بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على عبدهِ ورسولهِ ،
نبيبنا محمد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين ، أما بعد :
فَلَقَد حَلَّ بالأُمَّةِ الإسلاميّة رَزيّة عَظيمة ، وفِتنَة عَمياء ،
أَقضَّت مَضاجِعَ الدُعاة الصالحين والمُجاهدين الصادقين ، وأفرَحَت أعداء
الأُمَّة مِن الكُفَّار والمُنافقين ، ألا وهي : ما حَلَّ بإخواننا
المُجاهدين في بلاد الشام مِن تَفَرُّق وتَحَزُّب تَحوَّلَ فيهِ الأمر مِن
حَربٍ بارِدةٍ بالبيانِ إلى حَربٍ ساخنة بالسنان ، والله غالِبٌ على أمرهِ
وهو العَليمُ الحَكيم { وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا
اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } ، نسأل الله
عزَّ وجَلَّ أن يرحمَ الأُمَّة ويكشف الغُمَّة ، ويجعل فيما أرادهُ الخيرَ
وحُسن العاقبة لعِبادهِ الصادقين المُتَّقين .
ولَقَد وقع في هذهِ الفِتنةِ مَن وقع ، فَمِنهم مَن شارَك فيها بِلسانهِ ،
ومِنهم بقَلَمِهِ ، وِمنهم بِسنانهِ :{
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، و
( إنَّ السَّعيدَ لمن جُنِّبَ الفتنَ ) [ أبو
داود 4263 ، وصححه الألباني ] ، ولَقَد حَذَّرَنا الله عَزَّ وَجلَّ في
كِتابهِ الكَريم مِن هذهِ الفِتَن ، فقالَ سٌبحانه :
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ
خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، وقالَ
سُبحانَه : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
كَما حذَّرنا مِن هذه الفِتَن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلَّم حيث قال :
( ستكونُ فِتَنٌ ، القاعِدُ فيها خيرٌ مِنَ القائِمِ
، والقائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي ، والماشي فيها خيرٌ من الساعي ، ومَنْ
يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ ، ومَنْ وجد مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا
فَلْيَعُذْ بِهِ ) [ البُخاري 3601 ، مسلم 2886 ] ، وعن أبي هُريرة
رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
والذي نفْسِي بيدِهِ لا تذهبُ الدُّنيا حتَّى يأتيَ على الناسِ يومٌ ، لا
يَدري القاتلُ فِيمَا قَتلَ ولا المقتولُ فيمَ قُتلَ ، فقيلَ : كيفَ يكونُ
ذلكَ ؟ قال : الهرْجُ ! القاتلُ والمقتولُ في النارِ ) [ مسلم 2908
] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ويل للعرب من شر قد اقترب ، أفلح من كف يده ! )
[ أبو داود 4249 ، وصححه الألباني ] ، والأحاديث في ذلك كثيرة .
أمَّا خَوف السَلَف مِن الفِتَن ، وهروبهم منها ، ومواقفهم منها ، فكثيرة
جدًا ، مِنها :
أنَّ عبدالله بن عُمَر رضي الله عنها قال : (
إِنَّمَا كَانَ مَثَلُنَا فِي الْفِتْنَةِ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا
يَسِيرُونَ عَلَى جَادَّةٍ يَعْرِفُونَهَا ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ
إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ وَظُلْمَةٌ ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَمِينًا
وَشِمَالا فَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكَنَا ذَلِكَ
حَتَّى جَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ عَنَّا ، فَأَبْصَرْنَا طَرِيقَنَا الأَوَّلَ
فَعَرَفْنَاهُ وَأَخَذْنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا هَؤُلاءِ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ
يَقْتَتِلُونَ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ، مَا
أُبَالِي أَنْ يَكُونَ لِي مَا يُفَتِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِنَعْلَيَّ
هَاتَيْنِ الْجَرْدَاوَيْنِ ) . [ سير أعلام النُبلاء : 3 / 237 ] .
وعن ابن سيرين قال : لَمَّا قيلَ لسعد بن أبي وَقَّاص رضي الله عنهُ : "
ألا تُقاتِل ؟ ، إنَّكَ مِن أهل الشُورى ، وأنتَ أحق بهذا الأمر مِن غيرك "
، قال : ( لا أُقاتِل ! حتى يأتوني بسيفٍ لهُ عَينان
ولِسان وشَفَتان ، يعرف المؤمن مِن الكافِر ، فَقَد جاهدتُ وأنا أعرِف
الجِهاد ! ) . [ مجمع الزوائد : 7 / 584 ] .
وقالَ علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ وهو يثني على موقف سعد بن أبي وقاص
وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما في اعتزالهما الفتنة ويغبطهما :
( .. للهِ منزِلٌ نزلَهُ سعْدُ بنُ مالِكٍ وعبدُ
اللهِ بنُ عمرَ واللهِ لئِنْ كان ذنبًا إنه لصغيرٌ مغفورٌ ولئن كان حسَنًا
إنه لعظيمٌ مشكورٌ ) . [ الطبراني : 1 / 106 ] وفي ضوءِ كلام ربنا
سٌبحانه ، وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومواقف سلفنا الصالح ،
أُوجِّه هذه الوصايا لأبنائي وإخواني المُسلمين ، ولا سيما الدُعاة منهم
والمجاهدين ، وذلك بعدَ أن انشرح صَدري لاعتزال جميع أطراف الفتنة ،
وعَقَدتُ العَزمَ إن شاء الله تعالى على إمساك اللسان ، وعَدم استقبال أي
طرح أو نقاش فيها ، فلم يبق من العمر فسحة في أن يضيع في القيل والقال ،
فلقد استحصدَ الزَرع ، ومالَت شمس العُمر للغروب ، ودخلتُ عشر السبعين ،
معترك المنايا ، فأرجو من الإخوان المُحبين أن يلتمسوا لي العُذر في عدم
التجاوب معهم في الحَديث عن هذه الفتنة حتى تنجلي ، وأرى حَقًّا عليَّ نَحو
نَفسي وإخواني أن أَتوجَّه إليهم وأمواج الفِتَن تتلاطم بالوصايا التالية :
الوَصيّة الأولى : أَمسِك عليكَ لِسانك .
عن عُقبة بن عامر رضي الله عنهُ قال : قلتُ : " يا رسولَ اللهِ ، ما
النَّجاةُ ؟ " ، قال : ( أمسِكْ عليكَ لسانَكَ ،
وليسعْكَ بيتُك ، وابكِ على خطيئتِكَ ) . [ حديث حسن الترمذي 2406 ،
وصححه الألباني ] .
هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجاة من الفتن ، ولا يَندَم
مَن أمَسَكَ لسانَهُ أيام الفِتَن ، وإذا كانَ لا بُد متكلّمًا فليكن
رائدهُ الإخلاص ، لا حَظَّ نفسه ، والحَذّر من الكَلام بلا علم ولا تثبّت ،
فما أكثرَ الكلام اليوم بلا عِلم ، بل بالظنون السيئة والافتراءات الكاذبة
وترديد كلام مَن يميل إليه ويحبه دونَ تثبّت وتوثق ، وليتحرَّ العَدل
والإنصاف مَعَ مَن يُحبُّهُ ومَن يَكرههُ ، قال الله عز وجل :
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْؤُولاً } ، وقالَ سُبحانه : { وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، ولأنَّ هذه
الضوابط عَزيزة ، وقليلٌ مَن ينضبط بها ، فلا سَلامَة ولا عَافية أفضَل مِن
إِمساك اللسان والقَلَم ، وقَد عَدَّ كثيرٌ من السَلَف فِتنَة اللسان في
أيام الفِتَن كفتنة السيف أو أشد ، وهذا حَق ؛ لأنَّ السيف إذا ضُرِبَ به
أحدٌ أَثَّر فيهِ وَحدَهُ ، وأما اللسان فيُمكِن أن تُضرَب بهِ ألف نسمة
بمُجرد كَلمة يٌتَفَوَّهُ بِها ! ، بل قَد عَدُّوا المَيل القَلبي مَع فئة
مِن المُسلمين ضِدَ فئة مِن الوقوع في الفِتَن .
الوَصية الثانية : التؤدة التؤدة ، والرفق الرفق .
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأشجُّ عبْدِالقيسِ :
( إن فيكَ خصلتينِ يحبهُما اللهُ : الحلمُ والأناةُ
) [ مسلم 17 ] ، ومَدَحَ صلى الله عليه وسلم التؤدَة والأناة بقوله
: ( التُّؤدةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلَّا في عملِ
الآخرةِ ) [ أبو داود 4810 ، وصححه الألباني ] ، وقال صلى الله عليه
وسلَّم : ( إنَّ الرِفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانهُ
، ولا يُنزَعُ مِن شيءٍ إلا شَانَهُ ) [ مسلم 2594 ] ، وإذا كَانَت
التؤدَة والحلم والرِفق مَحمودة في كل وقت ، فإنها في أيام الفِتَن تَكون
الحاجة إليها أشد ، وآثارها الحَميدة تَكون أكثر ، وقَد مَرَّ بِنا موقف
ابن عمر رضي الله عنهُ مِن الفِتنة ، وتشبيهُهُ لها بقومٍ غَشيتهم سَحابَة
وظُلمَة ، حيث لم ينجُ مِنها إلا المتريَثون على الجَادة الأولى ، وهَلَكَ
من عجل ، وذهبَ ذاتَ اليمين وذات الشِمال . ويقول مطرّف بن الشخَير رحمه
الله تعالى : ( لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إليَّ
مِن أن ألتمِسَ فضل الجِهاد بالتغرير ) . [ سير أعلام النبلاء : 4 /
191 ] .
وإنَّ مما يُعين على التؤدَة والأناة : كَثرَة المشاورة لأهل العِلم
الراسخين الربَّانيين وأهل العقل والتجربة ، فها هو رسول الله صلى الله
عليه وسلَّم وهوَ مَن هُوَ دينًا وعِلمًا وعَقلًا ويُنزل عليه الوحي ، يقول
عنهُ أبو هريرة رضي الله عنهُ : ( ما رأيت أحدًا
أكثر مُشاورةً لأصحابه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . [ صحيح
ابن حبان : 11 / 217 ] ، وينبغي الحَذَر من مشاورة المُسارعين إلى الفِتَن
ممن قلَّ عِلمهُ وتَقواهُ .
ومما يُعين على السَداد وموافقة الَحق وتجنّب الفِتَن كَثرة استخارة الله
عزَّ وَجلَّ ؛ لأنهُ الذي يَعلم ولا نَعلم ، ويقدِر ولا نَقدر ، وهو عَلّام
الغيوب .
والتؤدة اليوم تتحتَّم في نقل الكَلام والتثبّت مِن صحتهِ ،وعدم نشره بلا
بينة توثقه كَما تجب في الحُكم على الناس بالكفر والتبديع والتفسيق ، وتكون
في اتخاذ المواقف في الحب والنُصرة والمُوالاة ، وفي البغض والهجر
والمُعاداة ، كما تَنبغي التؤدة في الحكم على الوقائع والنوازل .
الوصيّة الثالثة : اعتزل جَميع أطراف الفِتنة ، كلهم !
هكذا كانَ عمل أكثر السَلَف رحمهم الله تعالى ، ففيه السَلامة والعافية ،
فمَن أراد لنفسهِ النجاة من الفِتنة ، فليعتزل أطرافها ، بقلبهِ ولسانهِ
ويده ، وهَذا ما وَجَّهَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومما يتَعلَّق بالعُزلَة في زماننا اليوم : اعتزال مواقع الشبكة العنكبوتية
، ومواقع التواصل الاجتماعي ، وهجر الكتابة فيها ، ومتابعة الشائعات
والمهاترات التي تدور فيها ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ...
ومَن استقرأ أحوال الفِتَن التي تجري بين المسلمين ، تَبيَّنَ لهُ أن ما
دَخَلَ فيها أحد فحَمِدَ عاقبة دخوله ، لما يحصل من الضرر في دينه ودنياه ،
ولهذا كانت من باب المنهي عنه ، والإمساك عنها مِن المأمور به " . [ منهاج
السنة 4/ 410 ].
ولا يُنجي العَبد المتورِّط في الفِتَن أن يُقَلِّد في ذلكَ أحدًا مِن
المَتبوعين المُحرِّضين عليها بتأويل أو غير تأويل ، فلا ينفعهُ ذلك عندَ
الله عز وجل : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ } ، ولا ينفعهُ ما يُقال لهُ من وُجوب طاعة الأمير
؛ فإنَّهُ لا طاعَة في معصية الله تعالى ، والمُسلم لم يترك أهله ووطنه إلا
لقتال الكفار يبتغي بذلك رضى الله عز وجل وجَنَّتَهُ ، فإذا تَحوَّلَ هذا
الجِهاد إلى قِتالٍ بين المسلمين ، فليعتزل لئلا يدخل بمشاركتهِ في ذلك نار
جهنم بقتل نفس مسلمة .
الوَصية الرابعة : الإكثار من العمل الصالح .
إنَّ للعمل الصالِح وكَثرة العِبادة وكثرة ذكر الله عز وجل واستغفارهِ
أثرًا عظيمًا في الوقايةِ من الفِتَن والكُروب ، قبل وقوعها والنجاة منها
إذا وَقَعتَ ، قال تعالى عَن نَبيّه يونس عليه الصلاة والسلام :
{ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ *
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، قال السعدي رحمه
الله تعالى أي : " في وقته السابق بكثرة عبادته لربه ، وتسبيحه ، وتحميده ،
وفي بطن الحوت حيث قال: { لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} " .
ومِن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( بادِروا
بالأعمالِ فتنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ ، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا
، أو يمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا ، يبيعُ دينَه بعرضٍ من الدنيا ) .
[ مسلم 118 ] ، وفي هذا حَثٌّ على الأعمال الصالِحة قبل تعذّرها والانشغال
عنها بما يحدث مِن الفِتَن الشائكة المُتكاثِرة .
ومِن الآثار الواردة أيضًا في فضل العمل الصالح والعبادة أيام الفِتَن ما
رَواه مَعقل بن يسار رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: ( العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٌ إليَّ ) . [
مسلم 2948 ] ، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : " وسبب ذلك أن الناس
في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين ؛ فيكون حالهم شبيها بحال
الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ، ويتبع مراضيه ،
ويجتنب مساخِطه ، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، مؤمنا به ، متبعا لأوامره ، مجتنبا لنواهيه " .[
إتحاف الجماعة للشيخ حمود التويجري : 1 / 93 ].
الوصية الخامسة : الدعاء ، الدعاء !
دُعاء الله عَزَّ وَجل ، والتضرّع إليه ، والاستعانة به ، والتبرؤ من
الحَول والقوّة ، مِن أنجع الوسائل وأنفعها في الوقاية مِن الفتن والنجاة
منها ، وفي الِهداية إلى الحق والثَبات عليه ، لا سيما عند التباسهِ
بالباطل واختلاف الناس فيه ، وذلكَ لأنَّ مالِكَ القلوب ومُقلّبها هو الله
عز وجل ، لا يهدي إلى الحق ، ولا يثبّت العَبد عليه إلا هو :
( من يَهدِهِ اللَّهُ فلاَ مضلَّ لَهُ ، ومن يضلل
فلاَ هاديَ لَهُ ) ، قال الله عز وجل : {
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء } ، وقال سبحانه عن نبيّه نوح عليه
الصلاة والسلام مع ابنه : { قَالَ سَآوِي إِلَى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } ، وقال عز وجل عن دعاء كليمه موسى
عليه الصلاة والسلام بعد ما أخذت قومه الصاعقة : {
إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن
تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الْغَافِرِينَ } ، ومِن أنفع الأدعية في ذلك ما كانَ يدعو به صلى
الله عليه وسلم ويحافظ عليه كل ليلة في الاستفتاح به في قيام الليل :
( اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ ،
فاطرَ السماواتِ والأرضِ ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ ، أنت تحكم بين عبادِك
فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدِني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِك إنك
تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم ) . [ مسلم 770 ] ، ومِن ذلك ما
رواه زيد بن ثابت رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( تعوَّذوا باللهِ من الفتنِ ، ما ظهر منها وما بطن
) ، قالوا : " نعوذُ باللهِ من الفتنِ ، ما
ظهر منها وما بطن " . [ مسلم 2867 ] .
وكذلك ما رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( رأيتُ ربِّي في أحسَنِ صورةٍ )
– يعني في المنام - .. إلى أن قال : ( إذا صلَّيتَ
قل اللَّهمَّ إني أسألُكَ فعلَ الخيراتِ وتركَ المنكراتِ وحبَّ المساكينِ
وإذا أردتَ بعبادِكَ فتنةً فاقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ ) . [
الترمذي 3231 ، وصححه الألباني ] .
وهكذا كاَن دأب السَلَف عند الفِتَن ، حيث يلجأون إلى الله عز وجل ،
ويَدعون بأن يُنجّيهم من الفِتَن ، فعَن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال : "
لما طعنوا على عثمان رضي الله عنه ، صلى أبي في الليل ، ودعا ، فقال :
" اللهم قني من الفتنة بما وقيت به الصالحين من
عبادك " ، فما أخرج ولا أصبح ، إلا بجنازته . [ سير أعلام النبلاء 2
/ 335 ] .
ومما ينبغي الإلحاح عليه والدُعاء به : سؤال الله عز وجل أن يجمع كلمة
المجاهدين ، وأن يوحِّد صفوفهم ، ويؤلِّف بين قلوبهم وأن يُعيدهم من الفرقة
والإختلاف وأن يرفع ما حل بهم من الفتنة .
أسأل الله عز وجل أن يقيني والمسلمين من الفِتَن ما وقى به الصالحين من
عباده ، كما أسأله سبحانه أن يوحِّد صفوف الدعاة والمجاهدين وأن يؤلِّف بين
قلوبهم ، وأن يقيهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم وأن ينصرهم على القوم
الكافرين ، والحمد لله رب العالمين .
عبدالعزيز بن ناصر الجليّل
|