|
أقصد في هذا المقال الوقوف مع الشعار الذي ظهر به أصحاب ظاهرة المقابلة بين
سيادة الأمة وتطبيق الشريعة , لنتحقق من صحته ومدى مطابقته للشريعة
أما بعد :
في حالة الانتفاضة الجماعية المباركة من قبل الأمة ومفكريها وأفرادها على
الاستبداد الذي قهر الأمة وعبث بحياتها , تشكلت بعض العبارات والمقالات التي
عدت تصاغ على شكل شعارات تختزل تحتها الكثير من المعاني .
ومن تلك العبارات التي أضحت من أشهر ما طرح في النوادي الفكرية عبارة " الحرية
قبل تطبيق الشريعة " وتظهر تارة بصورة أخرى وهي " سيادة الأمة قبل تطبيق
الشريعة" .
وقد ثارت حول تلك المقالة حوارات مطولة , واختلفت الآراء في تقييمها , واحتدمت
النقاشات في الموقف منها .
ولأجل هذا قامت بعض المحاولات التحسينية وسعت إلى تغيير صياغتها لتبدو مناسبة
ولطيفة , ومنها قول بعضهم :"الحرية طريق لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم :"سيادة
الأمة مقدمة لتطبيق الشريعة " وقول بعضهم :" الحرية /سيادة الأمة شرط لتطبيق
الشريعة" .
وهذا الحالة الاختلافية العنيفة مؤشر قوي في حد ذاته على أن تلك المقولة ليست
سوية ولا منضبطة في نفسها ومدلولها .
ولكن قبل الحكم بالجزم على تلك المقولة . وقبل أن نبادر إلى قبولها أو رفضها
دعونا نقوم بمزيد من التحليل والدخول في الأعماق لنتحقق من مدى صحة تلك المقالة
ومدى انضباطها في نفسها ومدى انسجامها مع المقتضيات الشرعية .
وإذا رمنا الوصول إلى تلك الغاية علينا أولا أن نلتزم بالعقلانية والموضوعية
الصارمة , التي لا تتسامح أبدا في أن يمر من خلالها أي شيء غير متصف بالإتقان
والانضباط , وأن نحرص حرصا بالغا على الهدوء في التحليل والاتزان في تحديد
المناطات المؤثرة , وأن نكون مستحضرين للنصوص الشرعية التي تمثل بالنسبة لنا
نحن المسلمين القاعدة الصلبة التي ننطلق منها في بناء تصوراتها وأفكارنا = حتى
تكون أحكامنا منضبطة ومستقة مع نفسها ومع أصول شريعتنا .
وإذا رجعنا إلى تلك المقالة وأدخلناها في مختبراتنا التحليلية , فأنا نجد أنها
من أولها إلى آخر غارقة في الإجمال والاشتباه والإبهام .
فإنه يستوقفنا في أول مراحل التحليل الإجمال والاشتباه المشهور في لفظة الحرية
والسيادة , فهذه المصطلحات تعد من أشهر المصطلحات غموضا وإشكالا في الوسط
الفكري , وقد اعترف بذلك عدد من المفكرين العرب وغيرهم .
وإذا تجاوزنا ذلك لشهرته فإن نجد لفظ "القبلية" هو الآخر يحتمل معاني عديدة ,
فإنه يحتمل القبلية المرجعية ويحتمل القبلية المصدرية ويحتمل القبلية التنفيذية
التطبيقية .
والحال يتكرر في لفظ الأمة , فإنه قد يراد به كل الأمة وقد يراد به الأمة في
دولة من الدول , وقد يراد به صنف من الأمة كالعلماء أو من عدا الحكام الظلمة .
وكذلك الحال في لفظ تطبيق الشريعة فإنه يدخل تحته أصناف من التطبيق مختلفة في
طبيعتها وحكمها وشروطها , وفي نفس الوقت يحتمل أن يكون المراد بالتطبيق الكامل
أو الناقص , وتحتمل أن يكون المراد به التطبيق الاختباري أو الإلزامي .
وهذه الإجمالات المتراكمة بعضها فوق بعض يجعل من الصعب جدا إصدار حكم واحد أو
موقف منضبط على مثل هذه المقالة .
وسأحاول أن أقوم بقراءة تأصيلية انطلق فيها من أشد الأوصاف تأثيرا وأشدها
التصاقا بالنظرة الشرعية في حكم تلك المقابلة , وهو وصف "تطبيق الشريعة" , ولست
مهتما هنا بالبحث في قضية كون هذا التركيب"تطبيق الشريعة" تركيب شرعي أو أثري ,
ولا بالبحث في تاريخ استعماله , وإنما الهدف البحث في المعاني التي يمكن أن تحت
لفظ "الشريعة" ؛ حتى نتجقق من علاقة الأمة بتطبيق الشريعة , وهل هي قائمة على
اختبار الناس لها أم على القدرة والإمكان .
فإن الشريعة كمصطلح شرعي وعلمي يشمل أصنافا كثيرا جدا , ومنها :
النوع الأول : العبادات القلبية , الخشية والخوف والرجاء والمحبة
والإنابة والخضوع والتوكل وغيرها , فهذا الصنف من الشريعة واجب على كل العباد ,
أفرادا وجماعات , ويمكن تطبيقها حتى في حالة الاستبداد , لأنه لا سلطة لأحد
عليها إلا لله تعالى , ولا يصح إخراجها من الشريعة ؛ لأنها جزء من أهم أجزائها
.
النوع الثاني : الواجبات العينية , التي تجب على كل مسلم , وهي كالصلاة
والصيام والحج , فهذا النوع من الشريعة الأصل فيه الوجوب , ويجب على المسلم أن
يقوم بعضها حتى في حالة الاستبداد , فالصلاة واجبة على المسلم حتى ولو كان
مسجونا أو على منصوبا منصبة الشنق , فإنه يجب عليه أن يصلي ولو إيمانا .
ولهذا فإن الشريعة أوجبت هذه العبادات على العبيد والرقيق , مع أنهم فقدوا
حريتهم وخضعوا نوعا من الخضوع لإنسان آخر , ولم تقل الشريعة إن تحقيق السيادة
قبل تطبيق هذا النوع من الشريعة .
النوع الثالث : حفظ نصوص الشريعة وتعلم أحكامها , وهذا النوع من الشريعة
من فروض الكفايات , وهو واجب على علماء الأمة وطلاب العلم فيها , ويمكن للأمة
أيضا أن تقوم بهذا النوع من الشريعة الواجب عليها حتى مع الاستبداد , فإن
العلوم الإسلامية قامت في دولة بني أمية وبني والعباس وخرج علماء كبار في
الدولة الأموية في الأندلس وفي الدول الأخرى التي قامت في العالم الإسلامي ,
وكذلك خرج علماء كبار في عصرنا الحاضر , ولم يكن الاستبداد أو فقدان الأمة
لسيادتها حائلا لكل العلماء من الوصول إلى حكم الشريعة أو تعلمها , فإنه لم يزل
في الأمة من العلماء من يصدع بالحق ولم يتأثر بالسياسي , ووجود بعض من دخل عليه
التأثر لا يؤثر على استقلال الآخرين .
النوع الرابع : تطبيق الحدود والتعزيرات , وهذا النوع من الشريعة ربطه
كثير من علماء الإسلام بوجود الحكومة والدولة , ولكن لم لو توجد حكومة ودولة
فإنه يجب على الأمة أن تنصب من ينفذ تلك الأحكام نيابة عنها , وإن وجدت حكومة
لا تطبق حدود الله , فإنه يجب على الأمة أن تسعى إلى تغيير هذا المنكر وإزالة
كل من يقف في طريق تطبيق ذلك الحكم .
النوع الخامس : الدفاع عن الشريعة ضد أعداها المتربصين , وهذه الحالة
تعد من الأنواع التطبيقية للشريعة , ويمكن للأمة أن تطبيق هذا الحكم حتى في
حالة الاستبداد , فلو افترضنا أن عدوا أغار على بلاد المسلمين ليزيل معالم
الإسلام فإنه يجب على الأمة الدفاع حتى ولو كانوا تحت سلطة مستبدة ولو لم ترض
تلك السلطة .
النوع السادس : تعيين من يسوس حياة المسلمين وينظم دنياهم ويساعدهم على
تطبيق دينهم , وهذا النوع من أنواع الشريعة الواجبة على الأمة , وكذلك يجب
عليهم مراقبته ومحاسبته , فكما أنه يجب على الأمة تعيين حاكم ينوب عنها , فكذلك
يجب عليها القيام بمراقبته ومحاسبته , فهما واجبات شرعيان لا بد من القيام بهما
.
وتطبيق هذا الواجب الرقابي – الذي هو نوع من الشريعة - هو في الحقيقة من أقوى
الطرق والضمانات التي تحقق للأمة سيادتها وحريتها بحيث لا يستطع من فقد عدله
وأمانته من الحكام أن يستأثر بأموال الأمة ولا يعبث بمقدارتها وحياتها .
ولو أردنا أن نأخذ من هذا التقرير عنوانا وشعارا لقلنا :" تطبيق الشريعة قبل
سيادة الأمة " أو لقلنا " تطبيق الشريعة مقدمة لسيادة الأمة " .
وهذه بعض أشهر الأصناف التي يحتملها مصطلح "تطبيق الشريعة "هناك أصناف أخرى
يمكن أن تدخل تحت تطبيق الشريعة .
ويبدو من التحليل السابق , أن بعض تطبيق الشريعة غير مرتبط بسيادة الفرد ولا
الأمة في وجوبه وتطبيقه , وإنما يجب ويطبق حتى مع فقدان السيادة , وبعضها منفصل
في تحقيقه عن السيادة , واستطاعت الأمة أن تقوم به حتى مع وجود المستبد ,
وبعضها يعد مقدمة وشرطا في تحقيق السيادة للأمة أصلا , ويبدو لنا أن الأمة يجب
عليها أن تطبيق الشريعة , وتلزم بتنفيذ أحكامها على المتعدين والمتعدين وغير
القالبين لحكمها , ما دام الإمكان موجودا , فإذا فقد الإمكان والقدرة , فإن
الواجب أن تسعى الأمة إلى تخفيف الانحراف بأس طريق يوصل إلى ذلك ما لم يكن
مخالفا لقطعياتها .
وبهذا التفكيك لتلك المقولة يظهر لنا مقدار الإجمال والتعميم الذي وقع فيها ,
واتضح لنا أنها محملة بتعميم ضخم وإطلاق واسع اختفت معه الحدود الفاصلة المؤثرة
في الأحكام , حتى غدا من الصعب أن تشرح ما تتضمنه من معاني إلا في صفات عديدة .
وإذا استحضرنا مع الإجمال في المكونات الأخرى , وهي الحرية والسيادة والقبلية ,
فإن الخطب يزداد خطورة والموقف يزداد تأزما , لأن بعض المعاني التي تحتملها تلك
الألفاظ متنافية مع أصول الشريعة وقطعياتها , ولا يمكن لأي مسلم أن يقبلها .
والعبارات التي من هذا القبيل لا يصح أن يعتمد عليها في بيان التصورات الشرعية
الكبيرة , ولا يصح عقلا ولا منهجا ولا شرعا أن تجعل شعارا تختزل تحته المشاريع
الإصلاحية .
ومن اعتمدها لتكون له شعارا لمشروعه أو عنوانا لتصوراتها , فهو مظنة لوقوع
الخطأ والابتعاد عن إدراك الصواب بشكل واضح , ويحسن بنا في هذا السياق أن نتذكر
المدرسة الكلامية , فإنها مشروع ضخم قام على عبارات ومقالات مجملة غير بينت
المعالم والحدود , ومن أشهر ما كان شعارا لها مقولة " العقل قبل النقل " أو
"العقل مقدم على النقل , وهي تعني فيما تعنيه من المعاني أن "العقل مقدم على
تطبيق الشريعة " , وقد تطور هذا الشعار حتى صار من أقوى الأسباب في الابتعاد عن
الشريعة وتعظيم نصوصها , ومن أقوى الأسباب التي صرفت الناس عن فهم الصحابة
ومنطلقاتهم , وتكونت حوله مفاهيم عديدة غدت هي المتحكمة في بناء التصورات
العقدية .
وهذا الحال يدعونا إلى أن نقول إن استعمال هذه المقالة في تصوري الحقائق
الشرعية غير صحيح ؛ لأنها متضمة لمعاني لا يقبل أن تقبل في شرعنا , وقد اتخذت
طريقا ومنفذا لتمرير مضامين معرفية متناقضة مع التصور الإسلامي للحكم السياسي ,
وهي فضلا عن ذلك مشتملة على تصورات لا تستقيم مع المخزون السياسي لدينا الموروث
عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الخلفاء الراشدين .
*** *** ***
ويكن أن يعترض على التقرير بالسابق بعدة أسئلة أشهرها اثنان :
السؤال الأول : أن المراد بتطبيق الشريعة ليس كل الشريعة ولا أصل
تطبيقها وإنما المراد كمال تطبيق الشريعة , فيكون المراد بتلك المقولة "
الحرية/سيادة الأمة قبل كمال تطبيق الشريعة , أو مقدمة لكمال تطبيق الشريعة"
وهذا الاعتراض متفهم , ولكن مع ذلك لا يصح إيراده ؛ لأمور : أما الأول : فلأن
المقولة مطلقة , وكانت ترد في سياقات كثيرة خالية من هذا القيد تماما, وأما
الثاني : فلأن هذا المعنى مع صحته مزاحم باحتمالات ومعاني أخرى كثيرة يبدو
بعضها أولى منه وأظهر في الاستعمال وأسرع مبادلة إلى الأذهان , وأما الثالث :
فلأن الشريعة في صورتها الكاملة لا تحتاج إلى تحقيق السيادة فقط , وإنما تحتاج
إلى أمور أخرى كثيرة ,غير السيادة , كنشر العلم والوعي الحقوقي , وتعزيز الهوية
ونحوها , أما الرابع : فلأن بعض تطبيقات الشريعة يمكن أن يطبق بصورتها الكاملة
حتى مع فقد السيادة الفردية أو الجماعية .
السؤال الثاني : أن المراد بالتطبيق الإلزام والإجبار بالشريعة , ويكون
معنى تلك المقولة : "الحرية / سيادة الأمة قبل الإلزام بالشريعة" .. ولكن هذا
الاعتراض لم يسلم من الخلل وعدم الانضباط , أما أولا : فلأنه لا يفهم من لفظة
التطبيق بمجردها الإجبار والإفهام , وإنما يفهم منها مطلق الامتثال , فإطلاق
لفظ عام وقصد معنى خاص جدا من غير قرينة غير مقبول لا لغة ولا شرعا , أما ثانيا
: فلأنه يقتضي أن الأمة لا يلزمها اللزام بالشريعة ولا الإجبار عليها لا في
عصرنا الحاضر ولا في عصور خلت ؛ لأنها فاقدة لسيادتها وراضخة تحت الاستبداد .
وهذه الأمور كلها تؤكد وجاهة الحكم على تلك المقولة بعدم الانضباط والدقة
وبالتالي عدم الصحة .