد ، كــــل الناس تعرف ذلك ..! لكن .. " الموت مع الجماعة رحمة "
..!
لم ترق لها اللـــــغة الانهزامية لوالدتها .. لكنها ظلت صامتة ، بانتظار تعليق
والدها . كان والدها يتأملها بنظرة عميقة ، حملت كثيراً من المعاني .. ليس من
بينها الخوف عليها ، أو وضع حدود لحرية تصرفها ، وسلوكها داخل الكلية . كانت
متأكدة من ذلك . في اللحظة التي أراد بها أن يتكلم ، استجابة لرجاءات تتلاحق من
عينيها ، دخل شقيقها أحمد ، يحمل رزمة من ا لأوراق :
- السلام عليكم .. كأن عندكم اجتماع خاص .. لا تكون عائشة مخطوبة ..؟
قالها وهو يبتسم ، ويقلب الأوراق بين يديه . ثم أضاف ، وقد تأهب للجلوس .. وهو
يؤشر بالأوراق التي بيده :
- من قدّها ..! موقفها هي وزميــــلاتها في الكلية ، أصبح حديث منتديات
الانترنت .. أكيد سيكثرون خطابها ..!
لم تبتسم عائشة كعادتها ، على دعابات أحمد ، خاصة المتعلقة منها بالزواج .
التقطت الأوراق من على الطاولة ، حيث وضعها أحمد ، وصارت تستعرضها . والدة أحمد
، أخذت زمام الحديث .. وقالت :
- قصة عائشة وزميلاتها ، وصلت الإنترنت .. هذا الذي كان ينقصنا ..!
- ليه يا أمي ..؟ لو أنا مكانك ، أفتخر بعائشة . الشباب في الانترنت اعتبروا
موقف البنات مشرف ، وأفيدك .. فيه أخبار من داخل الجامعة ، تؤكد أن مدير
الجامعة ، اعتبر الذي قامت به عائشة وزميلاتها ، حق لهن .
- أكيد يا حبيبي .. أنت لم تصلك الأخبار الثانية . الناس يقولون ، إن البنات
يكفرون دكاترة الكلية ، ومنهج التدريس فيها .
- كلام فاضي يا أمي .
عائشة كانت تستعرض الأوراق ، وتفتح عينيها دهشة . صدمتها العناوين المبالغ فيها
، التي تتصدر المقالات . صارت تردد : " ما هذا .. ما هذا ..؟ " . أبوها الذي
لاحظ انزعاجها .. سأل :
- ما الأمر يا عائشة ..؟
- اسمع يا أبي ماذا كتبوا في الانترنت : " حفيدات حفصة وعائشة والخنساء ،
يتحدين العلمانية في عقر دارها " ، " دكتور ليبرالي في كلية الطب ، يستهزئ
بحجاب المرأة المسلمة " ، " دكتور الطب العلماني ، يطلب من بنات المسلمين العبث
بأعضاء الرجال التناسلية " ، " كلية الطب أصبحت وكراً للــــرذيلة " ، " أين
الغيورون مما يحدث لبناتهم من انحلال ، باسم الطب ؟ " .
وجهها امتلأ أسفاً وأسى وغيظاً ، وهي تستعرض الأوراق ، وتقرأ مقاطع مما جاء
فيها . والدها لم يكن متأكداً من حقيقة موقفها .. مما تقرأ ، هل هي مع .. أو ضد
..؟ ظـــل نظره معلقاً بها ، بانتظار أن تفصح عن حقيقة شعورها . أخوها أحمد ،
كان مزهواً . فسر تعليقاتها القصيرة على الموضوعات ، وتعابير وجهها ، بأنـــها
فرحة طاغية ، وشعور غامر بالسعادة ، بالحصول على مثل هذا التأييد الكبير . رمت
الأوراق على الطــاولة .. وقالت :
- هذا الكلام غير صحيح ، وغير منطقي .. ! أي علمانية ، وأي رذيلة ..؟
نظرت إلى والدها ، وعيناها قد احتقنتا بالدمع .. وأضافت :
- نحن بين تطرفين يا أبي .. دعاوى التكفير ، وتهم العلمانية والانحلال ..!
أحمد الذي فاجأه موقف عائشة ، التزم الصمت . تحسس جيبه ، وأخرج ورقة وأعاد
طيّها ، ثم أرجعها مرّة أخرى لجيبه . كان واضحاً من مظهرها ، أنها من جنس
الأوراق ، التي استعرضتها عائشة ، وقرأت مقاطع منها .. مطبوعات من منتديات
الإنترنت . اهتمامه الخاص بهذه الورقة ، أثار استغراب والده .. فسأله :
- ما هذه الورقة التي في جيبك يا أحمد ..؟
ارتبك ونظر إلى عائشة ، التي أدركت ما هي ، فغشيت وجهها حمرة الخجل . والده كرر
عليه السؤال .. فأجاب :
- صورة مقال ، مثل المقالات التي كانت عائشة تقرأ منها ..!
- لماذا أنت مهتم به .. بشكل خاص ..؟
تلعثم .. ونظر إلى عائشة مرّة ثانية :
- لا أبداً .. إنه لكاتب تحب عائشة أن تتابع ما يكتب ، وأنا أزودها بمقالاته .
تناول الأب المقال ، وشرع في قراءته . لم يكن مختلفاً عن تلك التي كانت عائشة
تقرأ منها ، إلا أن لغته أكثر حدة . حين انتهى من القراءة ، انتبه إلى أن
الكاتب اسمه ( شهاب الإسلام ) . نظر إلى عائشة .. وقال :
- ما الذي يشدك إلى كتاباته ..؟
ردّت وهي تتصنع عدم اهتمام :
- يتناول أحياناً ، مواضيع لها علاقة بالمرأة العاملة في القطاع الطبي ..
التفت إلى أحمد :
- هل تعرفه شخصياً يا أحمد ..؟
- هاه .. لا .. لا
أحمد كان قد أسرّ لعائشة .. في وقت مضى ، أن ( شهاب الاسلام ) ، هو ابن خالتهم
عبد السلام الياسر . كتابات شهاب الإسلام ، شدتها منذ البداية ، قبل أن تعرف
اسمه الحقيقي . في بداية دخولها الكلية ، كانت متحمسة لطرحه الجريء ، في مواضيع
لها علاقة بظروف عمل المرأة ، خاصة في القطاع الصحي . أسلوبه وافق هوى في نفسها
، في بداية دخولها الكلية .. يوم كانت في قمة حماسها . كانت تصور مقالاته ،
التي يزودها بها أحمد ، وتوزعها بين الطالبات في كليتها .
شيئاً فشيئاً ، اكتشفت أنها لم تتعلق بمقالاته فقط ، بل بشخصه . صارت تطلب من
أحمد ، بطريق غير مباشر ، أن يجمع لها معلومات أكثر عن شخصيته . تتذرع أحياناً
بحاجة الطالبات ، للاتصال المباشر به ، لإطْلاعه على خفايا ما يحدث في الكلية .
تقول لأحمد ، أنهن لا يمكن أن يتواصلن مع شخص ، حتى يعرفن شخصيته الحقيقية ،
ليثقن به . أحمد قام باتصالات كثيرة ، عن طريق البريد الالكتروني ، و (
الماسنجر ) ، مع أعضاء عديدين في المنتدى ، حتى استطاع معرفة الشخصية الحقيقية
لشهاب الإسلام . في إحدى المناسبات الاجتماعية ، واجهه بما وصل إليه من معلومات
عن شخصيته ، فأقر بذلك ، وطلب منه أن يكتم الأمر .
عندما التحقت عائشة بالجامعة ، كان ( شهاب الإسلام ) ، طالباً في السنة الثانية
في كلية التربية . لم تعرف حقيقة شخصيته ، إلا حينما صارت هي في السنة الثالثة
، في كلية الطب ، وهو كان قد تخرج وقتها من الجامعة ، وقلت مشاركاته في منتديات
الانترنت ، وإن لم يفتر حماسه . ظلت لغته ، وأسلوبه في الكتابة ، بنفس القوة
والحدة . تجربتها في الكلية ، حيث احتكت أكثر ، وتفاعلت على مستويات متفاوته ،
مع أفراد مختلفين ، من أساتذة وزميلات .. إضافة إلى كونها صارت أكبر ، وأكثر
نضجاً ، جعــلها أقل قابلية لهذا النوع من الطرح ، وأقل انجذاباً ، لِلَغة بهذا
المستوى من الحدة . لكنها .. في أعماقها ، ظلت تشعر بانجذاب إليه .
بعد أن عرفت شخصيته ، تشجعت وأرسلت له رسالة بريد إلكترونية . ذكرت في الرسالة
أنها تعرفه ، وعرفته بنفسها ، وشكرته على مواقفه ، وطرحه الجريء . بررت إرسال
الرسالة إليه ، بأنها افتقدت حضوره في الانترنت ، وأن مشاركاته قلت بشكل
ملــــحوظ . رد عليها برسالة ، شكرها فيها ، وذكر أن قلة مشاركته في
الانـــترنت ، تعود لتخرجه من الجامعة ، وانشغاله بالبحث عن وظيفة . ختم
الرسالة ، بالدعاء لها بالتوفيق في دراستها ، وحياتها المستقبلية .
لغة الرد في رسالته كانت باردة . لم يكن بها احتفاء ، أو حماس ، أو تشجيع من أي
نوع .. فضلاً عن أنها لم تشتمل على أي مفردة حميمة . قلق صار يساورها ، وتكدر
خاطرها .. لكنها عزت ذلك لطبيعته الجادة ، أو ربما أنه يرى أن التزامه الديني ،
يمنعه من أن يستخدم لغة غير رسمية ، وكلمات مجاملة ، مع امرأة ليست من محارمه .
وقفت عند عبارته ، التي تمنى لها فيها التوفيق في حياتها المستقبلية . هي الآن
في آخر سنتها الرابعة في الكلية ، وبقي على تخرجها سنتان . هل هــــذا هو (
المستقبل ) ، الذي تمنى لها التوفيق فيه ..؟ حين أعادت قراءة الرسالة ، وجدت
أنه قد أشار إلى دراستها ، وتمنى لها التوفيق فيها أيضاً .. إلى جانب ( حياتها
) ، المستقبلية .
طــــــافت في ذهنها خــواطر سيئة ، وقلبت أفكاراً سلبية : هل كانت حساباتها
خاطئة .. أكانت سنوات من الوهم ..؟ ليس أقسى ، وأكثر فجيعة ، من أن تراهن على
وهــم . تمــــضي سنوات عمرك .. تراه إلى جانبك ، بناءً عالياً ، صنعته من شوق
، وحب .. وتحسبه مشروع حياة ، ثم تفيق ذات صباح ، فلا ترى إلا سراباً ، وتتلمس
.. وليس ثمة شيء . أمس رفــــضت العريس الثامن ، الذي يتقدم لخطبتها . أغلبهم
زملاء في الكلية ، من دفعات سابقة ، تخرجوا أو على وشــك التخرج . متفوقون
ويغلب على سلوكهم المحافظة والانضباط الشديد .
علامة الاستفهام كبرت : هل فرّطت بمستقبلها ( الحقيقي ) ، متعلقة بسراب ..؟
تتابع على خاطرها ، أسماء الشباب الذين تقدموا لخطبتها .. ورفضتهم . أكثرهم
تدور أحاديث الطالبات الخاصة حولهم . لا تتذكر أن واحدة من الطالبات ، التي
كانت توزع عليهن نسخاً من مقالات ( شهاب الإسلام ) ، تحدثت عنه بإعجاب ، ولو
بطريقة عابرة .. رغم أن بعضهن يتبنين آراءً ، أكثر تطرفاً مما يطرح . تساءلت في
سرها بمرارة : " كيف ربطت مستقبلها ، وعلقت قلبها ، بمعرف مجهول في الانترنت "
..؟ كيف لو عرفت زميلاتها ، أنها رفضت مستقبلاً لها ، مع خالد ، ومحمد ، وناصر
، وفهد ، وعبد الكريم .. من أجل شهاب الإسلام ، الذي يتمنى لها ( التوفيق في
حياتها المستقبلية ) ..؟ لكن مع من ..؟ سؤال انغرز في قلبها ، مثل مخيط غار في
كرة صوف . تعوذت من الشيطان ، وهي تفتح إحدى الصفحات الداخلية لكراسة محاضراتها
، وتتأمل عبارة كتبتها ، قبل سنتين ، بأكثر من لون : " شهاب الإسلام .. أضأت
قلبي ..! " . إلى جانب العبارة في أسفل الصفحة ، ألصقت قصاصة مقال ، لشهاب
الإسلام عنوانه : عائشة الصالح .. قبس من نور يضيء دهاليز كلية الطب " .
مستقبلها الذي جعلت شهاب الإسلام أهم أركانه ، تشكل من حلمها .. بإنسان يؤمن
برسالتها وليس بــ ( صورتها ) . نظرت إلى إقبال الزملاء ، على طلب الزواج بها
.. أنه رغبة في جمالها ، وليس إيماناً برسالتها ، وتقديراً لدورها . في الكلية
نفرت من زملائها ، الذين يتهافتون كالفراش ، على الجميلات . زميلاتها ممن لم
يتوفر لهن حد أدنى من الجمال ، لم تشفع لهن جديتهن ومحافظتهن . التناقض بين
المبادئ والأفعال ، بــــــــدا صارخاً ، وهي ترى فتيات يذبلن بين قاعات الكلية
، وممرات المستشفى .. لأن حظهن من الجمال قليل . بينما .. الرجال ، أصحاب
الشعارات ، عندما لا يتوفر الجمال يبحثون عنه خارج الكلية ، لدى من هُنّ أكثر
جاذبية .. بدعوى ( النقاء ) . تصبح الطالبة أو الطبيبة ، أقل نقاء وطهرانية ،
إذا كانت أقل جــــــمالاً . هذا هو المبدأ ، الذي تتندر عليه ، هي وزميلاتها
.. مقابل الهمس ، الذي يعلو أحياناً ، بين ( الذكور ) ، عن تبسّط طالبات الطب
والطبيبات ، في علاقاتهن مع زملائهن الرجال .
هي الآن تخطو خطوتها الأخيرة ، نحو نهاية مشوارها . ست سنوات مرت ، هي المسافة
بين حلم طفلة التاسعة ، ومشروع امرأة الرابعة والعشرين . إحساسها بالاخــتلاف ،
أصبح أعلى وتيرة ، وأسرع إيقاعاً . ليس فقط نظرة أهل بيتها وأقاربها ، الذين
تعودت عليهم منذ سنوات ، ينادونها بالدكتورة . لقد تغيرت صفتها الأكاديمية كذلك
. لم تعد طالبة ، بل صارت تسمى Residence ، أو طبيب مقيم . أصـبحت تدخل غرف
العمليات .. لتشارك في رفع الألم ، وتخفيف المعاناة عن الناس . منظر الناس
يسلمون أرواحهم .. طواعية لآخرين ، ويأتمنونهم على أجسادهم ، لم تكن عملية سهلة
. استشعرت المسؤولية ، إلى درجة أنها في بعض المرّات ، تتردد في اتخاذ الخطوة
الأولى ، لخوض تجربة معادة ومكررة ، ضمن روتين عملها اليومي .
لم يكن ترددها في دخول غرفة العمليات .. الذي تفـــكر فيه ، ولا تعلنه ، نتيجة
خوف ، أو رهاب من أي نوع . ثمة صراع يتنامى داخلها . فهي .. إزاء ما تراه من
تقصير وتجاوزات ، تحدث في غرف العمليات .. تجاه المرضى ، طورت لنفسها معادلة
صارمة : " يسلمك روحه .. تحافظ عليها ، يأتمنك على جسده .. لا تخونه " .
معادلتها الصارمة ، التي لم تتهاون في تطبيقها ، كثيراً ما أدخلتها في جدالات
حادة ، مع أساتذة وزملاء . اعترضت مرّة ، على وجـــود زميل بملابسه العادية في
غرفة العمليات ، لأنه كما يقول ، وصل متأخراً ، ولم يجد الوقت لتبديل ملابسه .
أصرت أن يبدل ملابسه ، أو أن العملية لن تبدأ ، كما هددت بالتصعيد .
في مرّة ثانية كانت المشكلة مع زميلة . جاءت إلى غرفة العمليات ، كما لو كانت
تدخل قاعة أفراح .. كما تقول . المكياج طبقات ، والعطور أنواع . أبدت استياءها
في البداية ، ولكن .. حينما بدأ المكياج يسيح ويختلط بأحمر الشفاه .. قررت أن
تتوقف ، وتوقف كل شيء . لم يكن الوضع يسمح بأي نوع من أنصاف الحلول . تم
استبدال الزميلة بأخرى ، لكن القصة خرجت من غرفة العمليات .. ووصلت العميد . لم
تحصل محاسبة ، ولا لفت نظر . لكن أصداؤها وتداعياتها ، ظلت تتردد داخل الكلية ،
عبر التعليقات الساخرة ، التي يتداولها الطلاب والأطباء : غرفة العمليات صار
يطلق عليها ( قاعة الديسكو ) ، أما العملية نفسها ، فأصــــــبح اسمها .. بين
الطلاب والطالبات ، ( حفلة الدي جي ) .
مسألة الانضباط المهني ، في غرفة العمليات ، تبدو يسيرة ، أمام موقفها الحاد
والقطعي ، تجاه حماية خصوصية المرضى . حين يأتي دورها في الجدول ، لتكون ضمن
الطاقم الطبي داخل غرفة العمليات ، تحدث حالة استنفار قصوى بين جهاز التمريض ،
الذي سيتولى تجهيز المريض . التعليمات تنفذ بدقة ، بخصوص الأجزاء التي يمكن
كشفها من جسم المريض ، الذي ستجرى له العملية . عندما يكون المريض أنثى ، تتابع
شخصياً إجراءات تجهيزها لغرفة العمليات . في البداية واجهت إهمالاً ، أو
تجاهلاً ، أو رفضاً من الأطباء .. بـــشأن طلباتها بهذا الخصوص . لكنها ..
متسلحة بموقف شرعي وأخلاقي ، قاومت كل الضغوط ، وأساليب الإهمال والتجاهل . لم
تكن تتردد في التعبير عن اعتراضها ورفضها ، لأي سلوك ترى فيه انتهاكاً لخصوصية
مريض ، تحت أي تبرير . كثيرٌ من الألقاب والصفات ألصقت بها ، ويتم تداولها
همساً ، بين بعض الأطباء مثل : ( حارسة العورات ) . تتصنع اللامبالاة أحياناً ،
وتتظاهر بالقوة . لكن .. حين تخلو بنفسها ، يعتريها الضعف البــــــــشري ..
فتــــــــــبكي . تحدث نفــــــسها : " الجميع يـــؤثر الســـــلامة " ، حتى (
الطيبون ) . في إشارة منها للأطباء المتدينين .
كان قد بقي أمامها أسابيع لتتخرج وتصبح طبيبة عامة . لكن .. كأن قدرها يأبى إلا
أن تنهي مسيرة حياتها الأكاديمية ، بحدث غير اعتيادي ، يضاف إلى سجلها الحافل
بالمواجهات والمصادمات والمواقف المدوية . كان يوم اثنين ، خرجت من البيت صائمة
، جدولها اليوم مزدحم . أوصلها السائق إلى المستشفى ، متأخرة خمس دقائق . صعدت
إلى القسم ، وأنهت تحرير بعض الأوراق . كانت هناك جولة على بعض المرضى ، حرصت
أن تنهيها قبل التاسعة ، حيث أن موعد عملية ، ستكون ضمن طاقمها .. سوف يكون
السـاعة التاسعة وعشرون دقيقة . لم تنس أن تتصل بجهاز التمريض ، لتؤكد على
تجهيز المريض . صار لها عادة أن تصلي ركعتين ، قبل كل عملية تدخلها .. فاتجهت
إلى مكتبها وَصلّت . وصلت غرفة العمليات في التاسعة وخمس دقائق . مريضة اليوم
شابة في بداية عشريناتها ، تشتكي من فتق مزمن أسفل البطن . كانت المريضة قد
وصلت ، فاتجهت إليها وطمأنتها ، وهدّأت من قلقها . بعد عشر دقائق ، اكتمل وصول
الطاقم الطبي .
بدأت العملية ، ومرّت النصف ساعة الأولى بشكل اعتيادي . انتبهت بعد ذلك ، أن
الطبيب ومساعده ، يتبادلان إشارات بالأعين . لم تفهم طبيعة هذه الإشارات ، ولم
تجد لها تفسيراً .. إلا حين لاحظت أنهما يتعمدان إزاحة الغطاء عن بعض أجزاء جسد
المريضة ، بطريقة تبدو عفوية . توترت .. لم يكن بمقدورها أن تفعل شيئاً ، سوى
ملاحقتهما ، وتغطية الأجزاء التي تتعرض للكشف . انتهت العملية ، لكنها شعرت
بإحباط شديد . مبدؤها : " يأتمنك على جسده .. ولا تخونه " . ، صار يلح عليها
بأن تفعل شيئاً . في طريقها لغرفة تغيير الملابس ، قلبت الأمور ، فرأت أنه ليس
لديها الكثير لتفعله . سلوكهما بدا عفوياً وتلقائياً ، ولا يمكن إدانتهما بأي
شكل من الأشكال . أي تصعيد ، سيكون بالضرورة ضدها .
عندما انتهت من تبديل ملابسها ، غسلت وجهها واسترخت على أحد المقاعد . التوتر
مع الصيام أرهقها ، والحدث زادها مرارة . مرت ربع ساعة ، شعرت أنها أكثر هدوءاً
. نهضت وتوجهت خارجة من غرفة العمليات ، ثم خطر لها أن تمر على المريضة في غرفة
الإفاقة ، لتطمئن عليها . حين أزاحت الستارة ، فوجئت بمنظر صدمها . المريضة ما
زالت في غيبوبتها ، عارية تماماً .. الغطاء مرفوع عنها ، والطبيب ومساعده
يتأملانها . صرخت :
- حسبي الله عليكم ..! هذا والله خيانة وإجرام ..
فوجئا بوجودها فارتبكا ، وحاولا استيعاب المفاجأة ، بالتظاهر بأنهما يقومان
بإجراء روتيني ، لمتابعة حالة المريضة ، وذلك بالتهامس والإشارة لموضع العملية
، ثم إعادة تغطية المريضة . لم تنجح محاولتهما في تهدئتها ، أو الحد من
انفعالها ، رغم أن الطبيب حاول الاستخفاف بها ، والظهور بمظهر الواثق من نفسه
.. حين قال :
- روحي لبيتكم يا شاطرة .. أحسن لك .
استمرت في توجيه عبارات التوبيخ والتوعد بتصعيد الموضوع .. والتهديد بمقاضاتهما
. صوتها المرتفع ، جعل بعض الأطباء والعاملين ، يتوجه لمصدر الصوت ، لتقصّي
الأمر . حرج الطبيب ومساعده ، ازداد مع تكاثر الأشخاص ، الذين دفعهم الفضول
للقدوم ، لمعرفة ما يجري . كانت تتكلم عن " خسة ونذالة .. وخيانة للأمانة
وشـــرف المهنة " ، دون أن يدري الموجـــــودون ، ما الذي حـــدث بالضبط . بعض
الحضور ، ظن أنها قد تعرضت للتحرش .. إلى أن قالت :
- لقد مسكت سعـــــادة الدكتور بسام ومساعده متلبسين ، بجريمة كشف عورة مريضة .
إن الأمر لا يقف عند الاعتداء على شرف الناس ، وهذه بحد ذاتها جريمة ، بل كذلك
.. خيانة للعهد والميثاق وشرف المهنة .
رد الدكتور :
- أنتم تعرفون الأخت .. مريضة بالوسواس ..
- المريض يا دكتور ، هو الذي لم يردعه دين ، ولا سن ، ولا شرف مهنة ، عن كشف
عورات المرضى النائمين .
- ما قلت لكم ..؟ الأخت مهووسة بشيء يتداوله المتطرفون في الانترنت ، اسمه
العورات النائمة .. وهناك من يحرضها من متطرفي وإرهابيي الانترنت .
ثم أراد أن يحول الأمر إلى سخرية منها ، وتكريساً لاتهامه لها بالوسواس ،
وصلتها بمن يسميهم متطرفي الانترنت .. فقال :
- الأخت تحب القيادة والزعامة والأضواء .. ما يكفيها أنها اشتهرت في الكلية
باسم ( الملا عمر ) ، بسبب سلوكها المتطرف ، البعيد عن المهنية . لذلك .. أقترح
.. لإرضاء هوسها ، نسميها زعيمة ( حزب العورات النائمة ) .
ثم اصطنع ابتسامة ، وصار يتلفت نحو الموجودين ، لينال تأييدهم ، ومشاركتهم
السخرية منها .. لكنها ردت :
- الدفاع عن عورات المسلمين النائمة ، ضد لصوص الأعراض مثلك ، يا سعادة الدكتور
.. شرف . من هو المسكون بفوبيا الجنس .. أيها التنويري ، من نوع تلك الشعارات
الفارغة التي دائماً ترددها .. لتسويغ الانحراف ..؟ والله العظيم لن يمر الحادث
بسهولة ، وإن لم تتخذ الكلية إجراءاً .. إني لأصعد الأمر لوسائل الإعلام .
لم يتخذ إجــراء من أي نوع ، ولم تجرِ حتى مساءلة .. وحرصت عمادة الكلية ،
وإدارة المستشفى ، على احتواء الموضوع ، والتكتم عليه .. حفاظاً على سمعة
الكلية والمستشفى . كـــــــــثير من حقوق الناس تهدر ، لتبدو صـــــــورة
المؤسسات الرســـــمية ( كاملة ) . يموت الناس ، أو يتعرضون للأذى .. بسبب
إهمال الأطباء ، أو تعدي الأفراد ، على الموقوفين في المراكز الأمنية .. ولا
يحاسب أحد ، لأن هذا يضر بسمعة الوزارة المعنية ، التي ترخص أمام ( نزاهتها )
المزعومة ، أرواح المواطنين . تساق قضية ( الخصوصية ) دائماً ، لتبرير عدم
مساءلة أي مسؤول ، أو محاكمته علناً على تقصيره . أطرف تعليق على هذا الوضع
الشاذ ، ما سمعته مرّة من إحدى صديقاتها : " في العالم .. غيرنا ، حين يعيث
المسؤول فساداً ، في حياة الناس وأموالهم .. يستقيل أو يحاكم ، أما عندنا ..
فلا هذا ولا ذاك ، لأن لنا ، كما يقولون ( خصوصيتنا ) ، وقاعدتها الذهبية : "
صورة الحكومة أولاً ، وسمعة المسؤول ثانياً .. وليذهب المواطن إلى الجحيم " .
عائشة .. على أساس من قناعات وتجارب سابقة ، كانت تتوقع موقفاً مثل هذا ، لكنها
.. نجحت في تسريب الموضوع إلى الصحافة .. إلى الأستاذ سعد ، كاتب عــــمود صحفي
مشهور ، فدارت سجالات حول القضية ، تؤكد على وجوب حماية خصوصية المرضى ،
واستحداث نــــظام للملابس ، داخل غرف العمليات .. يحميهم من العبث والتجاوزات
.
الميدان الآخر للحدث ، كان أحاديث أفراد المجتمع ، ومنتديات الانترنت . ظل
النقاش حاداً وساخناً ، لأكثر من شهر .. مما خلق رأياً عاماً ، يطالب بوضع
قوانين تحمي المرضى ، وتعاقب من ينتهك حرماتهم . الحادثة نفسها وتداعياتها ،
أشاعت حالاً من الحذر والخوف ، لدى أفراد يقعون في انتهاكات لخصوصيات المرضى ،
أو تقصير في حقهم . هناك حديث مرتفع ، عن تحرشات يقوم بها بعض العاملين الذكور
في المستشفيات . يتردد أن هناك عبثاً واستغلالاً جنسياً ، لبعض المريضات ، من
قبل أشخاص ، يعملون في قطاعات فنية مساندة في المستشفيات ، يزعمون أنهم يتلقون
توجيهات من أطباء ، مستغلين جهل المرضى وذويهم .
بعد الفضيحة .. التي صارت حديث الناس ، صار هناك توجس . لا أحد يرغب أن يضع
نفسه ، في موقف مثل الذي حصل للدكتور ومساعده . الأمر في بعض مراحله ، كاد أن
يكون أكثر خطورة ، لولا تدخل بعض الأشخاص ، من داخل الكلية .. لدى عائشة . كانت
قد هددت ، إن لم يتخذ إجراء وعقوبات رادعة ، بأنها ستبلغ أولياء المريضة ،
بالفعل الذي ارتكبه الدكتور ومساعده .
صدمة عائشة ، لم تكن من الفعل فقط .. على بشاعته . بل من الطبيب نفسه . يقدم
الدكتور بسام نفسه ، ويعرّفه زملاؤه ، على أنه ليبرالي تنويري ، يناصر حرية
المرأة ، وحقها في العمل ، ويدافع عن الحريات عموماً . كثيراً ما وصف الدعوات
التي توجه إلى عمادة الكلية ، أو لوزارة الصحة ، بتنظيم عمل المرأة في القطاع
الصحي .. بما يوائم عادات المجتمع وتقاليده ، والحد من الاختلاط .. غير المبرر
، بين الجنسين ، بأنها ( فوبيا ) جنسية ، يروّج لها ( المتزمتون ) ، المسكونون
بميكانزم غريزي ، يجعلهم ينظرون للمرأة ، على أنها هدف جنسي متحرك . جاءت
الحادثة ، ليس فقط ، بمثابة الفضيحة للدكتور بسام ، ولتسقط صورة المثقف ، التي
صنعها لنفسه . بل كذلك .. لتكشف حــــقيقة موقفه من المرأة ، و( الأجندة ) التي
يقوم بتسويقها ، حول حقوق المرأة . كما أن وقوف بعض زملاء الدكتور إلى جانبه ،
ومساندتهم له .. على فداحة الفعل الذي ارتكبه ، جعلها تقطع أن دعاوى الحرية
والليبرالية ، التي يدعيها بعض الأشخاص ، ليست إلا شعاراً فارغاً ، لسلوك
شهواني . أمْرٌ كانت تدركه ، وتعرفه حق المعرفة ، لكنها كثيراً ما تدخل في
جدالات ونقاشات ، حول حقيقته ، وإمكانية إثباته . قالت للدكتور نايف ، وهو زميل
للدكتور بسام ، تبنى حـــملة للدفاع عنه :
- أفهم أن تنادوا بحق امرأة أن تتبرج ، لكن كيف تدافع عن زميلك الذي يعرّي
امرأة نائمة ، معتدياً على أهم حقوقها .. خصوصية جسدها ..؟ هل تريد أن تقنعني
أن المريضة النائمة ، كانت في حالة ( سلوك ظلامي ) ، وأن زميلك الدكتور بسام ،
كان يمارس ( فعلاً تنويرياً ) ويعبر عن سلوك ليبرالي ..؟!
الحدث صار حديث مجتمع الجامعة ، وربما انتقل خارجها ، لكن عين عائشة وقلبها ،
كانا في مكان آخر . ماذا كتب في الانترنت عن الموضوع .. وما الذي كتبه شهاب
الإسلام تحديداً ..؟ شقيقها أحمد ظل يزودها بكل ما دار في الانترنت حول الحادثة
وتداعياتها . مكثت هي أسابيع ، تتابع الإنترنت بنفسها ، وَتَطّلع على ما يحضره
أحمد لها . لم تجد شيئاً لشهاب الإسلام . نفد صبرها ، فسألت عنه أحمد ، الذي
كان يتوقع سؤالاً مثل هذا .. قال :
- تابعت كل ما كتب .. لم أجد شيئاً لشهاب الإسلام ، ولم يرد على البريد
الالكتروني ، الذي أرسلته إليه بهذا الخصوص .
أحمد كتم عن عائشة ، كلاماً سمعه عن شهاب الإسلام .. وهي ظلت تترقب . بعد أيام
، بعض زميلاتها اللائي يعرفن اهتمامها بما يكتب شهاب الإسلام ، سَرّبن لها
كلاماً منسوباً إليه ، في أحد مواقع الانترنت .. مفاده : " موقفها جيد ، لكن ما
الذي يجيز لها أن تبقى في غرفة العمليات ، مع رجال أجانب ، يتكشّفون عورات
المسلمين ..؟ ! " . سكتت ولم تعلق ، وحاولت أن تستبعد صدور هذا الكلام منه .
صار الموضوع هماً ، لم تطق الصبر عليه ، فصارحت أحمد بما نقل إليها . لم يشأ أن
يؤكد لها الموضوع ، الذي تواتر عنده من أكثر من مصدر . خشي أن يسبب لها صدمة .
قال :
- سمعتُ مثلك هذا الكلام .. لكني لست متأكداً من أنه فعْلاً قاله ..!
هزت رأسها ، وهي تنصرف لغرفتها .. وتغالب ، لتبدو تعابير وجهها طبيعية . لم يكن
ردّه مقنعاً .. ولم تعلق . لكنها .. شعرت بجرس يُقْرع في قلبها . للحزن ،
والرحيل ، والفقد .. طعم واحد ، وأصواتٌ متعددة . قَرَأَتْ مرّة .. أن الريح
تعوي في الأطلال الخربة . حين ضمت ساعديها إلى صدرها ، وتلمست أضلاعها ، تحسست
صوتاً ، كأنّ صخبه في أذنيها.. تساءلت : أهذا صوت عواء الريح في قلبي ..؟
على مشارف عامها السادس والعشرين .. تلتفت ، ثمة إنجازات كبيرة ، على أكثر من
صعيد . الذين حولها يقولون : ما زلت صغيرة .. المستقبل أمامك ، لديك الكثير
لتحقّقينه . اليوم .. حين أحست بذلك الدويّ في صدرها ، أدركت أن لا شيء في
قلبها تحقق ، منذ أول خاطر ، تسلل عبره شهاب الإسلام إليه : أطلال .. وريـــح
تعوي . نحن لا نقيس انــــــــجازاتنا .. فقط ، بما حققناه .. لندهش الآخرين ،
فيصفقوا لنا . للقلوب مساحة من زمن ، تزهر فيها .. قــصيرة ، إن لم يأتِ ربيعها
بــ( وسمي ) ، فليس إلا عطش الدهر .. وحزن الأبد . المستقبل بدا موحشاً وعدماً
، وحديث القلب : شُختِ .. ليس ثمة وقت لأحلام ..!
كانت جالسة على طرف سريرها . أرهقها الهم ، فلم تخلع حتى معطف المستشفى الأبيض
. الأفكار كانت قد أخذتها بعيداً ، حين دقت نغمة جوالها ، معلنة استلام رسالة .
سحبت الجوال من جيب معطفها ، ووضعته على منضدة الزينة . ترددت في فتح الرسالة .
سئمت من كثرة الرسائل ، التي وصلتها ، حول قضية الدكتور ومساعده ، إما
استفساراً عن الموضوع ، أو إشادة بموقفها .
حين بدلت ملابسها ، ألح عليها فضول غير عادي ، بأن تفتح الرسالة التي وصلتها
قبل قليل . التقطت الجــــــــوال واستلقت على سريرها ، فتحت الرسالة .. لم تكن
من النوع الذي اعتــــــادت استلامه مؤخراً : " لكم باقة ورد ، لــــــــدى محل
( الفصول الأربعة ) للورود . نرجو الاتصال ، لإعطاء مندوبنا وصفاً لعنوانكم .
رقم الطلب 5/5/24 " . اعتدلت في جلستها . غمامة فرح ، بدأت تتشكل على محياها .
قسماتها غدت أكثر إشراقاً ، وابتسامة صارت تنمو في ثغرها . شعور بالبهجة ، تحسه
يجتاحها ، ويكاد يرفعها عن الأرض .. كأنها على بساط ريح . همست لنفسها : " شيء
رائع ، أن يأتيك ورد بعد أن أصبحت المشاهد كلها .. بلون رمادي ، ولم يعد لإيقاع
الحياة طعم .. أو لون " . تحب الورد ، ولا تتفق مع الرأي الرافض له ، على أساس
من موقف ديني . ليس في تهادي الورد تقليداً لكافر . سمعت هذا الرأي من أكثر من
عالم موثوق . تحتفظ بذاكرتها بموقف جميل عن الورد ، ترويه إحدى زميلاتها .
تحدثت الزميلة عن زوجها الذي غاضبها مرة .. فندم . ثم اختلس .. في ذات الوقت ،
فرصة انشغالها ، بأمر ما ، وأشترى لها وردة ، أرفقها ببطاقة كتب فيها : " أفتقد
الذوق أحياناً " . كان للوردة ، والعبارة ، والموقف .. فعل السحر ، تقول
الزميلة .
الورد مظهر من مظاهر الجمال .. أو هو أبهى مظاهر الجمال .. و " الله جميل يحب
الجمال " . لكنها .. تكره المغالاة والتباهي ، في إهداء الورد ، مثل ذلك الذي
تراه يحدث في المستشفى .. بين النساء خصوصاً . تذكر أنها دخلت على إحدى
المريضات ، فوجدت حول سريرها ورداً ، قيمته لا تقل عن عشرة ألاف ريال . عرفت
السبب . كل صاحبة باقة ورد ، تبرز اسمها بشكل واضح على باقتها ، فتأتي أخرى
تزايد عليها ، فتهدي أغلى منها .. وتجعل اسمها بارزاً .. وهكذا ..! المريضة
لاحظت اندهاشها من العدد الكبير من باقات وآنية الورد .. فقالت مزهوة : " أنا
سعيدة .. الورد جميل " . فاجأها ردّها : " ألا ترين أنه يصبح قبيحاً ، عندما
يتحول إلى مباهاة وتبذير " .
اتصلت بمحل الورد ، وأعطتهم وصفاً لعنوان البيت . بانتظار وصول الهدية ، أخذت
تستعرض في ذهنها من قد يكون المرسل . اليوم الخميس ، لا تتذكر مناسبة توافق هذا
التاريخ . رجحت أن تكون إحدى صديقاتها .. في الكلية أو المستشفى ، أو ربما أحدٌ
من عائلتها ، مهتم بها ، وهي لا تعلم .. أو قد يكون شخصاً قدر موقفها ، في
موضوع عورات المرضى النائمين . وصل مندوب الفصول الأربعة ، واستلمت الباقة .
كانت جميلة جداً ، فتلهفت لمعرفة المرسل . التقطت البطاقة المرفقة ، التي كانت
كبيرة ، خلاف البطاقات ، التي ترفق عادة مع باقات الورود .. وشرعت تقرأ :
" سيدتي الجميلة ، أنت لا تعرفينني ، ولستِ بحاجة لأن تعرفينني . جئتُ مرّة ..
قبل عام إلى الطوارئ ، ومعي طفلتي المريضة ، وهي في حال يرثى لها ، من المرض
وعدم النظافة . كان اهتمامك بها ، ورعايتك لها ، ولمستك الحانية ، ومتابعتك
لحالتها ، شيء لا يفعله .. إلا إنسان يمارس فعله عن إيمان . ثم كان خطابك
المطَمْئِن ، اللطيف ، المؤدب لنا .. الــــذي غمرنا بشعور من الأمان والسكينة
.
أعتقد أن وجود مثلك ، ليس في هذه الأماكن فقط ، بل في حياة الناس ، ضرورة كونية
، لكي لا يختل ميزان القيم ، وليكون للحياة معنى .. كذلك .
لقد سألت عنك وقتها ، وأُخْبِرتُ باسمك ، وعلمت أنك طبيبة تحت التدريب ، ولم
تتخرجي . بقيت أسأل عن موعد تخرجك ، فعلمت أنه يوم السبت ، فأردت أن تكون لي
مشاركة بالفرحة ، بإنجاز إنسان رائع خَـلاّق مثلك .
حين أردت أن أشاركك فرحتك ، فكرت بروحك الجميلة ، التي لا يهمها ما يلمع وما
يبرق . أعلم أنه يستهويك ما يستهوي النساء ، لكن قيمتك لدي .. لا أستطيع أن أصل
إليها . ليس لأن حالتي المادية لا تسمح ، بل لأني أؤمن .. وأحلف بالله العظيم ،
أنك أسمى من جواهر الأرض كلها .
أؤمن بأن إنساناً ، بمثل أدبك ، وأخلاقك ، وجمال روحك .. لابد أن يكون هو نفسه
مصدراً للجمال ، ومُستَقْبِلاً للجمال . أؤمن أيضاً ، أن الورد ، من حيث هو ،
تعبير عن قيمة جمالية سامية ، ورمز لأسمى معاني التواصل الإنساني .. يمثل
مشتركاً ثقافياً إنسانياً . أما أعلى درجات إيماني ، فهي أن كينونتك ، أصدق
معنى للحضور الإنساني ، وحضورك الفاعل في حياتنا .. أبهى صورة للجمال ، لذلك
أهديتك ورداً ..
ســـــــــــــــــلامي ، ومودتـــــــــــــي .. ودعــــــــــــــــــــــائي
" .
محمد ..
كانت الدموع تترقرق من عينيها ، وهي توالي قراءة البطاقة .. تنتقل من كلمة
لأخرى ، لتعود لقراءة الجملة مرّة ثانية . لا تدري .. هل تفرح للورد ، أو للّغة
العذبة السامقة ، أم للّفتة الجميلة .. بالاحتفاء بتخرجها ، من إنسان غريب . هي
نفسها ، رغم أهمية المناسبة لها ، لم يرتقِ اهتمامها بها ، إلى هذا المستوى .
لا تدري هل هو بسبب خيبات القلب ، أو لأن الحدث ، بعد سنوات الدراسة الطويلة ،
صار تحصِيلُ حَاصِل . في الأشهر الأخيرة ، صارت تمر بحالات هبوط نفسي ، تحس
بها.. تؤزّمها ، وتغمسها في مستنقع يأس ، ثم تهوي بروحها إلى أعماق . لولا زحمة
العمل ، التي أصبحت تتعمد أن تغرق نفسها في بحرها .. لتهرب من واقعها ، لاختنقت
في جُبِّ أزمتها .
تتأمل الورد وتتلمسه ، ثم تعـــــــود تقرأ البطاقة . أحست بـروحها تصعد .
تغادر رويداً .. رويداً ، حضيض بؤس ، هوت في أعماقه ، وحين وصلت إلى الكلمة
الأخيرة ، شعرت كأنها على رأس قمة .. حولها فضاء مفتوح .. ومدى لا نهائي .
تنـــهدت بعــــمق : " كم هو مبهج ، وباعث على الأمل ، أن تمتد لك يد غريبة ..
لم تنتظرها ، لتنتشلك من قاع ، لم يدرك من حولك ، كم صار لك ، تتردّ!ى في قراره
" .
يتوغل الألم في داخـــلنا بقسوة ، حين يَنْفُضْ الذين نحبهم أيديهم منّا ،
وينفَضّون عنا .. يتركوننا ، نغوص في لجة أحزاننا . نواجه عناءنا ، بقلوب
أفرغها الفقد ، من أي رجاء .. ونزعت منها ، رياح الوحدة والوحشة .. كل الأشرعة
.
عابرون كثيرون في حياتنا .. بذات الجمال ، والثراء الروحي ، ويملكون فيضاً من
المشاعر والأحــــاسيس ، لا ندرجهم ضمن ( قائمتنا ) المهمة .. لأننا وضعنا لها
معايير ، لا علاقة لها بالقيم الخَلاّقة للفرد .. من حيث هو إنسان ، يمكن أن
يضيف لحياتنا الحقيقية شيئاً . كم من مثل صاحب الرسالة ، افتقدوا فقط .. آلية
التواصل معنا ، ليسكبوا مثل هذا الفيض في أرواحنا . لم يكن .. لأنهم
يحتاجــــون أن ( نحــسن ) إليهم ، لنستحثهم على فعل ذلك ، فتنثال مشاعرهم
نحونا . بل لأننا .. خلقنا ( حدوداً ) ، تحدد جغرافيتنا ، ووضعنا نقطة عبور
واحدة .. نحونا ، لأفراد منتخبين ، وفق معايير ، لا علاقة لها بما تحتاجه
أرواحنا ، ويحتاجه الإنسان فينا . نخسر كثيراً ، مشاعر دفاقة بهذا الحجم ..
نحتاجها ، من أناس بسطاء . لأن فرصتهم لكي يبــوحوا بها ، لا تَتَأتّى إلا مرّة
واحدة .. لحظة نشرع أبواب قلوبنا لهم .إن لم نفعل ذلـــــك في ساعة ( صفر ) ،
يفرضها قدر لقائنا بهم ، على ناصية لحظة من زمن حياتنا .. فلن يحــــدث ذلك
مطلقاً . سيبتلعهم إيقاع الحياة ، الذي يسرق أعـمارهم ، في ساعات لهــاث خلف
لقمة عيش .. فـــلا يعودوا ، وتخوننا معاييرنا ، التي لم تمنحهم الفرصة ..
فتقصيهم ونخسر .
وضعت الورد في مستطيل زجاجي ملأته بالماء ، بعد أن استلّت منه وردة جوري ،
وضعتها على وسادتها . ألصقت البطاقة بطريقة أنيقة ، في الزاوية العليا اليسرى
لمرآة منضدة الزينة . في هذه الأثناء قرع باب غرفتها .. كان صوت أمها تستأذن .
أسرعت وفتحت الباب ، وبهجة طافحة على وجهها .. بادرتها والدتها :
- منوّره .. أكيد هناك أخبار سارة . لم أرك من أمس يا عيوّ ... يا عائشة ،
اشتقت لك ..!
انتبهت أنها كانت ستناديها يا عيوش ، وهو الاسم الذي كانت تدللها به ، منذ كانت
صغيرة .. وإلى وقت قريب . قالت مُداعبة :
- لأنك لم تعودي تدلليني ..! حتى عيوش صرت تستكثرينه علي .
- لا والله .. لكـــــني أحس إنك صرت كبيرة ، وقلت يمكن أن يحرجك تصغيري لك ..
خاصة وأنه بقي يومين وتصيرين دكتورة ..
قالتها وهي تبتسم . ضمتها عائشة وهي تقول :
- ما فيه أحلى من عيوش على لسانك .
انتبهت لإناء الورد ، ولوردة الجوري على وسادتها فقالت :
- عندك هدية ثمينة من النوع الذي تحبينه ، خسارة .. فيه أحد سبقني في تكريمك
..!
لم تعلق .. لكن والدتها لاحظت البطاقة الملصقة بعناية على المرآة ، فاقتربت
وقرأت مقتطفات منها .. وتوقفت عند التوقيع ، الذي لم يعطها أي دلالة على صاحبه
. التفتت إليها ، وفي عينيها علامة استفهام . ابتسمت عائشة ، وعرفت ما يدور في
خلدها .. فقالت :
- هذه شهادة تخرجي الأولى ، وقعها ( إنسان ) لا أعرفه .. لكنه منحني وثيقة عبور
، لأكتشف كينونتي ، وقيمتي الحقيقية .. وأهداني ورداً . الجامعة .. يا أمي
ستقدم لي يوم السبت ، وثيقة تخرجي الرسمية ، بوصفي طبيبة مجازة ، وستمنحني ورقة
، تسميها مرتبة شرف ، سأضيفهما لمجموعة الأوراق التي كدستها في خزانتي . هذا هو
الفرق يا أمي .
ابتسمت ابتسامة خفيفة ، وهزت رأسها ، ثم ثَبّتت نظراتها على وردة الجوري ،
الملقاة على الوسادة البيضاء ، المطعمة بتشجيرات صغيرة من الأحمر والأخضر ..
تحاول أن تبحث عن علاقة ما ، بين مكانها على الوسادة ، وبين البطاقة المعلقة
على المرآة بأناقة . علقت عائشة :
- آه .. وردة الجوري ..! انتزعتها من الباقة ، ووضعتها على الوسادة . كنت أستعد
للنوم ، وأردت أن أحلم أحلاماً وردية .. مزيج من البياض الذي ملأتني به الرسالة
، ولون الوردة .
- الله يجعل أحلامك كلها وردية يا عيوش . غداؤك جاهز .. سأضعه في الثلاجة ،
وإذا قمت سخنيه .. يا عيوني .
خرجت وسحبت الباب خلفها بهدوء .. وفي الوقت الذي كان صوتها ، يتناهى إلى داخل
الغرفة ، طالبة من إخوانها الصغار عدم إزعاجها ، لتخلد إلى النوم ، كانت عائشة
تضع رأسها على الوسادة ، ووردة الجوري تتمدد أمام عينيها ، على طرف الوسادة
البيضاء المشجرة ، مثل حورية بحر ، استلقت بضجر ، على شاطيء رملي أبيض، تناثرت
فوقه الأصداف، وأعشاب البحر .. بانتظار ( فارس ) ، أخلف موعده .
يوم السبت كان استثنائياً لدى أم أحمد . ما أن خرجت عائشة في الصباح ، إلى
المستشفى ، حتى حولت البيت إلى ورشة عمل . عند العودة من المدارس .. كل فرد من
العائلة أوكلت إليه مهمة :
- ستعود عائشة اليوم مبكرة من المستشفى .. لتستعد للذهاب إلى حفل التخرج الليلة
. كل شيء يجب أن يكون قد انتهى قبل رجوعها .
كانت قد وضعت برنامجاً لحفلة مصغرة .. بين المغرب والعشاء ، قبل أن تذهب إلى
الحفل في الجامعة . تقتصر الحفلة على الدائرة القريبة من الأقارب ، الأعمام
والعمات والأخوال والخالات .. وبناتهم الكبيرات . بعد ساعات من العمل ، تحول
البيت إلى لوحة جميلة من الزخرفة والزينات . صُفّت الهدايا بطريقة بديعة في
الصالة الرئيسة . في غرفة الطعام ، تم تنظيم المائدة بذوق فنان . تقتضي الخطة
أن يتم استقبال عائشة ، حين عودتها من العمل عند باب البيت ، ثم يتم عصب عينيها
، واقتيادها إلى غرفتها ، حتى لا ترى أياً من مظاهر الاحتفال ، ولا تخرج إلا
حين يصل الضيوف بعد صلاة المغرب .
سارت الاستعدادات وفق الخطة المرسومة . بهجة عائشة لا توصف ، حين خرجت من
غرفتها . أدهشها مستوى التنظيم ، وجمال مظاهر الاحتفاء . الحفاوة البالغة من
أقاربها الرجال ، ضخ فيها روحاً غير عادية . عبارة عمها ، الذي يكبر والدها ..
حملتها إلى سماوات :
- عائشة .. دعوت الله ألاّ أموت ، حتى أشهد هذه المناسبة .
مفاجأتها بكلام عمّها جاءت بسبب الإشاعات التي رُوّجت ، أنه كان ممن سعوا لدفع
أقاربها للضغط على والدها ، لمنعها من دخول كلية الطب . كان في خاطرها شيء عليه
، فأسعدها أن تسمع هذا الكلام منه .. خاصة وأنه اشتهر في الأسرة بورعه وتقواه .
أخذت رأسه وقبلته بشدة ، وصارت تلثم يمينه وشماله ، وتقول :
- هذا الكلام .. أغلى وسام ..
شكرت الجميع على حضورهم ودعمهم .. ثم قالت :
- ما كنت لأكـــــون شيئاً .. لولا هــــــذا الرجــــــــل .. إن كــانت
عــــــــائشة أصبحت ( شيئاً ) .. فهو من جعلها كذلك ، وحال دون أن تكون رقماً
، ضمن ألاف الإناث .
ثم أشارت إلى والدها ، الذي امتلأت عيناه بالدموع .
كانت على وشك أن تنصرف إلى والدتها والمدعوات في الداخل .. حين تذكرت وصية
والدتها لها ، بأن تشكر أعمامها وأخوالها على هداياهم .. فاستدركت :
- حضوركم أهلي .. واحتفاؤكم بتخرج ابنتكم أعظم هدية ، وهداياكم القيّمة ، يعجز
العرفان بالجميل .. مهما بلغ ، أن يَفِيكم حقكم ، بما تكــلفتم به .
حفل النساء كان مهرجاناً آخر من الحفاوة والفرح . احتفى بها الجميع ، وعبّروا
عن فخرهم بها . روت لها البنات ، كيف كُنّ يتداولن أخبار تفوقها ، ومواقفها
داخل الكلية ، بكثير من الاعتزاز .. بين زميلاتهن وصديقاتهن ، ويفتخرن بقرابتها
لهن . هي بدورها عبّرت عن امتنانها وشكرها ، وكررت كثيراً ، شعورها العميق
بالحب والعرفان للجميع ، وخصت والدتها بثناء خاص :
- لولا أمي ما كنت طبيبة .. والله لولاها ما كنت سأصبح طبيبة . ألمها هو الذي
خلق الفكرة الأولى في عقلي ، وحبها ، ورعايتها ، وتشجيعها ، هو ما جعلني أصمد
أمام طوفان الخذلان والتثبيط .
ذكرت كيف أنها في بعض الأحيان تأتي من الكلية تبكي ، من موقف مرّ بها ، أو ظلم
وقع عليها .. فتأخذها في أحضانها ، حتى تسكن وتهدأ .
- من يملك حضناً يلوذ به ، وصدراً يسكن إليه ، ألا يستطيع أن يقاوم أعتى
الأعاصير ..؟ بلى .. يقاوم والله .
يحمر وجه والدتها خجلاً ، وتتمتم : " عائشة تبالغ " . فتضمها إليها ، وتقول ..
مؤكدة للحضور أثرها عليها :
- يا بعد عمر عيّوش أنتِ ، والله ثم والله ، ما أنسى نظرتها ، مع نافذة غرفتها
، إذا خرجت الصباح للكلية .. كأنما ترسل نظراتها معي ، تحفني وترعاني ، ولا
وقفتها عند الباب ، إذا رجعت بعد العصر .. وابتسامتها تدعوني لأحضانها ، وهي
تردد : " عقبال ما أفرح بك يا دكتورة " .
خالتها هَيَا ، أم عبد السلام الياسر ، ( شهاب الإسلام ) ، التي كانت حاضره ..
عقبت على كلامها :
- تستاهلين يا عائشة . ما تلام الوالدة .. مثلك يرفع الرأس . عقبال ما نفرح بك
الفرحة الكبيرة ..!
أدركت عائشة ، أنها بعبارتها الأخيرة ، كانت تلمح للزواج . انتفض قلبها ، مثل
عصفور بللته غمامة . هل خالتها تريد أن توصل لها رسالة من شهاب الإسلام ؟ هل
الشائعات التي تقول أنه لا يفكر فيها ، وأنه يبحث عن زوجة .. ليست صحيحة ، وأن
خالتها أرادت بجملتها هذه ، أن تدحض هذه الشائعة ..؟ وجع الأيام السابقة ، أحست
به ينسل من قلبها ، مثل شوكة تنزع من أخمص قدم . كمية هائلة من الهواء زفرتها
.. فاتسع صدرها ، كأن ثقلاً أزيح عنه .. أو كأنها لم تتنفس منذ أيام .
تَعجْب من حالات القلب : كيف تغدو به وتروح ، كلمات ومواقف . كيف يتعلق بــ (
غائب ) ، يهيم النهار كـــله ساهياً .. لا يدري عنه ، وفي الليل يحضن وسادة ..
ربما ، وينام ملء عينيه .. ساكناً ، لا يتحرك منه ، إلا بضع قطرات من ريقه ،
تتهادى على وسادة من ريش . وهو .. القلب ، يضطرب داخل أضلاع ، تضيق وتحكم
الحصار عليه .. مثل قضبان زنزانة ، ويضطرم مثل مرجل ، من شوق يشتعل في سويدائه
.. لا يطفئه إلا ريق ، تراق قطراته عبثاً ، وضمّةٌ .. كان هو أولى بها من
الوسادة ..!
أختها أروى ، التي استمعت لتعقيب خالتهما هيا .. هي الوحيدة ، التي التقطت
المشاعر ، التي أورقـــــت في وجهها .. فانــــفرجت أساريره ، مثل ورد ناعس ،
نبّهَه الربيع .. فأفاق وتفتح . أروى أختها وصديقتها الخــــاصة أيضاً . في
لحظة صدق وألم ، حـدثتها بحقيقة شعورها ، تجاه شهاب الإسلام . لم تستطع أن
تحتمل السر لوحدها ، وعجز قلبها ، الذي تهتك من الهم القلق ، أن يكون وحده
وعاءً .. لوجع بهذا الحجم . أروى لا تتفق معها في شعورها .. وترى أنها متعلقة
بوهم . قالت لها مرّة : " حب من طرف واحد " ، فمرضت بسبب ذلك لأيام . تحاشت
بعدها أن تقول لها رأيها بصراحة .
أصرت أختها وقريباتها ، أن تلبس لحفل التخرج ، اللباس الذي اخترنه لها ، لهذه
المناسبة . حين ترددت ، قالت خالتها نوره تشاكسها .. وهي عزيزة عليها ، أكثر من
غيرها ، من بين خالاتها وعماتها :
- لا خيار لك .. إذا شئت أن نرافقك للحفل ، ونفرح معك .
- لكني سأبدو فيه وكأني عارضة أزياء ، ولست طبيبة .. ماركة مشهورة جداً وغالية
، وآخر موضة .
ابنة عمها جمانة ، وهي من صديقاتها المقربات .. أطلقت واحـــداً من تعليقاتها
الساخرة :
- لا بأس يا عائشة .. هذه المرّة ، لا نريد أن نراك تبدين ، وكأنك تشي غيفارا
..
ضحكت .. وقالت :
- شفتوا يا بنات .. جمانة أرحم . فيه ناس في الكلية يسمونني " الملا عمر " ..!
ذهبت عائشة إلى حفل التخرج ، برفقة والدتها وأختها وقريباتها . كانت محل حفاوة
الجميع . صفق الحضور طويلاً ، حين أعلن عن اسمها ضمن المكرّمات ، والحائزات على
جوائز تقدير . والدتها التي كانت تصلها إشاعات ، أن ابنتها صاحبة مشاكل ، وعلى
خلاف مع الجميع ، لم تجف دمعتها ، وهي ترى حجم الحفاوة الذي نالته . بين دقيقة
وأخرى ، يأتي من يسلم على عائشة ، ويبارك لها ، ويغدق عليها عبارات الثناء .
ترد هي بالشكر والامتنان ، ثم تشير إلى والدتها :
- هذه أمي .. الفضل لها ..
فتغرق الأم في بحر من الدموع .
كانا أسبوعا احتفال ، ازدحما بكل مظاهر الاحتفاء . حفلات عشاء ، وهدايا ،
وباقات ورد .. وتبريكات . اتصالات هاتفية ، ورسائل جـــــوّال ، وفاكسات . وقت
سمته : كرنفال حب . عادت بعد هذا ( الكرنفال ) لتغرق في دوامة العمل . اعتادت
أن تضع هاتفها الجوّال على وضع الصامت ، حينما تدخل العيادة . حين توقفت عند
صلاة الظهر عن استقبال المرضى ، نظــرت إلى الجوّال لترى ما قد يكون وصلها من
رسائل ، أو فاتها من اتصالات . لاحظت أن هناك أكثر من 10 اتصالات فــــائتة .
حين استعرضتها ، انتابها قلق . سبع من هذه الاتصالات جاءت من والدتها . بادرت
بالاتصال ، وهي تـــظن أن أمراً سيئاً أصاب أهلها . دق جوّال أمها حتى انقطع
الرنين .. فازداد قلقها . أعادت الاتصال ، فجاء صوت أمها عجلاً :
- هلا عيوّش .. أقلقتك يا عمري ..!
- سلامات يا أمي ، عسى ما شر ..؟
- أشغلتني أم نايف اللاوي ، من صباح رب العالمين وهي تتصل . تقول إن زوجة ولدها
في المستشفى تنتظر الولادة .. تواجه مشكلة في تنويمها ، وزوجها مُصِّر على أن
تُوَلّدها دكتورة ، واتصلت بي ، تبغى فزعتك ..!
- فهد اللاوي ..! ما تذكرين يا أمي أعمال فهد اللاوي ..؟ أنا مجروحة منه ..
والله ..
- خليك أكبر منه يا عائشة ، ولو من أجل أمّه ..!
فهد اللاوي شخص سليط ، وهو أحد أقرباء عائشة من جهة والدتها . يتبنى موقفاً
متشنجاً ونشازاً ، ضد دراسة الفتيات في كلية الطب ، من منظور التعصب القبلي .
دراسة المرأة للطب وممارسته ، من الأمور ( الوضيعة ) ، التي لا تليق بامرأة
تنتسب لأسرة تحترم نفسها .. كما يقول . لم يتورع في كل مناسبة ، عن الغمز
واللمز بطالبات الطب ، ونال عائشة منه الشيء الكثير . كان يسميها ( المسترجلة )
، ويقول عنها : " من سيـــــتزوج بنتاً ، تقضي من الوقت ، تخالط الرجال ، أكثر
من الذي تقضيه في بيتها " .
بيّتتْ عائشة في نفسها أمراً . اتصلت بإحدى زميلاتها ، طبيبة نساء وولادة ،
وشرحت لها موقف الرجل ، ورجتها أن تقبل المرأة لتكون مريضتها ، وتتولى توليدها
. اتفقت معها كذلك ، أن تطلب من المرأة ، أهمية أن يتصل زوجها بعائشة ، ويطلب
منها أن يتولى توليد زوجته طبيبة .. على اعتبار أنها هي المسؤولة ، دون أن يعلم
أنه يتصل بعائشة . اتصلت زوجة نايف اللاوي بزوجها ، وأبلغته ضرورة أن يتصل
بالمسؤولة ، لأنها صاحبة القرار ، بأن تكون هي ، تحت إشراف دكتورة تقوم
بتوليدها .
اتصل نايف اللاوي بعائشة ، وعرّف بنفسه ، وسأل .. بصوت فيه الكثير من الخضوع ،
أن تقوم طبيبة بتوليد زوجته . كانت مفاجأة كبيرة له ، أن يعلم أن من يتحدث معها
هي عائشة ، التي لم تَبْقَ نقيصة لم يلصقها بها . حاول أن يبدو أكثر لطفاً ،
وأكثر تقديراً وامتناناً . لكنها أشعرته أنها لن تعمل هذا من أجله ، وإنما من
أجل والدته التي اتصلت بوالدتها ، ملمحة إلى مواقفه السابقة . زميلتها أيضاً ،
أخبرت زوجته أن تَدَخّل الدكتورة عائشة الصالح ، هو الذي جعلها تقبل أن تكون
مريضتها ، وتقوم بتوليدها ، بالرغم من أن جدولها مزدحم بمريضات أخريات ، وهي
ليست من المراجعات المنتظمات للمستشفى .. ثم أضافت :
- هل تعرفين ماذا كان يقول زوجك عن الدكتورة عائشة والطبيبات ..؟
استحت ولم ترد ..! لا يخفاها ما اعتاد زوجها أن يقول عن الطبيبات ، والعاملات
في القطاعات الصحية ، مقــــــولته التي دائــــــــــــماً يـــــرددها : "
بــــــــــنات ( الحمايل ) لا يشتغلن هذه الشغله " . بعد أن انصرفت الدكتورة ،
اتصلت زوجته بعائشة وشكرتها بشدة ، واعتذرت عن مواقفه وتصرفاته :
- أنا متأكدة أنه سيشــعر بالخجل من كلامه السابق .
في المساء حين عادت عائشة إلى البيت ، أخبرت أمها أن مشكلة زوجة فهد اللاوي ،
تم حَلّها ، وأنها الآن .. ربما ، في غرفة الولادة ، تحت إشراف إحدى زميلاتها .
سعادة والدتها كانت كبيرة ، ليس من أجل أم فهد اللاوي . لكن لأن تصرف عائشة ،
يعبّر عن شهامة ، وسيخرس لسان ولدها ، الذي نال ابنتها منه الشيء الكثير . لم
تفوّت الفرصة ، فسارعت للاتصال بأم فهد اللاوي :
- أبشرك يا أم فهد .. الدكتورة عائشة ، جزاها الله خيراً ، توسطت لــــزوجة
ولدك ، عند واحدة من زميلاتها الدكتورات .
- جزاها الله ألف خير ، وجعل ما قامت به ، في ميزان أعمالها .
- هذه عائشة ، التي لم يبق شيء لم يقله فهد فيها ، وفي زميلاتها ..!
- لا عليك منه يا أم أحمد .. سفيه . عائشة تاج رأسه .
كانت قد تعمدّت ، أن تجعل جهاز الهاتف على وضع السماعة الخارجية ، لكي تسمع
عائشة الحوار . حين قالت الأم عن ولدها أنه سفيه ، وأن عائشة تاج رأسه ، ابتسمت
ابتسامة عريضة ، والتفتت نحو عائشة ، وغمزت لها بعينها . هزت عائشة رأسها ،
وردت على ابتسامة أمها ، بابتسامة خفيفة . لم تكن تفضل أن تشمت أمها بالرجل
أمام والدته . لكنها .. قدرت شعور والدتها تجاهها .. ودفاعها عنها .
أحياناً تبدو الأمور ، وكأن الأحداث تجري وفق مصادفات مرتبة . لم يمر عليها
أسبوع .. من قبل ، بمثل هذه الصدف الغريبة . اليوم الأحد يوم عمل مزدحم . لديها
عملية في بداية اليوم ، ثم جولة ميدانية على المرضى .. وبعد الظهر عيادة . في
آخر النهار كانت منهكة جداً . قبل أن تعود إلى البيت ، مرّت على مكتب ، تشترك
فيه مع بعض الزميلات ، وأخذت بعض الأوراق وجوّالها ، الذي تركته الصباح ، لأنها
.. في هذا اليوم بالذات ، لا تحتاجه أبداً . في طريق العودة ، أجرت اتصالاً مع
والدتها .. تطمئنها على نفسها ، كما اعتادت أن تفعل ، في نهاية كل يوم عـــــمل
. فــــوجئت برد والـــــدتها .. الذي تأخر ، وكـــان مجرد ( نعم ) جافة ،
بدلاً من : ( هلا بروحي وعــيوني ) ، التي اعتادت أن تسمعها منها ، كلما ردت
على اتصالها . سلمت .. وقبل أن تستوعب المفاجأة من ردها البارد ، بادرتها أمها
:
- عيوش .. أنت غيرت رقم جوّالك ..؟
- لا .. ليه يا أمي ..؟
- أيش الرقم الجديد هذا ..؟
أدركت أن ثمة خطأ ما .. وقع . تأملت الجهاز ، فاكتشفت أنه يشبه جهازها . شرحت
لأمها ، أنها أخذت عن طريق الخطأ ، جوّال زميلة لها ، يشبه جهازها . لم يكن من
وسيلة لمعرفة صاحبة الجوّال ، إلا انتظار اتصالها عليه .. للسؤال ، أو مراجعة
الاتصالات والرسائل الصادرة والمرسلة . مر وقت .. بعد وصولها البيت ، ولم يرِدْ
أي اتصال . دفعها الفضول ، لاستعراض الاتصالات الصادرة . لم تكن كثيرة ، وليس
بينها مكرر ، إلا واحد تم الاتصال به مرتين . لاحظت أنه الرقم الرديف ، لجوّال
إحدى الزميلات .شكّت أن يكون رقم زوجها . أرادت أن تتثبت أكثر قبل الاتصال ،
ففتحت صندوق الرسائل المرسلة . كان فيها رسالة واحدة .. تحمل نفس الرقم المتصل
به ، فتأكدت أنها هي .. رشا . قرأت الرسالة :
" وددت أن أقول شيئاً .. كنت هذا النهار ، فارسي النبيل والجميل " .
" كنت فارسي النبيل والجميل " . الرسالة جميلة .. ما أعذبها ، أرسلتها لزوجها
.. همست لنفسها . ارتاحت أنها عرفت صاحبة الجوّال ، لكن الرسالة أثارت شجنها .
منذ سنوات ، وهي تنتظر ( فارسها ) ، الذي لم يأتِ ..! لواعج حزنها ، التي صارت
تتنامى ، جعلها تذكر الله . خشيت أن تحسد صاحبتها .. التي لها ( فارس ) تؤوب
إليه ، وتلوذ به . يتمدد الحزن ، ويتناثر في أعماقنا ، مثل بقعة نفط ، تنتشر
على سطح البحر .. لا نستطيع أن نحاصرها ، أو نسيطر عليها . تماماً .. حين تكون
سعادة الآخرين ، تثير دواعي شقائنا . إذ كلما ظننّا أننا سلونا ، يفجؤنا وجودها
.. مثيراً لذكرى ، أو محرضاً على ألم . نجده يترصد لنا .. فـــرحهم ، لينكأ جرح
أحزاننا : في رسالة جوّال ، أو حديث باسم .. أو أماكن غفت فيها الذكريات .
أقفلت الجوّال ولم تشأ أن تتصل بزميلتها . خشيت أن تسألها ، كيف عرفت أنه
جوّالها .. فتضطرّ أن تقول لها ، أنها اطلعت على الرسالة المرسلة . لا تريد أن
تبدو فضولية ، تتجسس على خصوصيات الناس ، ولم تستحسن كذلك ، أن تعرف زميلتها
أنها اطلعت على رسالة ، بينها وبين زوجها ، تحمل قدراً كبيراً وجميلاً ، من
الحميمية ، والمشاعر الخاصة . لو حصل وتكدرت علاقتهما ، لاتّهمتها أنها هي
السبب .. وعزت ذلك لعينها . هكذا يفكر كثير من الناس .
من الغد ، أخذت الجوّال معها إلى العمل . في فترة الاستراحة لصلاة الظهر ، وجدت
بعض الزميلات مجتمعات في الكافتيريا . سلمت .. ونادت عليهن :
- يا بنات .. أنا أمس أخذت جوّالاً ، ليس لي .. بالخطأ ، وأبحث عن جوّالي . لم
استطع أن أتصل بصاحبة الجوّال لأنه مغلق .
صاحت الزميلات عليها ، وأخبرنها أن زميلتهم رشا ، هي أيضاً معها جوّال لا تدري
من صاحبته ، وقد تركته في المكتب ، ويمكن أن يكون هو جوّالها . ذهبت إلى المكتب
وأخذت جوّالها ، ووضعت الجوال الذي معها ، في صندوق البريد الخاص برشا .
لم تمر الصدفة التي جعلتها تَطّلع على الرسالة ، في جوّال زميلتها .. بهدوء .
الرسالة أيقظت مشاعر كامنة ، وبعثت آمالاً توارت ، أمام دوّامة العمل ، ورتابة
روتينه اليومي . حين وصلت البيت ، صلت العصر ونامت ، لتستيقظ في المساء ، على
الصدفة الثانية ، على حدث عائلي .. أثار جدلاً . أختها أروى خطبت اليوم ..
للمرة الثالثة ، ووالدها ووالدتها يرفضان تزويجها قبلها . غضبت واحتجت .. ورفضت
أن يربط مصير أروى بمصيرها :
- جاءها نصيبها .. لا تقفوا في طريقها ..! أنا إذا جاء نصيبي سأتزوج .
حديث خالتها أم شهاب الإسلام ، يوم حفلة تخرجها ، عن الفرحة الكبرى بها ، ما
زال حياً في قلبها . رسالة الجوّال التي قرأتها في جوّال زميلتها ، عن ( الفارس
النبيل الجميل ) .. أحيت الأمل .. بــ ( الفارس ) الذي لابد أن يأتي ، ولكنه
تأخر . أي صــدفة جعلت أروى تُخطَب ، ويصر أهلها على أن تتزوج هي أولاً .. لحظة
انبعث حلم الفارس من مرقده ، بعد طول سبُاَت .. تساءلت ..؟
تمت الموافقة على زواج أروى ، وبدأت الاستعدادات له . العطلة الصيفية على
الأبواب ، لكن برنامجها المزدحم ، لا يسمح لها بمشاركة فاعلة في التجهيز . قالت
لأروى :
- حين تبدأ الإجازة ، يسافر الناس ، ويخف الضغط ، وسأكون إلى جانبك . لو تدرين
كم أنا سعيدة بك .. ولك .
- لو تدرين .. كم أتطلع إلى الليلة ، التي أراك فيها عروساً .. يا سندريلا ،
دون أن تضطري ، أن تفقدي فردة حذائك .
ابتسمت عائشة . فهمت أن أختها تلمح لحكاية الفتاة ( سندريلا ) ، في الأسطورة
الشهيرة .. التي لم يأتها فارس أحلامها ، إلا بعد معاناة وطول انتظار .
كانتا تتحدثان حين دخلت والدتهما ، فقالت مداعبة :
- هاه .. إن شاء الله فيه تبديل أدوار .. عائشة قررت أن تأخذ العريس .. هذا ..؟
نظرت عائشة لوالدتها بعتاب .. فأضافت والدتها :
- قلبي عليك يا حبيبتي ..
ثم غيرت مجرى الحديث ، موجهة الخطاب لأروى .. لتفادي جرح مشاعر عائشة :
- خالتك نورة أخبرتني ، أنها اتصلت على جوّالك ، أكثر من مرة .. تريد أن تبارك
لك .. قالت أنه مغلق .
- أكلمها الآن ..
- أكدي عليها ، إن موعد اجتماعنا الأسبوعي .. الأربعاء ، صار في البيت ، وليس
الاستراحة .
اتجهت أروى لغرفتها ، واتصلت بخالتها . كانت مرتبكة .. وبدا واضحاً ، أنه لم
يكن هدف الاتصال الوحيد ، المباركة لها بالزواج . أسرّت لها بأمر :
- أتـــدرين يا أروى .. تحدثت مع عبد السلام .. شهاب الإسلام ، قبل أيام عن
الزواج ، واقترحت عليه عائشة ، لأتأكد من شعوره تجاهها . قال لي : " عائشة
والنعم .. لكن أنا ما يهمني نجاحـــها ، ودورها في المجتمع .. أنا لا يمكن أن
أتزوج بنتاً ، تتفرج على عورات الرجال في غرفة التشريح .