|
مدخل :
هل فكرت يوما في وضعك حينما تتعرض لموقف يضعك فيه حضرة القاضي المبجل , صاحب
الشنب المعكوف و الذقن العاري من أسود الشعر على منصة الإعدام , و يلف بحبل خشن
الملمس لم تعهد مثله في حياتك الناعمة أبدا , و لم يكن لونه الباهت ضمن قائمة
ألوان الرسم الخاصة بك في المرحلة الابتدائية , يلفه مجتهدا في لفه حول رقبتك
الجافة جراء العطش و نتيجة لهول الموقف و تذكر شكل النعش , ثم يركلك آخر بقدمه
من الخلف باسطا كتفيه مبتسما تلوح على جلد جبهته تقاطيع الشعور بالنصر بينما
يظل وجهه الأرعن مطبقا صامتا يجاهد في تقليد الموتى في سكونهم , قاتلا ضحكة
عينيه تمثيلا أمام الكاميرا فقط ؟؟
هل فكرت في أنه قد يأتي يوم و تنصب هذا المنصب بأن يغطى موتك إعلاميا , و تتابع
الكاميرات الرقمية أنفاسك حتى أخر حركة , و آخر نفس بل وحتى الرمق بعد الأخير ,
و تصبح أخيرا رسالة بلو توث ؟؟
رجاء لا تصدمني بأن تقول لي أنك لم تفكر في ذلك حتى الآن ؟ و إذا فعلت و قلت ما
قلت فمن الأفضل لك أن تكف عن سذاجتك , و تبدأ منذ هذه اللحظة و تتخيل معي كيف
سيكون موتك و كيف ستغطى ساعتك الأخيرة في الحياة إعلاميا و وثائقيا ..
و إني إذ أطلب هذا الطلب , و أوجه بهذا الأمر, فإني أحاول أن أجعلك ( تتصور
الأبشع ) حتى إذا ما قتلت يوما برصاصة غدر من قفاك , أو مسك من شظايا القنبلة
شرار سوء فمت في دقيقتك موتا سريعا بسيطا بعيدا عن أعين الشامتين , و بريق
الكاميرات المزعج , و دفنت في مقابر المجهولين , قلت في سريرتك يوم صعود روحك و
تحليقها حمدا لك يا رب على أن رزقتني موتا خفيا و عددتني عند عبادك من
المجهولين ..
و دليلي في هذا هو واقع الزخم الإعلامي المشاهد في فضائح العراق و الذي ما فتئ
منذ بداية الحرب يمارس سياسة الإشراق بالضباب , فيطفئ الحقيقة و يضيء ابنة عمها
الأكذوبة , أو يرسلها مصحوبة بأجواء غائمة إلى غائمة جزئيا أو يدعها مساحة
رمادية غير معلومة التفاصيل أو مفسرة المعالم , فيقتل ( على سبيل المثال )
المجرم تعزيرا إحدى ضحاياه , و يصرح بجريمته على الملأ الأعمى مبتسما ابتسامة
النصر بكل جرأة و وقاحة , منصبا نفسه منصب العادل المنتصر مهما كانت بشاعة
الجثة المعزرة , مهما كانت العين فيها مفقوءة و السبابة مرمية على قارعة الطريق
الآخر و مهما كان حال الجثة منافيا لمبادئ الإنسانية فضلا عن أخلاقيات الحرب و
موازينها , ثم يقول في تصريح إعلامي بكل صفاقة : أن المقتول قد بدأ عليه
بالاعتداء و البادي أظلم كما يعلم الجميع , فيصبح جمهور المشاهدين و يمسون
محللين و مفكرين في أسئلة من نوع : من قد يكون المعتدي أو البادئ ؟ متناسين عدم
استحقاق الضحية للقتل تعزيرا حتى و إن كان هو المعتد على حد مزاعم ذاك الأول (
القاتل ) فللموتى احترامهم و لجثثهم حق التكريم بالغسل و الصلاة و الدفن , و
متناسين أيضا أن هذا المشهد من الأساس لم يصرح به إلا بهدف إيصال رسالة واحدة
فقط فحواها و محتواها كما جاءت على لسان أحد الفلاحين المصريين في أحد
الاستطلاعات الإخبارية { اللي صاير معناه واضح أوي و يقول إزا ما سمعتوش الكلام
هيقرالكو اللي قرا لغيركو } , أي الويل لكم من سوء الخاتمة إذا فتحتم أعينكم و
حاولتم ممارسة الإبصار , الويل لكم إذا رفعتم رؤوسكم و حاولتم السير على وجه
البسيطة مثل سائر الخليقة , فقد قتلنا الجميع تعزيرا و جعلنا لنا من صدام أضحية
العيد و علمنا حقوق الإنسان و الأمم المتحدة ممارسة الصمم , و لقناها جملة ( لا
أرى و لا أسمع ) , و إن أردتم لأرواحكم الدعة فرددوا ذات الجملة , لا عدمتم
الأمان ..
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر *** ضاع قوم ليس يدرون
الخبر
لا تشر إلي بأي إصبع اتهام بالسوداوية و لو كان
صغيرا , فما سطرته في حرفي المدون أعلاه ما هو إلا تسجيل حرفي لحصاد الكاميرا
في القنوات الإخبارية , أي أنه واقع مشاهد مثبت بالصوت و الصورة و ما فعلته
لتوي ما هو إلا من باب إثبات المثبت كتابيا , أي ليس من تفعيلة و لا عمودية
شاعر و لا من فلسفة كاتب أو تنميق أديب مشبع بالأحلام و الدعة , بل هو الواقع
المشاهد و هو الحقيقة الظاهرة أو إن شئت التسمية الصاعقة القاصمة, التي ما تفتأ
خالعا نعليك و هاربا بسرعة عنها , متوهما أنها ستتوه , تضيع ثم تغرق في بحر لجي
لا ساحل له و لا شاطئ و لا مرافئ ترسوا فيها بحملها و ثقالها , متناسيا أنها
أيضا الشمس التي حتما ستشرق مهما طال سديم الظلام و نوم الأنام ..
أضف إلى ذلك ما أكدته الإثباتات العلمية من أن النعاج التي تم تدجينها , ترضع
منها كل الحملان دون أن تمانع في ذلك ..
..........................
أن تكون فردا عراقيا فلك أن تختار إحدى الأمرين : أن تموت مجهولا بلا بطاقة
تعريف , أو أن تموت مشوها مفعولا بجسدك الأفاعيل , و في كلا الحالتين ثق تمام
الثقة أن موتك سوف يغطى إعلاميا مهما كانت بشاعة جثتك و سوء منظرها و المنقلب
الذي انقلبت إليه , ليضحك الشامتون , و يتقزز من منظرك إخوتك الأشقاء , أبناء
الحرير و عشاق السرير الوثير , فتراهم سريعا ما يبادرون بتغيير القناة إلى قناة
أخرى راقصة قد تكون ملكا لقاتلك أو لإحدى مواليهم ليمتعون أنظارهم ببناتها و
يتراقصون طربا مع مواويلها و قد يتصل أحدهم بإحداها قائلا بغنج متصنع :
ألـوووووو ممكن أهدي ؟؟؟ فضلا على أنه قد يتخذ من رؤيته السريعة لجثتك قصة مجلس
, سالفة سمر أو عنوان مقالة و صورة غلاف يتفلسف بها مدعيا الثقافة و سلامة الحس
و الشعور بالآخر , ثم إذا ما انتهى من سرد حكايته التفت إلى جمهوره ثم قال :
أحزنتكم صح ؟ ( مرة سووري ) ما رأيكم , لنحول دفة الحديث , من لديه نكتة ؟؟؟؟
ليتقافز معشر النائمون في العسل , الغائبون عن المر و تعاسة أيام البصل ,
ليتسابقو على سرد النكت من طراز : فيه واحد كبير في السن بدوي و يوم انتهى من
رمي الجمرات و عاد إلى خيمته دلك ساقه قائلا : ( يا رفسٍ جاني ) ( كناية عن
كثرة الضربات التي تعرضت لها ساقه ) ليمسك به رفاقه من الحملة متسائلين : (هل
تعبد رفسنجاني ؟؟ ) فيضحك رفاقه على هذه النكتة السخيفة و يتساقطون و يلوون
بطونهم و يذرفون الدمع تعبيرا عن شدة استمتاعهم بالنكتة ..
و يبقى العراقي سالفة حديث , و فكاهة مجلس , و مقالة صحف , و أوراق عمل جامدة
لا يُفَعَّل من توصياتها كلمة و لا حتى نقطة أو علامة تعجب !!
إذا كان يؤذيك حر المصيف *** و كرب الخريف و برد
الشتاء
و يلهيك حسن زمان الربيع *** فأخذك ( للدرس ) قل لي متى ؟؟
و الأكثر مرارة و الأشد علقما من ذلك , هو أن
الجميع مدرك و يعلم أن العراق هي الحلقة الثانية في مسلسل الدمار الشامل و
الدرجة الثالثة في السلم اليهودي لتصدر دفة السيادة , و الدليل الأكبر لسوء
النوايا و البرهان الأكثر دلالة على صحة نظرية المؤامرة , مما يعني أن الحلقة
الثانية لا بد لها من حلقات حتى تصل إلى الأخيرة , و صعود السلم لا يتم بصعود
ثلاث درجات فقط , و أننا قريبا أو بعيدا قد ندخل الرهان ..
و لا أعلم أنا هل هذا التغافل يعود إلى حقيقة أن الإنسان لا يستطيع الشعور بمن
يعيش في أجواء مغايرة لأجوائه , أم أنه يستطيع الشعور و لكنه يهرب من ظل
الحقيقة , نائيا بجسده من لسعها و قلبه من حرقها !! أم أنه يرى و لم يفهم بعد
تفاصيل المسلسل !! أو يرى لكنه من فئة الذين يرون و لا يرون !!
الجميع أضحى عالما بالحقيقة فهي أشرقت كالشمس عندما تنفس الصباح,
و جل علائم النهار أضحت ظاهرة ,
فوتيرة الأحداث تشتد سخونة يوما بعد يوم ,
الجميع أصبح يتكلم بها ,
و مع ذلك
لا زلنا نسير في ذات الطريق الأول و نعيش ذات الإغماء كما المسحورين !!
النهار نهار , و الشمس في كبد السماء كبيرة ليس كمثلها في وضوحها شيء ,و جميعنا
نشير إليها بأنها الشمس و أنه النهار , ثم نسلك طريقا غير طريقهما و نعود لنهيم
في الظلام و نتخبط في الدياجير المعتمة !!
لماذا ؟؟!
قد يكون هذا لأننا نحب النوم !!
جائز !!
لكن السؤال :
أما آن لنا أن نستيقظ ؟؟
أم أنه طبع على قلوبنا ؟؟
إشارة :
و لقد أسير على الضلال و لم أقل *** أين الطريق و إن كرهت ضلالي
عزائي الوحيد : أن السماء ترجى حين تحتجب و أن الله مع المؤمنين ..
.......................
* طالبة في كلية اللغات و الترجمة , قسم لغة
انجليزية ..