|
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى
رضوانه ، صلوات ربي عليه وعلى آله وأصحابه والأنبياء إخوانه ، وسلم تسليماً
كثيراً . . . أما بعد :
فيا أيها المسلمون : اتقوا الله ، واشكروه على أن بلغكم شهر رمضان أفضل شهور
العام ، لأن الله سبحانه وتعالى إختصّه بأن جعل صيامه فريضة وركناً رابعاً من
أركان الإسلام ، ومبنىً من مبانيه العظام ، قال صلى الله عليه وسلم " بُني
الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ الله وان محمداً رسول الله وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت " [ متفق عليه ] . وقد فُرض صيام
شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة .
فصيام شهر رمضان واجب بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
ولقد فرض الله سبحانه وتعالى على عباده صيام شهر رمضان وسنّ النبي صلى الله
عليه وسلم قيام لياليه ، لأن فيها ليلة عظيمة خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة
وثلاثة أشهر تقريباً .
قال صلى الله عليه وسلم " أتاكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، فرض الله عز وجل عليكم
صيامه ، تفتح فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه مردة
الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حُرم خيرها فقد حُرم " [ رواه
النسائي وصححه الألباني ] .
وفي الحديث المتفق على صحته قال صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان إيماناً
واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له
ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من
ذنبه ".
فينبغي على المسلم أن يستقبل هذا الشهر العظيم بالغبطة والفرح والسرور ، والحمد
وشكر الرب الغفور ، الذي وفقه لبلوغ شهر رمضان وجعله من الأحياء الصائمين
القائمين الذين يتنافسون فيه بصالح الأعمال ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه
وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان فيقول " جاءكم شهر رمضان شهر بركة ، يغشاكم
الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب الدعاء ، ينظر الله إلى
تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فإن الشقي من
حُرم فيه رحمة الله " ] رواه الطبراني في الكبير ] .
إنه شهر عظيم الخيرات ، كثير البركات ، فيه فضائل عديدة وفوائد جمّة ، ينبغي
للمسلم أن يغتنمها ويقتنصها ، قال صلى الله عليه وسلم " إذا كانت أول ليلة من
رمضان فُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب ، وغُلقت أبواب جهنم فلم يُفتح
منها باب ، وصُفدت الشياطين ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي
الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " ] رواه البخاري ومسلم والترمذي
وغيرهم ] .
وقال صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى " كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه
من أجلي ، للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم
الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " ] متفق عليه ] .
وقال صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة باباً يُقال له الريّان يدعى يوم
القيامة يقال : أين الصائمون ؟ ، فمن كان من الصائمين دخله ، ومن دخله لم يظمأ
أبداً " ] رواه البخاري ومسلم واللفظ لابن ماجة ] .
إن شهراً هذه عطاياه وبركاته ، وهذه منحه وهباته لحريٌّ بكل مسلم أن يستقبله
بفعل الخيرات والطاعات واجتناب المحرمات والمنهيات وأن يُقبل على ربه سبحانه
بالتوبة النصوح وأن يرد المظالم إلى أهلها ، وأن يحذر الظلم لأن الظلم ظلمات
يوم القيامة ، ومن ذلك ظلم النفس والزوجة والأولاد ، والعمال والخدم والأجراء ،
قال صلى الله عليه وسلم : " من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء
فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ
منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " ( رواه
البخاري ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد
أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة ، فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيراً
يارسول الله ؟ فقال ، وإن كان قضيباً من أراك " ( رواه مسلم ) ، فاحذروا أيها
المسلمون من عاقبة الظلم والحيف والجور ، فإن العاقبة وخيمة ، والخاتمة سيئة ،
وعلى المسلم أن يبرئ نفسه من كل ذنب ومعصية ، وأن ينتهز هذه الفرصة العظيمة في
شهر رمضان المبارك ، فيجتهد في العبادة حتى يألفها مدى عمره وطول أجله .
وعلى العبد أن يُجاهد نفسه فيمنعها ممّا حرم الله عليه من الأقوال والأعمال ،
لأن المقصود من الصيام هو التقوى وطاعة المولى ، وتعظيم حرماته تبارك وتعالى ،
وكسر هوى النفس ، وتعويدها على الصبر لأن الصبر ضياء وأجر عظيم ومثوبة كبرى .
وليس المقصود من الصيام مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات فقط . ولهذا
قال الله جل وعلا : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
من قبلكم لعلكم تتقون "، وممّا يجب على المؤمن في شهر رمضان وغيره وفي رمضان
آكد ، أن يحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والوقيعة في أعراض المسلمين ، لأن ذلك
مُذهب لأجر الصيام . . قال الله تعالى في تحريم الغيبة والنميمة " ولا يغتب
بعضكم بعضاً أيُحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ". قال الله تعالى في
تحريم الغيبة والنميمة " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيُحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم " ، وقال صلى الله عليه وسلم "
من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كفّر ما قبله " ]
رواه الإمام أحمد ]، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة نمّام " . وقال
صلى الله عليه وسلم " ما صام من ظلّ يأكل لحوم الناس " ] رواه ابن شيبة 2 / 273
] . وقال صلى الله عليه وسلم " الصيام جنّة فإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث
ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنيّ صائم " [ رواه البخاري ] .
وقال عليه الصلاة والسلام " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل ، فليس لله
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " [ رواه البخاري ] .
وقال جابر بن عبدالله " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع
أذى الجار وليكن عليك وقار وسكينة ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء " [ رواه
ابن شيبة 2 / 272 ] .
هكذا ينبغي للمسلم أن يستقبل شهر رمضان بالفرح والسرور والاستبشار وغض الطرف عن
الخلافات والبعد عن المغالطات .
إن مواسم الخير كثيرة وقد لا تتكرر وقد لا يُدركها الإنسان كل عام ،فكم هم
الذين صاموا معنا في الأعوام السابقة ثم فقدناهم في هذا العام ، أتاهم هادم
اللذات ومفرق الجماعات ، فهم تحت أنقاض التراب لا أنيس ولا جليس إلا ما قدموه
من الأعمال ، فإن كانت خيراً فهنيئاً وسعادة ، وإن كانت غير ذلك فلا يلومن
صاحبها إلا نفسه ، فالموت آت لا محالة ، فتزودوا من الأعمال الصالحة ما يكون
أزكى لكم عند ربكم ، واغتنموا هذه الفرص الثمينة واستثمروها في الطاعة .
وعلى المسلم أن يحرص في هذا الشهر الكريم أن يبرّ والديه وأن يصل رحمه ، فهذا
هو موسم الصفاء والإخاء ، ونبذ البغضاء وترك الشحناء ، فالقطيعة بين عموم
المسلمين محرمة ، وبين الأقارب والأرحام والجيران أشد حرمة ، قال تعالى : " فهل
عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله
فأصمهم وأعمى أبصارهم " ، وقال الله تعالى : " إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين
أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن
يبسط له في رزقه ـ أي يوسع له ويبارك له فيه ـ وينسأ له في أثره ـ أي يؤخر له
في عمره ويزاد له فيه ـ فليصل رحمه " ( متفق عليه ) ، وقال صلى الله عليه وسلم
: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ،
وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " ( متفق عليه ) وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يحل
لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " ( رواه أبو
داود بإسناد على شرط البخاري ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من هجر أخاه سنة
فهو كسفك دمه " ( رواه أبو داود بإسناد صحيح ) ، فهذا تشبيه بليغ منه صلى الله
عليه وسلم للمتهاجرين والمتقاطعين والمتباغضين ، بأن جرمهم هذا من أعظم الجرم ،
وأكبر الذنب ، فهو كقتل النفس البريئة ، وهذا من اكبر الكبائر ، وأعظم العظائم
، فكذلك الهجران كبيرة وعظيمة ، وقال صلى الله عليه وسلم : " تعرض الأعمال في
كل اثنين وخميس ، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً ، إلا امرءاً بينه
وبين أخيه شحناء ، فيقول : أنظروا هذين حتى يصطلحا " ( رواه مسلم ) ، فاتقوا
لله عباد الله وأصلحوا ذات بينكم ، وصلوا أرحامكم ، وتجاوزوا عن زلات غيركم
يرضى عنكم مولاكم ، وتدخلوا جنة ربكم .
وعلى المسلم أن يُحسن إلى جيرانه ويتعاهدهم بالزيارة والنصح والتوجيه والإرشاد
، فهو في شهر الجِنان والبعد عن النيران ، شهر الإقبال على الحسنات والطاعات
والبعد عن السيئات والمعصيات .
وعلى المؤمن أن يكثر فيه من أعمال البر والخير ، وقراءة القرآن بتعقل وتدبر ،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإكثار من الباقيات الصالحات من تسبيح
وتحميد وتهليل وتكبير . قال صلى الله عليه وسلم " من تقرب فيه _ في رمضان _
بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه ، ومن أدّى فيه فريضة كان
كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه " ] رواه ابن خزيمة وفيه مقال ] .
شهر رمضان شهر الخير والبركات والعِبر والعظات ، شهر يستبشر بقدومه المسلمون في
كل مكان ، لما فيه من حُسن الجزاء وعظيم العطاء ، ولما فيه من عظيم المثوبة ،
قال صلى الله عليه وسلم " شهر أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار "
.
شهر رمضان شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن وشهر العتق من النيران ، وشهر
الغفران ، شهر الصدقات والإحسان ، الشهر الذي تقال فيه العثرات وتجاب فيه
الدعوات ، وتُرفع فيه الدرجات ويزاد في الحسنات وتغفر فيه السيئات .
شهر رمضان شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع العبادات والكرامات ،
ويُجزل الله سبحانه فيه لأوليائه العطايا ، ويعفو فيه عن الرزايا .
فينبغي على المسلمين تعظيمه بالنية الصالحة والإجتهاد في حفظ الصيام والقيام
والمسابقة إلى الخيرات ، ليفوز المسلم بالكرامة والأجر العظيم .
وينبغي على المؤمن أن يحفظ صومه من الأوزار والآثام .
ولا شك أن أعظم شيء يقضي فيه الإنسان وقته هو طلب العلم الشرعي ، لما للعلم من
منزلة عظيمة ومكانة كبيرة عند الله تعالى ، فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، ولهذا
امتدح الله عز وجل العلم ورفع مكانة أهله ، وأجلّ قدرهم ، قال تعالى " يرفع
الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات " ، وقال تعالى " قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون " ، وجاءت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي
صلى الله عليه وسلم الدالة على فضل طلب العلم وشرف أهله وما لهم عند الله من
النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، فقال صلى الله عليه وسلم " من سلك
طريقاً يطلب فيه علماً ، سلك الله به طريقاً إلى طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع
أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن
في الأرض ، والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة
البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا
ديناراً ولا درهماً ، إنما ورثّوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " [ رواه أحمد
وأهل السنن وهو في صحيح الجامع ] . لذا كان لزاماً على المسلم تعلم العلم
الشرعي الذي
تقوم به حياته ، وأهم ذلك أركان الإسلام الخمسة ، ليعرف الحلال والحرام ، فيكون
للحلال مُقداماً ، وللحرام محجاماً .
طلب العلم الشرعي فريضة على كل مسلم كي يميز بين الخير والشر ، فيقوم بفعل
الطاعات وإجتناب المعصيات ، يكون سداً منيعاً في وجه الأهواء والشهوات والشبهات
، بالعلم الشرعي يعبد الإنسان ربه على نور وبصيرة .
ولكن مع تقدم الحضارة ، وإنهماك الناس في ملذات الحياة ، تركوا طلب العلم
الشرعي ، وأقبلوا على طلب الحياة الفانية ، فأصبح العلم غريباً بين الناس ، بل
أبسط الأحكام الشرعية التي يجب على المسلم تعلمها ، أصبحت تمثل عقبةً عظيمةً
أمام الكثير منهم ، وكل ذلك بسبب الجهل والغفلة المهلكة التي يعيشها الكثير منا
.
قال ابن القيّم رحمه الله " كل ما كان في القرآن من مدح للعبد فهو من ثمرة
العلم ، وكل ما كان فيه من ذم للعبد فهو من ثمرة الجهل " .
وبما أن الصيام ركن عظيم من أركان الإسلام ، وقد تخفى كل أحكامه أو أكثرها عن
الكثير من المسلمين فهذه جملةً من أحكام الصيام التي يحتاجها المسلم في يومه
وليلته :
1_
بدء صيام اليوم ونهايته : يتبين هذا الأمر واضحاً بأدلته الشرعية من الكتاب
والسنة ، فاماّ من الكتاب فقوله تعالى " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم اتموا الصيام إلى الليل " ، ومن السنة
مارواه ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
الفجر فجران ، فاماّ الأول لا يُحرم الطعام ، ولا يُحل الصلاة ، وأماّ الثاني ،
فإنه يُحرم الطعام ، ويُحل الصلاة " [ رواه ابن خزيمة والحاكم والدار قطني
والبيهقي بإسنادٍ صحيح ] .
1_ الفجر الكاذب : وهو البياض المستطيل الساطع المُصَعّد كذنب السرحان ، فهذا
الفجر لا يحل صلاة الصبح ، ولا يحرم الطعام على الصائم .
2_ الفجر الصادق : وهو الأحمر المستطير المعترض على رؤوس الشِعاب والجبال ،
المنتشر في الطرق والسكك والبيوت ، فهذا الفجر هو الذي يحل صلاة الفجر ، ويحرم
الطعام على الصائم ، وهو الذي تتعلق به أحكام الصيام والصلاة ، فإذا ظهر ضوء
الفجر واعترض في الأُفق على الشِعاب ورؤوس الجبال ، وكأنه خيط أبيض ، وظهر من
فوقه خيط أسود هو بقايا الظلام الذي ولّى مدبراً ، فهذا هو الفجر الصادق الذي
دلّت عليه الآية السابقة .
2-
يتعين على الصائم أن يتحرى غروب الشمس ، ليحفظ صومه من البطلان ، ويظهر ذلك
واضحاً جليًّا في قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من ها هنا ، وأدبر
النهار من ها هنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فإذا غاب قرص الشمس كاملاً وظهر أول الظلام فقد أفطر الصائم .
والعبرة ببدء الصوم وانتهائه الرؤية البصرية ، لأنها هي السنة التي جاءت عن
المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى .
أماّ الإعتماد على التقاويم التي هي من صنع المنجمين أو إستعمال الآلات
والحسابات الفلكية ، فهذا فيه بعدٌ عن الدين واتباع للمنحلّين ، مما ظهر أثره
واضحاً على المسلمين من إبتعادهم عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأمره بالصوم
والفطر على الرؤية لا على غيرها ، مماّ زاد الشر بين المسلمين ، وقل فيهم الخير
، فهذه التقاويم من صنع البشر ، ومعلوم أن الإنسان بطبيعته كثير الزلل والخطأ .
قال صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم
فاقدروا له " أي أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً .
فهذه المفكرات والتقاويم لا تخلوا من تقديم أو تأخير أو تضارب يقع معه المسلم
في حيرةٍ من أمر دينه ، وأمر صومه وفطره ، فعلى المسلم أن يتحرى غروب الشمس
الكامل للإفطار ، وهذه هي السنة التي يجب علينا معاشر المسلمين التمسك بها
والعض عليها بالنواجذ .
وصونوا شهركم عما حرم الله عليكم ، فهذا الشهر العظيم سيكون شاهداً لكم أوعليكم
، فإن بعض الناس يزيد شره في شهر رمضان عن غيره ، لأنهم لا يعرفون له حرمة ،
ولا يقدرون له قيمة ، فتجد أحدهم جيفة بالنهار بلا عبادة ولا طاعة ، وفي الليل
سهر على القيل والقال ، ومشاهدة المسلسلات المحرمة ، واستماع للأغاني الماجنة ،
أو لعب للورق والقمار ، فلا صلاة ولا قيام لله الواحد القهار ، ومن الشباب من
عكف على التسكع في الشوارع والجلوس على الأرصفة ، إنها أحوال يندى لها الجبين ،
ويشيب منها الجنين ، فسبحان الله العظيم الذي يمهل ولا يهمل .
ولقد من الله عليكم معاشر المسلمين بصلاة عظيمة في هذا الشهر العظيم ، صلاة لم
تعهد ولم تعرف إلا في شهر رمضان المبارك ، إنها صلاة التراويح ، وهي سنة مؤكدة
سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى في المسجد ـ صلاة التراويح ـ فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى
الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبح قال : رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من
الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان " ( متفق عليه ) ،
فصلاة التراويح سنة مؤكدة مجمع عليها بين علماء المسلمين ، لا ينبغي للمسلم
الصادق تركها ، ويكون أداؤها في بيوت الله مع جماعة المسلمين لما في ذلك من
الأجر العظيم ، والخير العميم ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قام مع الإمام
حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة " وصلاة التراويح في جماعة من فعل النبي صلى
الله عليه وسلم ، وفعل أصحابه رضوان الله عليهم ، وفعل السلف والخلف من أمة
الإسلام ، فلا ينبغي للمسلم ترك هذه السنة العظيمة التي أجمع عليها أهل هذا
الدين العظيم .
وليس لصلاة التراويح عدد معين من الركعات فللإمام أن يصلي ما شاء من الركعات ،
وأفضل ذلك الاقتصار على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة ، وعلى الجميع أن يخلصوا
النية وأن يصبروا على أداء هذه العبادة العظيمة محتسبين في ذلك عظيم الأجر ،
وجزيل الثواب عند الله تعالى فما هي إلا أياماً معدودة ويودع الجميع هذا الشهر
الكريم داعين الله تعالى أن يتقبله منهم وسائر أعمالهم ، فأروا الله من أنفسكم
خيراً ، وجاهدوا أنفسكم واصبروا على طاعة ربكم ومليككم جلت قدرته وتقدست أسماؤه
.
وعلى الأئمة أن يتقوا الله تعالى في هذه الصلاة ، فلا ينقرونها نقر الغراب ،
ولا يختلسونها اختلاس الشيطان ، بل الواجب عليهم أن يطمئنوا فيها وأن يخشعوا في
أدائها ، ويجب عليهم أن يتوانوا فيها ليدركهم من خلفهم ، ولا يكن هم أحدهم جلب
الناس وحب الشهرة وذياع الصيت على حساب ضياع الواجب في هذه الصلاة فضلاً عن
الركن فيها ، وعلى المأموم إن وجد من إمامه سرعة ونقراً للصلاة أن يناصحه في
ذلك الأمر فإن استجاب فالحمد لله وكفى ، وإن عاند رفع أمره إلى الجهات المختصة
، ولا بد أن تترك الصلاة خلفه حتى يعود إلى رشده ، ويراجع دينه ، ويتقي الله
أثناء الوقوف بين يديه ، فلا يهد الصلاة هداً ، ولا يكن همه آخر الصلاة .
عباد الله - لقد أضلكم شهر الجود والخير والصدقة والإنفاق ، فلكم في نبيكم صلى
الله عليه وسلم خير المثل ، وأحسن القدوة ، وخير الأسوة ، فلقد كان أجود بالخير
من الريح المرسلة ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، فهاهو رمضان يطل عليكم بعد
غيبة عام كامل ، ووالله لا يدري الإنسان هل يدركه كله أم يتركه كله ، فأروا
الله من أنفسكم خيراً ، فالصدقة فيه مضاعفة ، والإنفاق فيه هو يخلفه ، وإياكم
والشح والبخل ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، فالبخيل بعيد عن الله ، بعيد عن الجنة
، قرين الشيطان ، وقريب من النار ، فعلى المسلم أن يتعاهد إخوانه الفقراء
والمحتاجين والمنكسرين ، والأرامل والأيتام والمعوزين ، وأن يسخر أمواله لخدمة
دينه العظيم ، محتسباً بذلك الأجر عند من لا يضيع أجر المحسنين ، فها أنتم
تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، فيا أهل الكرم والجود ، أنفقوا في شهر الخير
والجود ، ووالله إن الواحد منا لينفق أموالاً طائلة ،في أكل وشرب وكماليات
وشكليات لا تعود عليه بالنفع ، بل قد يكون ضررها عليه واضحاً جلياً ، فلا أقل
من أن يقدم الإنسان لنفسه ما ينفعه عند ربه ويكون في ظل تلك الصدقة والنفقة يوم
لا ظل إلا ظله سبحانه ، فكونوا قدوة لمن خلفكم ، قال تعالى : " هاأنتم تدعون
لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني
وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم "
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذه
البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا
وولاة أمورنا ، واجعلنا ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم
الراحمين ، اللهم سلم لنا شهر رمضان ، وسلمنا لشهر رمضان ، اللهم اجعلنا فيه من
الصائمين ، القائمين ، الذين يرجون رحمتك ويخافون عذابك ، اللهم أعنا فيه على
الصيام والقيام على الوجه الذي يرضيك عنا ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً
فأرسل السماء علينا مدراراً ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، الله أغثنا ، اللهم
أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . سبحان ربك رب العزة عما
يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى
عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
ص . ب : 10002
055372906