|
هاهي العشر الأول من رمضان رحلت أو أوشكت على الرحيل ، وثمة حديث يخالج النفس
في ثنايا هذا الوداع ، تُرى ما ذا حفظت لنا ؟ وما ذا حفظت علينا ؟ إن ثمة
تساؤلات عريضة تبعثها النفس في غمار هذا الوداع .
*
أول هذه التساؤلات كم تبلغ مساحة هذا
الدين من اهتماماتنا ؟ هل نعيش له ؟ أم نعيش لأنفسنا وذواتنا ؟ كم نجهد من أجله
؟ كم يبلغ من مساحة همومنا ؟ إن العيش في حد ذاته يشترك فيه الإنسان مع غيره من
المخلوقات ، ولا ينشأ الفرق إلا عندما تسمو الهمم ، وتكبر الأهداف . وعلى أعتاب
العشر الثانية آمل ألا يكون نصيبي ونصيبك قول الله عز وجل (( رضوا بأن يكونوا
مع الخوالف )) . فالسابقون مضوا والسير حفظت لنا قول بكر بن عبد الله : من سره
ينظر إلى أعلم رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا أعلم منه ،
ومن سره أن ينظر إلى أورع رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ابن سيرين إنه ليدع
بعض الحلال تأثماً ، ومن سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه فلينظر إلى ثابت
البناني فما أدركنا أعبد منه ، ومن سره أن ينظر إلى أحفظ رجل أدركناه في زمانه
وأجدر أن يؤدي الحديث كما سمع فلينظر إلى قتادة . )) وليت شعري أن نكون وإياك
أحد هؤلاء .
*
سؤال آخر يتردد :
حرارة الفرحة التي عشناها في مقدم رمضان تساؤلنا : هل لا زالت قلوبنا تجل الشهر
؟ وتدرك ربيع أيامه ؟ أم أن عواطفنا عادت كأول وهلة باردة في زمن الخيرات ،
ضعيفة في أوقات الطاعات ، ورحم الله سلفنا الصالح فلكأنما تقص سيرهم علينا
عالماً من الخيال حينما تقول : قال الأوزاعي : كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا
نعلمها كانت لأحد من التابعين ، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة ، عشرين
منها لم ينظر إلى أقفية الناس . وكانت امرأة مسروق تقول : والله ماكان مسروق
يصبح ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام ، وكنت أجلس خلفه
فأبكي رحمة له إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة ، وكان إذا
فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير من الضعف . قال أبو مسلم : لو رايت الجنة
عياناً أو النار عياناً ما كان عندي مستزاد ، ولو قيل لي إن جهنم تسعّر ما
استطعت أن أزيد في عملي . وكان يقول : أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن
يسبقونا عليه ، والله لأزاحمهم عليه حتى يعلموا أنهم خلّفوا بعدهم رجالاً .
وفي ظل
هذه الأخبار تُرى كم من صلاة في الجماعة ضاعت ؟ وكم نافلة في صراع الأعمال تاهت
؟ تُرى كم من لحوم إخواننا هتكناها بأنيابنا ؟ تُرى كم هي الخيانة التي عاثتها
أعيننا في رحاب الحرمات . كم خطت أقدامنا من خطو آثم ؟ كم ، وكم ، من عالم
الحرمات هتّكت فيه الأسوار بيننا وبين الخالق ؟ والمعصية أياً كانت ، حتى لو
عاقرناها في ليالي رمضان فلا تبقى خندقاً تحاصركم ، وهي كما قال بعض العلماء :
(( أي خلال المعصية لا تزهدك فيها ؟ الوقت الذي تقطعه من نفيس عمرك حين تواقعها
، وليس يضيع سدى ، بل يصبح شؤماً عليك ؟ أم الأخدود الذي تحفره في قلبك وعقلك
ثم تحشوه برذائل الاعتياد والإلف السيء والإدمان الخبيث ، والذكريات الغابرة
التي يحليها لك الشيطان ليدعوك إلى مثلها ، ويشك إليها ؟ ام استثقال الطاعة
والعبادة والملل منها وفقد لذتها وغبطتها ، أم اعراض الله عنك وتخليته بينك
وبين نفسك حتى وقعت فيما وقعت ، أم الوسم الذي تميزك به حين جعلتك في عداد
الأشرار والفجار والعصاة ، أم الخوف من تحول قلبك عن الإسلام حين تجد حشرجة
الموت وكرباته وغصصه ، فياولك إن مت على غير ملة الإسلام ! ))
*
سؤال ثالث
يتردد معاشر الدعاة والمصلحين والمربين عُدوا لي بارك الله فيكم في شهر رمضان
فقط : ما ذا قدمتم لمجتمعاتكم من خير ؟ دينكم الذي تتعبدون به هل نجحتم في
طريقة عرضه ؟ فالبائع ينجح بقدر ما يحسن في طريقة العرض ، وأنتم أولى هؤلاء
بحسن الطريقة ، ونوعية التقديم . مجتمعاتكم بكل من فيها ما ذا قدمتم لها ؟ مسجد
الحي ، وجيران البيت ، وأقارب الأسرة ، أولى الناس بمعروفك فأين هم من مساحة
اهتماماتك ؟ أسئلة تتردد على الشفاه أوليس رمضان فرصة سانحة للإجابة عنها ؟
أملي أن يكون ذلك . وكل ما أرجوه أن لاتخرج نفسك أخي الفاضل من قطار الدعاة
والمصلحين والمربين أياً كنت ، وفي ظل أي ظروف تعيش ، فالمسؤولية فردية. وعندما
نحسن فن التهرب من المسؤولية نكون أحوج ما نكون إلى من يأخذ بأيدينا ، ويحاول
إخراجنا من التيه الكبير . يقول أبا إسحاق الفزاري : (( ما رأيت مثل الأوزاعي
والثوري ، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة ، وأما الثوري فكان رجل خاصة ، ولو
خيّرت لهذه الأمة لا خترت لها الأوزاعي )) .
*
وأخيراً :
رحلت العشر الأول ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل ، وما بقي أكثر
مما فات ، فلنري الله من أنفسنا خيراً ، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون ،
وأن تستمر دواعي الكسل ، فلقيا الشهر غير مؤكدة ، ورحيل الإنسان مُنتظر ،
والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة . فوداعاً
ياعشر رمضان الأول ، سائلاً الله تعالى أن يكتب لك النجاة ، وأن يجعلك في عداد
الفائزين ، وأن يعينك على ما بقي من شهر الخير . والله يتولاك .
أخوك / مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
Mashal001@hotmail.com