تأملت هذا الشهر الكريم كثيراً ، ودار في خلدي وأنا أتأمل هذه الأيام تلك
البشائر الكبيرة التي جاءت تصحب هلاله ... وأمعنت النظر في قول الله تعالى
في الحديث القدسي : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به (
متفق عليه ) وتفسير أبو عبيد القاسم بن سلاّم : الأعمال كلها لا تكون إلا
بالحركات ، إلا الصوم خاصة فإنما هو بالنيّة التي خفيت على الناس وهذا وجه
الحديث عندي . اهـ وقلت في نفسي وأنا أعيش هذه الفرحة ، إذا صام الإنسان
لوجه الله تعالى ، وأضحى ضامراً لفقد الماء والطعام ، يراه بين يديه ،
ويخلو به عن أنظار الناس ، ثم لا يستطيع أن يمد يديه إلى شيء من ذلك رغبة
في ما عند الله تبارك وتعالى . كيف يكون جزاؤه بين يدي الله تعالى يوم
القيامة ؟ وتذكرت وأنا أعيش في ذلك الحدث موقفين :
الموقف الأول : موقف فرعون الطاغية ، والذي
وصل حد الإسراف والطغيان في مجابهة دين الله تعالى في الأرض ، وظل طيلة
حياته مناوئاً لهذه الرسالة ، وخصماً لدوداً لدين الله تعالى ، ووقف بين
الناس وبين هداية السماء ، وصل به حاله إلى أن قال وبأعلى صوته : ( أنا
ربكم الأعلى ) ووقف في يوم آخر ليعلن رسالته للناس في الأرض : (أليس لي ملك
مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) ووقف في يوم ثالث ليوجه رسالة أسوأ من تلك
الرسالتين يقول فيها : ( يا همن ابني لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب
السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ) حين أدركته النهاية ،
وأطبق الله تعالى عليه البحر ، قال الله تعالى حاكياً ضعفه : ( حتى إذا
أدركه الغرق ، قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من
المسلمين * آلئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) لك أن تتصوّر أخي القارئ
الكريم ، بعد كل هذه الرحلة من العداء ، ومحاربة دين الله تعالى ، والبغي
والطغيان ، روي الإمام أحمد رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما قال فرعون : (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به
بنوا إسرائيل ) قال : قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت حالاً من حال
البحر ، فدسسته في فيه مخافة أن تناله رحمة الله . ( رواه الترمذي وصححه
أحمد شاكر ) لك أن تتصوّر كيف أن هذا الرجل استجاش عداؤه في قلوب الملائكة
، ولعلم جبريل عليه السلام بعظيم رحمة الله تعالى ، خشي أن تنال هذا
الطاغية فراح يمارس بعضاً من جهده ليمنع وصولها إليه . وكأن الحديث يعرض
استقرار عظيم رحمة الله في نفس جبريل لدرجة أنها يمكن أن تنال حتى الطغاة ،
وتمسح آثار طغيانهم في لحظة من اللحظات ، وتكتب عليهم سعادة لا يشقون بعدها
أبداً . فإذا كانت رحمة الله تعالى لهذه الدرجة التي كادت أن تلتحف هذا
الطاغية مع كل ما قدّم ، فكيف تتصوّر يارعاك الله وأنت تحمل هذا الإسلام
ديناً ، وتعظّم ربك فتتعبّد له بهذه العباد العظيمة ، لدرجة أنك تتحمّل في
سبيله كل لأواء ، بل تقدّم مرضاته على شهوات نفسك ، وتجهد في سبيل طاعته .
كيف تتصوّر جزاؤه لك غداً في عرصات القيامة ؟ إن الحال أعظم من أن يصفه
مقال ، فقط أترك لك تصوّر ذلك .
الموقف الثاني :
موقف الطاغية الآخر أبو لهب ، الاسم الذي أراد الله تعالى أن نردده في
كتابه الكريم على وجه الذم والتشهير به ، أبو لهب الرجل الذي ظل يركض في
سبيل إلغاء دعوة الله تعالى ، الرجل الذي وقف في وجه نبينا صلى الله عليه
وسلم ، وظل يطارده في بقاع مكة صاداً له عن تبليغ الرسالة ، هذا الرجل أعتق
ثويبة مولاته ، وهذه المرأة أرضعت نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فانظر كيف
صنع الله تعالى بهذا المعروف لأبي لهب ، في البخاري أنا أبا لهب لما توفاه
الله تعالى رآه بعض أهله في المنام فقالوا له ماذا لقيت بعدنا ؟ فقال : لم
أجد بعدكم رخاء أو قال : راحة غير أني سُقيت من هذه ـ وأشار إلى النقرة
التي بين السبابة والإبهام ـ لإعتاقي ثويبة . فإذا كان الله تعالى أوفى هذا
الرجل ، وحفظ له هذا الجميل ، وكافأه عليه مع أنه لم يرجو به وجهه تعالى ،
إلا لما صار به أثر على الإسلام ، فقل لي بربك أيها الصائم الكريم وأنت
بهذه الطاعة ، وهذا الحرص في شهر رمضان على الخير ، تجهد من أجل الله تعالى
، وتنفّذ أمره ، وتحرص على طاعته كيف يكون جزاؤك بين يديه غداً في عرصات
القيامة ؟
إن المؤمل على الله تعالى عظيم ، والمرجو منه كبير ، ولن تضيع بإذن الله
تعالى روائع الطاعة منك أيها الحبيب . فأنت تتعبّد لله تعالى ، وترجو ما
وعدك في كتابه ، فلتعلم أن الرحمة التي كادت تلتحف فرعون مع طغيانه ،
والعدل الذي أوفى به الله تعالى أبا لهب مع شدة عدائه أقرب إلى إيفائك حقك
اليوم في عرصات الدنيا بالتوفيق والسداد ، وغداً في عرصات القيامة لا تسأل
عن الكرامات . وفقني الله وإياك لطاعته .. وجعلنا الله تعالى من أوليائه .
وتقبل الله صيامكم وقيامك .
أخوك : مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
Mashal001@maktoob.com