• شمعة على الطريق .
• المولد والنشأة .
• اتجاهات الدعوة .
• متاعب الدعوة .
• مع المسلمين خارج الجزيرة .
• الهجوم على الدعوة .
• آراء المفكرين في دعوة الشيخ .
• وداعاً إمام الموحدين .
شمعة على الطريق
مرَّ المسلمون في القرن الثامن عشر بفترات ظلام وجهل ، جعلت من
دينهم عرضة للبدع ، وطريق الضلال ؛ التي دسها المفسدون بين الناس تحت شعار
الدين ، فكانت هذه الطريق طريق البدعة والضلالة ، مسلكاً مهلكاً لكل من اتبعه .
. .
ولا بد من ضوء في هذا الظلام . . . لا بد من شمعة تنير الطريق ، ذلك طريق الذي
يدعو إلى صراط مستقيم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وكان الإمام . . إمام الموحدين . . حامل كلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله
. . كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الشمعة التي تضئ الطريق في طريق الضلالات
والبدع ، فاستبدلها الرجل خيراً ودعوة إلى الحق ، فحدَّث الرجل بقلمه كل من له
قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .
كاتب دعاةَ الإسلام في كل موضع ومكان . . . كاتبهم لدعوة الناس حكاماً ومحكومين
لتصحيح المسيرة . . . مسيرة العقيدة ؛ لتصويب أفكار الناس ، ونفض غبار الجهل من
على رؤوسهم .
كان الرجل بعيداً كل البعد عن بداية النهضة والعلم في أوربا ، ولكنه كأنما أحس
أن البدع قد دخلت عقول المسلمين ، فأغفلتهم عن سلطان العقل وبأسه ودعوة قومهم
إلى تغليب سلطان العقل والدين ، فرفع شعار التوحيد ، مصحوباً بضرورة العمل
بكتاب الله وسنة رسوله .
لم ييأس الرجل ، ولم يكلّ . . ما تقاعس أبداً في سبيل محاربة البدع ، والدعوة
الصادقة للجهاد . . جهاد النفس . . والجهاد في سبيل الله .
لقد أشعل شمعته ، وانطلق في طريق وعرٍ ، زاد في وعورته جهل القوم ، وتكالب
الأعداء حباً في السلطة والتسلط .
سنوات قلائل من الجهد والعمل ، هي جهد الرجل ، وكان المحصولُ وافراً طيباً . .
. إنها الشريعة الإسلامية وتطبيقها في شبه جزيرة العرب .
لقد توحدت الجزيرة على توحيد الله عز وجل ، وأيَّدت دعوة الإمام تأييداً مقنعاً
رائعاً ، فلقد سُلطَ الضوء ، وهربت الخفافيش من جماعة إبليس إلى الظلام .
لقد أضاء الرجل شمعة في ظلام دامس .
ولم تكن الشمعة بعمل سهل ، ولم يتلألأ ضوؤها في الجزيرة بيسر وسهولة ، وإنما
الذي جعل لنورها مذاقاً رائعاً هو ظلام البدع الحالك ، وجهل القوم بدينهم . . .
فلنوقد الشمعة على أول الطريق .
المولد والنشأة
في مدينة العينية من نجد بجزيرة العرب ، وفي العام الخامس عشر بعد
المئة والألف ولد محمد بن عبد الوهاب ، في بيت مملوء بالصلاح والتقوى ، تتحرك
في أرجائه آيات التقوى ، واستغفار الأوابين .
في منزل الشيخ عبد الوهاب بن سليمان الوهيبي التميمي ، قاضي العينية ، جاء
المولود بشرى لأهله وذويه .
نشأ الإمام في كنف العلم والقرآن في مدينة العينية ، وكان أبوه خير معين له في
درب الثقافة والتعليم مع مطلع حياته ، فحفظ القرآن كعادة القوم في ذلك الزمان
الذي عاشوه كأحكام وتشريع ، ولم يعيشوه بعيداً عن جو تشريعه وحدوده . .
تعلم محمد بن عبد الوهاب في مسقط رأسه " العينية " على أيدي أئمة المسلمين من
الحنابلة ، ففي كُتَّاب هذه القرية حفظ القرآن قبل حلول السنة العاشرة من عمره
. . . أيّ ذهن هذا الذي يحفظ أشرف كتاب في عمر العاشرة ؟! إنه لدليل ذكاء حاد .
وتفقّه الرجل حتى روى أخوه سليمان قائلاً في ذكائه :
" كان أبي عبد الوهاب يتعجب من ذكاء أخي محمد ، فقد تعلم والدي منه ، واستفاد
من شدة اطلاعه ، ونفاذ بصيرته ، فراح يقول : لقد استفدت منه كثيراً " .
كان الحج كفريضة وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول عمل يؤديه محمد ابن
عبد الوهاب في شبابه ، وتعلم على أيدي علماء الحرمين .
ولقد كان لعدد من العلماء السلفيين دور في تشكيل وبناء فكر الشيخ محمد بن عبد
الوهاب ، ومنهم الشيخ محمد المجموعي ، وبعض علماء العراق الآخرين ، وقد هاجم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما رآه من المعاصي هناك ، وعاد غاضباً .
ومن علماء الإحساء كان للشيخ ابن عبد اللطيف ، وهو أحد علماء الإحساء الحنابلة
، دور في بناء فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الديني .
وقد تدارس الشيخ كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم ؛ مما كان له الأثر في
انطلاق فكره ، وحرية آرائه ، واجتهاده العظيم .
نلاحظ من كل ما سبق أن الشيخ لم يقتصر في علمه على دائرة ضيقة حوله تمثلت في
بيئة علم ودين ، ولكن الشيخ أخذ العلم في رحلاته من علماء لهم اليد الطولى ،
فالتقى بهم في المدينة المنورة والإحساء والبصرة وغيرها من البلاد التي كانت في
زمانه بمثابة رحلات شاسعة ، شاقة السفر .
ولذلك فلقد كانت نشأة الشيخ لا تحضّ على بدعة ، ولا على ضلالة ، وإنما الصدق كل
الصدق وإخلاص اللسان والقلب لكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله .
اتجاهات الدعوة
اتجهت دعوة الشيخ إلى تخليص المسلمين من البدع والخرافات مثل
الدعاء عند القبور والقباب ، والأشجار والأحجار ، وتجريد الدين والعبادة وتوحيد
الله عز وجل ، وجعله خالصاً لله وحده ، ليس في ذلك وساطة من أحد .
وقد كان كتاب " التوحيد " للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أحد مؤلفاته التي ساق فيه
الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
لقد كان كتابه " التوحيد " وغيره من مؤلفاته بداية نضال لمصلح كبير ، أراد الله
أن يكون من دعاة الإصلاح ، إصلاح العقيدة والدين ، وتخليص الناس من الجاهلية .
. . من عقيدة فاسدة ، وأطماع متسلطة ، تتسم بسيادة القوي على الضعيف ، وكأن
الناس والمجتمعات قد تحولوا إلى غابات تحكمها سباع . . .
وتضاءلت قوى الخير ، وجحافل الإيمان ، وحل محلّها الشر ، والتفكك الخلقي ؛
فاعتقد الناس من سيئات جاهليتهم بأن الجماد يشفي المرضى ، وأوشكت على أن تكون
وثنية مقنَّعة بالدين .
وتكاسل الناس ، وراحوا في غفلة يقولون : هذا ما وجدنا عليها آباءنا ، وإنا على
آثارهم مقتدون . . . سائرون لا نميز الخبيث من الطيب .
كان على الشيخ ودعوته الإصلاحية محاربة كل هذه البدع والضلالات، من خلال غزو
هذا الفكر الضال بفكر إصلاحي بنَّاء .
كان لفكر العلامة ابن تيمية دور عظيم في اتجاهات دعوة التوحيد للشيخ محمد بن
عبد الوهاب، فقد ردّد – رحمه الله – كثيراً اتجاهات ابن تيمية ، فقد قال في
إحدى رساله مردداً ذلك على الناس :
" اعلم – رحمك الله – أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل :
الأولى : العلم ، وهو معرفة الله ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة "
.
وهناك انعكس المعنى السابق على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مؤلفاته التي
امتلأت بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة ، وبعض الاجتهادات من الفروع لأحمد
بن حنبل .
" الثانية : العمل به " أي : بما تعلمنا من ديننا وأدائه المستقيم .
" الثالثة : الدعوة إليه " .
" الرابعة : الصبر على الأذى فيه " .
إن هذه الاتجاهات الأربع السابقة ، دعوة دينية خالصة ، لم يقصد بها مذهباً
جديداً ، أو " إيديولوجية " غريبة على الإسلام ، وإنما هي رسالة دينية خالصة ،
تتسم بالحسم والحزم ، وتنقية الطريق الإسلامي من أشواك البدع والضلالات .
وقد تصدى للدعوة في مطلعها أناس لهم مطامع دنيوية ، يحكمهم الحسد والتسلط ،
حباً في سياسة الناس ، وتوجيههم .
اشتد عداء خصومه لدعوته ، وأطلقوا اسم " الوهابية " أو " الوهابيون" على دعوته
، وردّده الأوربيون ، ثم تداولته ألسنة الناس .
راح الشيخ يقول : إن التوحيد هو عماد الإسلام الأكبر ، وقد ضاع في زماننا هذا ،
وتداخل به الفكر الفاسد . فهو – أي : التوحيد – الاعتقاد بأن الله عز وجل هو
خالق الدنيا ، وباسط شأنه عليها ، ورازق عباده ، وواضع قوانينه التي تسيِّرها ،
والمشرع لها . . . ليس لمخلوق شَرِكة في ذلك ، فهو واحد أحد ، فرد صمد ، ليس في
حاجة لمعين فهو المستعان . . . هو حاكم هذا الكون بما أنزل من تشريع وديانات ،
وكتب ورسل ، وهو النافع ، بيده النفع والضر لا شريك له . . . وإن كلمة لا إله
إلا الله : تنزه الخالق عز وجل عن وجود سلطة تسير الدنيا غيره هو عز وجل ،
الخالق البارئ المصور .
من ذلك كان قوله عز وجل بالتوجيه المباشر : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [آال عمران : 64] .
لم يرفع الشيخ هذا الشعار من فراغ ، وإنما " التوحيد المطلق " النقي من كل
شائبة هو في نص الكتابة لا اجتهاد فيه . . . إن الله عز وجل يستجيب لنا دون
وسيط . . . إن الاستجابة مقرونة بصلاحنا ، وإخلاص نية توحيدنا .
كان في الوقت ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للتوحيد . . . كان في ذلك
الوقت يحكم مصر محمد علي باشا ، التركي الأصل ، وكان هذا الرجل يتجه في إصلاحه
وحكمه إلى الحياة المادية، في حين أن الشيخ ابن عبد الوهاب اتجه إلى العقيدة
وحدها ، فأساس فكره هو العقيدة والروح ، وهما الجوهر الحقيقي إن صلحا صلح كل شئ
، وإن فسدا فسد كل شئ .
وبذلك كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رئيس دين في نجد . . . دعوته خالصة لله
وحده عز وجل .
وكان محمد علي رئيس حكم وسلطان في مصر ، تحكمه الحياة الدنيا ، وسلطان الحكم
والتحكم ، والجلوس على قمة السلطة في الحكم .
ولقد استعانت دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب بأسانيد قوية أعطتها جانباً عظيماً من
المناعة والقوة الفكرية ، مما ساهم في انتشارها وتفوّقها على امتداد أراضي "
الجزيرة " بل وخارج نطاق جزيرة العرب .
فالتاريخ يروي " أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بَنِيّة على اللات – أي :
قبة ، أو كعبة – فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها ، فطلبوا منه أن يترك
هدمها شهراً حتى لا يصدموا نساءهم وصبيانهم ، حتى يُدخلوهم في دين الله أفواجاً
، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض ذلك ، وأنكره عليهم ، وأرسل معهم
المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهم بهدمها "[زعماء الإصلاح ، الأستاذ
أحمد أمين ص (16) ] .
وفي عهد عمر بن الخطاب رأي أن بعض الناس أخذ يرجع إلى عاداته الجاهلية القديمة
، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة
الرضوان ، فيفضلون إقامة الصلاة تحتها ، والاستراحة عندها على سبيل التبرك ،
فأمر عمر بقطعها ، فقُطِعَتْ .
قال صلى الله عليه وسلم : " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، أَلا
فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " .
بدأت الدعوة في لين ورفق من الشيخ بين أتباعه ومريديه وفي بلدته العينية ، إلا
أن الشيخ لقيَ معارضة شديدة ، وكَثُرَ أعداء فكرِهِ ممن أخذتهم العاطفة ،
وأثارهم هدم شواخص القبور .
ولكن الشيخ – رحمه الله – لم يهدأ ، بل استقرت العقيدة في قلبه ، ولن يمنعه من
نشرها جور سلطان ، أو خلاف دنيوي ، مهما ابتغى من قصد أو نيّة .
متاعب الدعوة
اُضْطُهِدَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العينية ، واضطره
ضغط أعدائه ومخالفيه أن يخرج منها إلى الدرعية ، مقر آل سعود . . . وهناك التقى
بأمير الدرعية الشيخ محمد بن سعود ، فاستقبل الشيخ على الرحب والسعة ، وعرض
الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته على الأمير محمد بن سعود فقبلها ، وتعاهد
الشيخان على حمل الدعوة على عاتقهم والدفاع عنها ، والدعوة للدين الصحيح ،
ومحاربة البدع ، ونشر كل ذلك في جميع أرجاء جزيرة العرب .
وكان أخطر شئ في هذا الاتفاق الذي ينم عن صدقه وجدّه . . . كان أخطر الأشياء هو
الاتفاق على نشر الدعوة باللسان لمن يقبلها ، وبالسيف لمن يرفض دعوتهم .
واجتمع السيف واللسان في وقت واحد ، ورفع في ذلك شعار من الكتاب والسنة ، فيقول
عز وجل ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن
ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [النحل : 125] .
ودخلت الدعوة في إطار التنفيذ ، ونجحت الدعوة شيئاً فشيئاً ، ودخل الناس في
دعوة التوحيد ، ودخل أتباع الشيخ مكة ، وأرادوا أن يخلصوا الدين من البدع على
الرغم مما في ذلك من خدش لمشاعر المسلمين وعاطفتهم .
هدم أتباع الشيخ كثيراً من القباب الأثرية في مكة ، كقبة السيدة خديجة ، وقبة
كانت على المكان الذي وُلِدَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبة مولد أبي بكر
وعلي .
وفي المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة الموضوعة على قبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ممّا أثار غضب كثير من الناس ، وبُرّر غضبهم رغبة من هؤلاء الناس في
الحفاظ على معالم التاريخ ، ولأن قبر الرسول رمز للعاطفة الإسلامية ، وقوة دولة
المسلمين .
ولم يهتم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بذلك ، بل اهتموا بعقيدتهم وإزالة
البدع ، والرجوع إلى الأصول في دينهم .
وكان الاهتمام الأكبر بأخلاق الناس وعقيدتهم ، والشروع في تقويتها ، وترسيخها ،
وإزالة الرواسب منها .
وفي وقت سيادة الدعوة بقيادة الوهابيين قلّت المشاكل في مجتمع الجزيرة ،
فانعدمت السرقات ، وحروب الفجور وشرب الخمور .
وأصبحت الطرق أكثر أمناً وأماناً ، بعد أن كانت مصدر متاعب للناس ، وحركتهم ،
حيث السطو والسرقات قبل انتشار الوهابيين ودعوتهم السمحة ، وأصبحت منطقة
الجزيرة بمثابة منطقة جهاد بالنسبة للوهابيين ؛ مما أثار انتباه العلم الخارجي
لهذه الدعوة الإسلامية الخطيرة الجديدة في ذلك الوقت .
مع المسلمين خارج الجزيرة
سُمِعَ صوت الدعوة للتوحيد بقيادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ،
وصاحبه الأمير محمد بن سعود ، ودوى الصوت عالياً خارج الجزيرة العربية والحجاز
.
وكان مؤتمر المسلمين السنوي في الحج ميداناً عظيماً ، ومتابعة لعرض الدعوة على
قيادات الحجاج ؛ لإقناعهم بالدعوة ، وعرضها عليهم ، فإذا قبلوها ، وفهموا
مغزاها حق الفهم عادوا إلى بلادهم ، ونشروها في أوساط بلادهم ومجتمعاتهم ، وهنا
كان للحج دور عظيم في لقاء المفكرين الإسلاميين بعضهم ببعض .
فعندما حضر الإمام السنوسي إلى مكة للحج ، والتقى بالوهابيين ، وسمع منهم ،
واقتنع بفكرهم عاد على المغرب العربي ، وأسس دعوته ، وطريقته الخاصة على أساس
فكر الوهابيين ، وعلى منهجهم ، وكان هذا في أقصى مغرب العالم الإسلامي .
ومن مشرقه في الهند ظهر زعيم وهابي هو " السيد أحمد " فقد جاء إلى مكة حاجاً في
عام ( 1822م ) وآمن بالمذهب الوهابي ، ونشر الدعوة في منطقة البنجاب في شمال
الهند ، وأنشأ بها ما يشابه الدولة الإسلامية الوهابية ، وهدّد كل مناطق شمال
الهند .
والجالية الهندية الضخمة الإسلامية هي نتاج لدعوة هذا الرجل ، والتي بدأت تزداد
وتكبر حتى قدر عددهم بعشرات الملايين من المسلمين .
شنّ السيد أحمد في شمال الهند حرباً عنيفة ضد البدع والخرافات ، وهاجم الوعاظ
ورجال الدين ممن ينقادون إلى البدع والخرافات ، ويدعون إليها ، بل انه أعلن
الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ، ويرفع شعار التوحيد ، ويدعو لذلك دعوة دينية
خالصة كإخلاص الموحدين .
وكان الإنجليز في ذلك الوقت له بالمرصاد هو وأتباعه ، وبذلوا جهداً شاقاً في
السيطرة عليهم ، وإخضاعهم لها .
وواجه الوهابيون من أتباع السيد احمد في شمال الهند هجوماً عنيفاً من المستعمر
الإنجليزي ، إلا أن العقيدة راسخة في القلوب ، وبفكر راسخ في العقول .
ولا تزال العقيدة والشعائر تقام في الهند ، وجاء المفكرون من رجال الدين من
الهند ، وأسسوا جماعة لها شأن عظيم ، وأصبح لهذه الجماعة مفكرون أثروا الفكر
الإسلامي في القرن العشرين منهم الأستاذ الكبير " أبو الأعلى المودودي " [1903
– 1979 م ، 1321 – 1399 هجرية] وأتباعه ، ولا يزالون يحملون أمانة الدعوة
ونشرها في شبة الجزيرة الهندية .
وفي أقصى الجنوب في اليمن تلاقت أفكار الإمام الشوكاني المولود في سنة ( 1172 )
هجرية مع أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والذي تأثر الرجل بمدرسة " ابن
تيمية " العظيمة .
وآثر الشوكاني الاجتهاد على التقليد ، وهاجم بناء القبور والشواخص عليها ،
وتزيينها ، وتحسينها ، وقال : إنها مفاسد يبكي لها الإسلام .
الهجوم على الدعوة
منذ أن جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدرعية ، عاصمة السعوديين ،
أتباع الإمام محمد بن سعود في عام ( 1158 ) هجرية ( 1747م ) ، وبسطوا نفوذهم
على مكة والمدينة . . . منذ ذلك الحين شعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها ،
بل ويجعل منطقة الحجاز خارج نطاق سلطانها ونفوذها .
وتكمن خطورة ذلك في أن مكة والمدينة موطن الحرمين الشريفين ، وموطن الرسول صلى
الله عليه وسلم ، حيث المركز الإسلامي الممتاز للخليفة الجالس في الآستانة ،
عاصمة الدولة الإسلامية ، ورمز الخلافة في ذلك الوقت . . . وإذا فقدت الدولة
العثمانية هذه المنطقة – منطقة الحجاز – فقدت مركزها كله ، وروح سلطانها
ونفوذها .
ولذلك أرسل السلطان العثماني " السلطان محمود " إلى محمد علي باشا حاكم مصر
التركي الأصل ، وكان في مركز قوي في ذلك الوقت : أن يرسل جيوشه لمقاتلة وتأديب
الوهابيين الخارجين عن طاعة السلطان .
وبدأت تبث دعاية مسمومة ضد الإمام ودعوته ، والنيل منها وتكفير أصحابها ، وحمل
رجال الفكر الإسلامي والكتاب في ذلك الوقت على الدعوة ، فخطبوا ، وكتبوا فيها
كثيراً ، وكان ذلك بمثابة لفت النظار للدعوة الوهابية في أنحاء كثيرة من العلم
الإسلامي .
وأعد محمد علي باشا حملة قوية بقيادة ابنه الأمير طوسون ، وسار بحملته ، إلا أن
الوهابيين انتصروا على الحملة ، وأعادوها .
وأحس السلطان العثماني بالخوف من ذلك ، نظراً لأنه سبق حملات محمد علي حملات من
الوالي في العراق ، إلا أنها فشلت جميعها .
ولما فشلت حملة الأمير طوسون أعد محمد علي باشا العدة ، وبقوة كبيرة ، وترأس
بنفسه الحملة ، وحارب الوهابيين بكل ما يملك من سلاح حديث ، وانتصر عليهم ،
وأعاد سيطرته على مكة والمدينة ، ومنطقة الحجاز .
ثم أكمل ابنه إبراهيم باشا هذا العمل بقيامه بالهجوم على الدعية في سبتمبر (
1818م ) وحطم أغلب مبانيها ، ونكل بمن لحق من الوهابيين ، وألقى إبراهيم باشا
القبض على الأمير عبد الله بن سعود أمير الدرعية ، وأرسله أسيراً إلى الآستانة
ليلقى حتفه هناك .
ولم تكن هذه الحملات العسكرية ونتائجها سبباً في القضاء على الدعوة الوهابية ،
بل كانت أساساً متيناً لانتشار هذا الفكر والثناء عليه ، فهو مفهوم التوحيد
الخالص ، وقد بقيت الدعوة كامنة في النفوس يتدارسها علماء نجد والحجاز وغيرهم .
أراء المفكرين في دعوة الشيخ
لا شك في أن الدعوة الوهابية كان لها أنصارها، كما كان لها خصومها
، الذين اتهموا الإمام محمد بن عبد الوهاب بالغلو في دعوته غلواً خرج بها عما
عرف عن الإسلام من سماحة ويسر .
هكذا كان زعمهم ، إلا أن علماء الإسلام عقدوا مجالس لمناقشة الدعوة ، وقد أحدثت
الحركة وفكرها حواراً فكرياً ما زال صداه يسمع في مجالس العلماء ، وقاعات الدرس
في الجامعات ، والمدارس الإسلامية ، مما أحدث نوعاً من الحوار الهائل ، واليقظة
الفكرية في أرجاء العلم الإسلامي .
وقد أثبتت الدعوة الوهابية قدرتها على أن تكون مسرحاً فكرياً ضرورياً لكل مسلم
، وكانت الدعوة مصدراً ومنبعاً استقت منه حركات الإصلاح الحديث ، وانتهى حكم
إبراهيم باشا في الجزيرة العربية عام ( 1840م ) .
وقامت الدولة السعودية الثانية مؤكدة تمسكها بالدعوة الوهابية ونشرها ؛ ولما
أسس عبد العزيز آل سعود دولته في أول القرن الحالي كانت الدعوة الوهابية سلاحه
الفكري ، والوهابيون أنفسهم أشد أنصاره ، وأقوامهم تحمساً له .
وقد كان للمفكرين آراء هامة في الحركة الوهابية ، نبدؤها بمفكري الإسلام ، وعلى
رأسهم الإمام محمد عبده ، فقد قال ما معناه :
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاح ، يتحمل المسؤولية من وقف أمام
هذه الدعوة ؛ لمنع نشرها وانتشارها بين عامة المسلمين .
وقد أيد إمام صنعاء الإمام الصنعاني دعوة الشيخ شعراً فقال :
يذكرني مسراك نجداً وأهله *** لقد زادني مسراك وجداً على
وجد
قفي واسألي عن عالم حلّ سوحها *** به يهتدي من ضلَّ عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد *** فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
وقال الدكتور طه حسين :
" لا يستطيع الباحث عن الحياة في جزيرة العرب أن يهمل حركة عنيفة نشأت بها
أثناء القرن الثامن عشر الميلادي ، تلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب
، وأخطرته أنه يهتم بأمرها ، وأحدثت فيها آثاراً خطيرة هان شأنها بعض الشئ ،
ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام ، وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها ، بل في
علاقتها بالأمم الأوربية ؛ هذه الحركة هي الحركة الوهابية " .
ولم تمر حركة الشيخ مرور الكرام على العلماء والمفكرين ، بل لقد تناولها الكثير
منهم ، فأثنى عباس محمود العقاد الكاتب والمفكر الإسلامي على دعوة الشيخ ،
وأشار كثيراً إلى مضمون كتابه " التوحيد " .
وقال عنه الأستاذ أحمد أمين :
" أهم مسألة صقلت ذهن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دروسه ورحلاته مسألة التوحيد
، التي هي عماد الإسلام ، والتي تبلورت في لا إله إلا الله ، والتي تميز
الإسلام بها عما عداه ، والتي دعا إليها " محمد صلى الله عليه وسلم " أصدق دعوة
وأجرأها ، فلا أصنام ولا أوثان ن ولا عبادة آباء وأجداد ولا أحبار ولا نحو ذلك
، ومن أجل هذا سمّى هو وأتباعه أنفسهم " بالموحِّدين " أما اسم الوهابية فهو
اسم أطلقه عليه خصومه " .
مما سبق اطَّلعنا على أراء مفكرين عرب ومسلمين ، ولكن ماذا قال علماء الغرب عن
دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب !
قال النمسوي [جول صهيري] في كتابه عن العقيدة والشريعة :
"وإذا أردنا أن بحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أن مما يستدعي
انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني ما يلي :
يجب على من ينصب نفسه للحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً
للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ،
فغاية الوهابيين هي إعادة الإسلام كما كان " .
وقال مستشرق ألماني :
" كان هذا المصلح يتأسّى بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويحذو حذوه ، وينحو
نحوه ، في التفكير .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على إلهاب نار الحماسة في قلوب أصحابه ،
وعلى استثمار محبتهم العادية للحرب في سبيل قضيته ، أما اعتقاد المسلمين فلا
يماثل الرسول صلى الله عليه وسلم في شئ " .
وبعد كل هذا ؛ وفوق كل شئ فإن الإمام الشيخ – رحمه الله – أراد جوهر العبادة .
. . إخلاصاً لله وحده . . . عقيدة صافية ، لا يشوبها جهل البدع .
وقد ورد نفي هذه البدع في آيات عديدة توضح بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم
فيقول عز وجل ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) [الإسراء : 93] .
وإذا كان السيد الرسول صلى الله عليه وسلم قد تجرد من مقولات البدع ، وجرد
دعوته مما يحمل هذا المعنى ، فلقد كانت توجيهات الوحي له ، وتوجيهه صلى الله
عليه وسلم لصحابته كما أسلفنا في حاث هدم قبة عند أهل الطائف ، فإن القرآن جاء
بالمضمون في سياق الآيات الكريمة فيقول عز وجل : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا
ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن
أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) [الأعراف : 188] .
وإذا كانت هذه هي مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه ، فمن من
أصحاب الأضرحة والمقامات يملك لنا نفعاً أو ضراً لغيرنا ؟!
إننا نقوى بأعمالنا ، إن صلحت كانت خير شفيع لنا ، وإن فسدت فلا مبدل لحكم الله
. . . هذا الجوهر في ديننا . . إذ لم يساوِ بين الطيب والخبيث ، وبين الزبد وما
ينفع الناس .
إن دعوة السماء لنا بالعمل الصالح ليس فيها مردود إلا صلاح حالنا نحن . . . إن
الحرب التي شنها الإمام محمد بن عبد الوهاب على البدع ، والضلالات ، ومشاهد
القبور لم يقصد بها شيئاً أو موقفاً شخصياً من أحد ، وإنما أراد الإصلاح في
جوهر ديننا ، فكيف يشفع صاحب ضريح لشارب خمر ، أو آكل ربا ، أو أي إنسان لا
يقيم حدود الله في بيته وقومه ؟!
إن ديننا ليس توابيت محنطة ، أو أحجاراً كريمة نحجّ إليها كلما أحسسنا بالملل
والفراغ ؛ ولكنه بناء خيِّر ، كل لبنهّ فيه دستور لسلوك من سلوكيات حياتنا ،
تلك هي الخلاصة .
والشيخ لم يحارب شخصاً ولا مذهباً ، ولا أراد أن يبني لنفسه مجداً وراء فكره ،
وإنما كلمة قالها ، ودافع عنها حتى آخر يوم حياته .
وداعاً إمام الموحدين
مات الرجل – رحمه الله – وظن أعداؤه أن العقيدة عادت لتهتز بعده ،
ولكن ما تزال آراء الشيخ تهدي الضالين ، وتقنع أدعياء الفلسفة والتصوف .
لقد عاشت أهدافه الست في قلوب أتباعه ، وممن اهتدوا بها
من المسلمين في قلوبهم ، وأهدافه هي :
1 – إنكار الشرك بأنواعه صغيره وكبيره .
2 – إنكار جميع ما يخالف التوحيد وخلوصه ، فينكر
البدع ، وتعظيم القبور .
3 - ينكر التصوف الذي يخالف الإسلام .
4 – يحارب الرشوة بأنواعها ، أو التلاعب في حكم
الله سواء بوصية أو غيرها .
5 – يأمر بالمعروف .
6 – ينهي عن المنكر ، ويحاربه بالسيف والقلم.
هذه هي خلاصة الدعوة ، دعوة إمام الموحدين .
عاش الرجل قرابة التسعين عاماً ، من عام (1703م) حتى عام (1791م) ، ومرَّ على
وفاته قرنان من الزمان ، ولكن لن تموت دعوته .
وقال الشاعر في رثائه :
ففاضت عيون واستهلت مدامع *** يخالطها مزج من الدم يهمع
بكاه ذوو الحاجات يوم فراقه *** وأهل الهدى والحق والدين أجمع
وداعاً إمام الموحِّدين . . وداعاً شيخ المصلحين .
المصدر: سلسلة أعلام العلماء (4/108 - 131) تأليف عبد
المنعم الهاشمي
|