قالوا : إن أرجى آية قوله تعالى في سورة الزمر الآية 53 " قل يا عبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم : لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب
جميعاً ، إنه هو الغفور الرحيم " واستدلوا على ذلك من الآية نفسها بما يلي
:
1-" قل ": بما
بعدها من الرحمة والتلطف تفيد البشرى من الله تعالى .
2- " يا عبادي "
نداء يدل على التحبب فـ " العباد " غير " العبيد " وقد وردت العباد- في
القرآن - للتكريم ، والعبيد للتهديد . فهي إبتداء أمن وأمان وداعية للغفران
3- " الذين أسرفوا على
أنفسهم " ولو قال : أحسنوا لأنفسهم قلنا هم يستحقون اللطف والبشرى
لما قدّموا من عبادة لربهم وتفان في الإخلاص له سبحانه . لكن الخطاب لمن
أساء وأخطأ وازداد عصياناً ، وانغمس في الفواحش والمفاسد . ثم حين انتبهوا
لما قدّموا تحسّروا على ما فاتهم ، وأحسوا أن زمن التوبة تجاوزهم فأصابهم
الغم والهم ، ويئسوا من رحمة الله ، وظنوا أن مأواهم النار وغضب الله لا
محالة . وأن ما مضى من عظيم ذنوبهم لا يؤهلهم للتوبة والإنابة . فازدادوا
غماً على غم وهما على هم . وربما زين الشيطان لهم – ما داموا قد سقطوا ولا
نجاء لهم – أن يسرفوا في المعاصي وأن يجترئوا عليها أكثر مما اجترءوا .
وعلى هذا يطمئن الشيطان أن مصيرهم ارتبط به، وأنهم مثله من أهل النار
خالدين فيها .
4- " لا تقنطوا من
رحمة الله " فتنتعش نفوسهم ، ويحيا الأمل فيها ، وينتبهون إلى أن
القطار لم يفتهم ما لم يغرغروا . فيتوبون إلى الله ويستغفرونه ، ويسألونه
العفو والمغفرة عما مضى من ذنوبهم ، وأن يعينهم على استدراك ما فات من عظيم
أخطائهم ... ولكنها أمثال الجبال فهل يتجاوز الله تعالى عن كل ذلك ؟!
فيجيبهم غفار الذنوب وستار العيوب والمنعم المتفضل سبحانه :
5- " إن الله يغفر
الذنوب جميعاً " يغفرها كلها صغيرها وكبيرها ، خطيرها وحقيرها ،
دِقَّها وجليلها حين يقبل المرء عليه معترفاً بتقصيره ، مقراً بجريرته ،
عازماً على التوبة ، نادماً على مافرّط . فكَرَمُ الجليل جليل ، وغفران
الكبير كبير ، وعفو العظيم عظيم . ولكنهم كانوا في الغي سادرين ، وفي
الضلالة سائرين ! فيجيب الرب الكريم منبهاً عن صفتين من صفاته واسمين من
أسمائه يدلان على جميل نعمائه وحسن عطائه :
6- " إنه هو الغفور
الرحيم " فهو يغفر لأنه رحيم ، ويرحم لأنه غفور . ولا يسد خللَ
عباده وضعفَ حيلتهم ونقصَ خليقتهم إلا كمالُ صفاته وجليلُ معروفه .
هذا ما قاله العلماء وأحسِنْ بما قالوا . إلا أنني أجد آية سبقت أختها في
السورة نفسها – الزمر – الآية 35 أكثر رجاء – والله أعلم – يقول المولى
تعالى فيها :
" ليكفر الله عنهم أسوأ ما عملوا ، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون
"
وتصور معي – أخي الحبيب – أنني وإياك اجترحنا سيئات صغيرة وكبيرة ، وعملنا
حسنات كبيرة وصغيرة أيضاً . ونحن بشر نصيب ونخطئ ويقوى إيماننا ويضعف . وما
منا إلا مرّ بمثل هذا " كل ابن آدم خطّاء " ثم نتوب حين نعود إلى أنفسنا
وينجلي غشاء النسيان ووسوسة الشيطان فنحاسبها " إن الذين اتقوا إذا مسهم
طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " الأعراف 210 . فنحسن العمل خائفين
راجين ، راهبين راغبين . فماذ يفعل الإله العظيم سبحانه حين يرانا عليه
مقبلين ، وعن أخطائنا راغبين ؟ .. عد إلى الآية واقرأها متمعناً متيقنا بما
فيها ترَ الله تعالى - جلّ من كريم مفضال- يكرمُنا بخصلتين رائعتين رائعتين
:
الأولى : أنه يمسح الذنوب العظيمة الثقيلة ،
وكأنها لم تكن . فأين الذنوب الصغيرة ؟ " اللمم" إنه يمسحها من باب أولى ،
فإذا غفر الكبائرَ فانتهى أمرُها ، أتراه يحاسبنا على الصغائر؟ ! بل إنها
ممحُوّةٌ سلفاً قبل الموت بإذن الله ، بل في اللحظة والتو . لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " الصلوات الخمس . والجمعة إلى الجمعة . ورمضان إلى رمضان .
مكفرات ما بينهن . إذا اجتنب الكبائر "
الثانية : أنه سبحانه حين يجزينا الثواب -
وهناك حسنات صغيرة وأخرى كبيرة ، والعادة عند البشر أن لكل عمل ثواباً بما
يناسب العمل نفسه – يجعلها كلها بأجر أفضل الأعمال . نعم يجزينا أعمالنا
الحسنة بأفضل الثواب وخير الجزاء .
فما أعظم لقاء الله ! وما أكرم فضله وأعظم خيره !
اللهم إننا نحبك ، ونحب لقاءك ، ونرجو الخير في ذلك اليوم العظيم .. اللهم
اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم لقائك .