سئل الشيخ حمد بن عتيق عن قول الفقهاء :
من قال أنا مؤمن إن شاء الله ، إن نوى به في الحال ؛ يكفر ، وإن نوى به في
المآل ؛ لم يكفر .
فأجاب :
هذا سؤال من لا يُحسن السؤال ، فإن ظاهره أن جميع الفقهاء يقولون ذلك ، ومن له
خبرة بأقوال الفقهاء تحقق أن هذه مجازفة عليهم ، وقول بلا علم ، فإن كان بعض
المتأخرين من بعض أهل المذاهب قال ذلك فهو قول محدَث من أقوال أهل البدع ، وأنا
أذكر لك من كلام العلماء في الاستثناء في الإيمان ، وهو قول الرجل : أنا مؤمن
إن شاء الله ، ليتضح الخطأ من الصواب ، ويُعلم من الأولى بالحق في هذا الباب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وأما الاستثناء في الإيمان بقول
الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، فالناس فيه على ثلاثة أقوال ، منهم من يوجبُه ،
ومنهم من يُحرمه ، ومنهم من يُجوز الأمرين باعتبارين ، وهذا أصح الأقوال .
فالذين يُحرمونه هم المرجئة والجهمية ونحوهم ، ممن يجعل الإيمان شيئاً واحداً
يَعلمه الإنسان من نفسه ، كالتصديق بالرب ، ونحو ذلك مما في قلبه ، فيقول أحدهم
: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني قرأت الفاتحة ، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك
فيه عندهم .
وأما الذين أوجبوا الإستثناء فلهم فيه مأخذان ، أحدهما : أن الإيمان هو ما مات
عليه الإنسان ، والإنسان إنما يكون عن الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة
وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وهو مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية
وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنة والحديث من قولهم : أنا مؤمن
إن شاء الله ، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل ، ولا يشك الإنسان في الموجود
منه ، وإنما يشك في المستقبل ، وهذا وإن عَلل به كثير من المتأخرين من أصحاب
الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم فما علمت أحداً من السلف علل به
الاستثناء .
قلت : فالمرجئة والجهمية يحرمون الاستثناء في الحال والمآل ، وهؤلاء يبيحونه في
المآل ويمنعونه في الحال .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : والمأخذ الثاني في الاستثناء أن الإيمان المطلق
يتضمن فعل ما أمر الله به كله وترك المحرمات كلها ، فإذا قال الرجل : أنا مؤمن
بهذا الإعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بفعل جميع ما
أمروا به وترك كل ما نُهوا عنه ، فيكون من أولياء الله ، وهذا من تزكية الإنسان
لنفسه ، وشهادته لها بما لا يعلم ، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي أن
يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحـال ، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا
يستثنون ، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر .
وروى الخلال عن أبي طالب قال : سمعت أبا عبد الله يقول : لا نجد بُـداً من
الاستثناء ، لأنهم إذا قالوا مؤمن فقد جاءوا بالقول ، فإنما الاستثناء بالعمل
لا بالقول .
وعن إسحاق بن إبراهيم قال : سمعت أبا عبد الله يقول : أذهب إلى حديث ابن مسعود
في الاستثناء في الإيمان ، لأن الإيمان قول وعمل ، والعمل الفعل ، فقد جئنا
بالقول ، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل ، فيعجبني أن يستثني في الإيمان فيقول :
أنا مؤمن إن شاء الله ، ومثل هذا كثير من كلام أحمد وأمثاله .
وهذا مطابق لما تقدم من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات المستحِق للجنة
إذا مات على ذلك ، وأن المفرط بترك المأمور أو فعل المحظور لا يطلق عليه أنه
مؤمن ، وأن المؤمن المطلق هو البر التقي ولي الله ، فإذا قال : أنا مؤمن قطعاً
، كان كقوله : أنا برٌّ تقي ولي لله قطعاً .
وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل غيره : أمؤمن أنت ؟ ،
ويكرهون الجواب ، لأن هذا بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم ، فإن الرجل
يعلم من نفسه أنه ليس بكافر ، بل يجد قلبه مصدقاً لما جاء به الرسول ، فيقول :
أنا مؤمن ، فلما علم السلف مقصودهم صاروا يكرهون السؤال ويفصلون الجواب .
وهذا لأن لفظ الإيمان فيه إطلاق وتقييد ، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد الذي
لا يستلزم أنه شاهد لنفسه بالكمال ، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال : أنا
مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك ، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد
الإيمان المطلق الكامل ، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء .
قلت : فظهر القول الثالث الذي هو الصحيح ، وهو أنه إذا قال : أنا مؤمن ، فإن
أراد بذلك الإيمان المقيد الذي لا يستلزم للكمال جاز له ترك الاستثناء ، وإن
أراد المطلق المستلزم للكمال فعليه أن يستثني في ذلك .
قال الخلال : أخبرني حرب بن إسماعيل وأبو داود ، قال أبو داود : سمعت أحمد قال
: سمعت سفيان بن عيينة يقول : إذا سئل المؤمن : أمؤمن أنت ؟ لم يجبه ، ويقول :
سؤالك إياي بدعة ، ولا أشك في إيماني .
وقال : (إن شاء الله)[1] ليس يكره ، ولا يدخل الشك .
وقد أخبرني [2] عن أحمد أنه قال : لا نشك في إيماننا ، وأن السائل لا يشك في
إيمان المسئـول .
وهذا أبلغ ، وهو إنما يجزم بأنه مقرّ مصدّقٌ بما جاء به الرسول ، لا يجزم بأنه
قائم بالواجـب .
فعُلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من
الإيمان في هذه الحال ، ويجعلون الاستثناء عائداً إلى الإيمان المطلق المتضمن
فعل المأمور .
هذا ملخص كلامه في كتاب « الإيمان » .
وقال في موضع آخر : والناس لهم في الاستثناء ثلاثة أقوال ، منهم من يحرمه ،
كطائفة من الحنفية ، ويقولون : من يستثني فهو شاكُّ .
ومنهم من يوجبه كطائفة من أهل الحديث .
ومنهم من يجوزه أو يستحبه ، وهذا أعدل الأقوال ، فإن الاستثناء له وجه صحيح ،
وتركه له وجه صحيح ، فمن قال : أنا مؤمن إن شاء الله ، وهو يعتقد أن الإيمان
فِـعل جميع الواجبات ، ويخاف أن لا يكون أتى بها ، فقد أحسن .
ومن اعتقد أن المؤمن المطلق هو الذي يستحق الجنة فاستثنى خوف سوء الخـاتمة ،
فقد أصاب .
ومن استثنى أيضاً خوفا من تزكية نفسه أو مدحها ، أو تعليقاً للأمر بمشيئة الله
تعالى ، فقد أحسن .
ومن جزم بما يعلمه من التصديق في ترك الاستثناء فهو مصيب .
فتبين بما ذكرناه من الكلام الذي قدمناه أن هذا الإيراد قول غير معروف عند
العلماء المقتدى بهم ، فضلاً عن أن يكون الفقهاء كلهم قد قالوه ، وإذا كان
الأمر كذلك وظهر كلام من يعتد به ، وما هو الصواب منه ، فلا حاجة بنا إلى معرفة
الأقوال المبتدعة .
المسألة الثانية وهي قول السائل : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من قال :
أنا مؤمن ، فهو كافر ، ومن قال : أنا في الجنة ، فهو في النار ؟
فالذي وقفت عليه أن هذا من كلام عمر ، كما رواه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه قال : من قال أنا مؤمن ، فهو كافر ، ومن قال : هو عالـم ، فهو
جاهل ، ومن قال : هو في الجنة ، فهو في النار .
وأنت لم تذكر له إسناداً ، ولا نسبة إلى أصل ، وقد عُـلم أنه لا يجوز لأحد أن
ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بمجرد وجود سواد في بياض ، وتفصيل ذلك
معروف في كتب أهل العلم والحديث .
وأما مراد عمر ، فقد قال بعض الناس : إن المراد : إذا قال أنا مؤمن ، آمناً من
مكر الله ، وتألياً على الله .
وقال بعضهم : أي من قال : أنا مؤمن بالطاغوت ، فهو كافر بالله .
وكذلك من قال : هو في الجنة قطعاً ، تكذيباً بحديث : الأعمال بالخواتيم .
وقيل غير ذلك من الأقوال البعيدة الضعيفة .
وأما أنا فأقول : الله أعلم بمراد الخليفة الراشد ، ولا أعلم في ذلك شيئاً
تـطمئن إليه النفوس ، ولا يستحي من سئل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم ، فالله
أعلم .
انتهى كلامه رحمه الله .