|
كتبت هذه القصيدة في أَواخِر شهر شباط من عام 1991
كان الزمن في وقـت الأصيل --- ومسيري كـان فـي دَرْبٍ طـويل
بين أشجارٍ وزرعٍ, وزهورٍ وخميل --- ومياه تجري في حقولٍ وكأَنَّها سلسبيل
عندها شمسه انحدرت ومالت للغروب --- وتسلّـَل نورهـا مـن بيـن النخيـل
وشعاعـها كـان يأتـي باهتـًا --- نعـم , فَإنّهـا شمـس الأَصيــل
والجـو فيها كان يسطع صافيـًا --- وهَـوَاؤُهُ باردٌ مُنعـشٌ, يشفي العليـل
ويُرفرف الطير فيها ويشدو صادحاً --- ويتنقـل مـا بيـن روضٍ وخميـل
والكُـلّ, كُلٌّ كان مـاضيا لهـواه --- مـن غيـر مُرشـد أَو دلـيـل
ومن بينهم , شَدَّتْ انتباهي صبيَّةٌ --- شعرُها مُرسَل وكان أَسود طويـل
فكانـت ذات حُسنٍ وجمالٍ آخـذٍ --- وقوام ما شق وخصر ضامر ونحيـل
والوجـه, مُنير وكأَنَّه بدر ساطع --- وَيَطِـلُّ بنُـوره مـن خـدٍ أَسيـل
ولحظها يرنـو وكأَنَّه سهم قاتل --- يُصَوَّبُ مـن طـَرفٍ فَتـَّان كحيـل
والثَغْرُ يُسْفِرُ عن شفـاهٍ باسمـًا --- بتَحِيَّـةٍ , فهو دواءٌ وشِفاءٌ
للعليـل
فسبحان المُبدع الذي قد أَنشأَها --- فإنَّهُ اللـه , الخالق الباري الجليـل
وكانت تحمل على كَتِفها جَـرَّةً --- مـن ثُقلها, كانت تعتدل ثُـمَّ تَميـل
فاستوقفتها وطلبت منها شُـربَةً --- فسقتني وقالت هنيئًا, هـذا من سبيـل
فشربت فما ارتويت منها ولكن --- يجـب أن أَتُابـع وأَمضي فـي الرحيـل
فَشَعرّتُ بقَدَمي, وكأَنهَا قد سُمِّرَت --- وأَخَذَتْ تَرْتَعد "كَوقفَـة
العبـد الذَليـل"
فأَخذتُ أتأَملّ وجهها وقوامها --- وعينايَ اشرأبت وراحت فيها تُجيـل
والفكـر قـد تاه منّي وخانني --- "حقـًا " وكأَنّـِي فـي أَخْـذٍ وبيـل
أَيُعقل .. ما جَرَى لي وانتابني؟ --- وأَنا الرجُلُ المَسنُّ , والشيخ
الجليـل؟
فَأَومأَت إليَّ بنظرةٍ من طرفها --- وأَخَذَت تَحكـي بصَـوتٍ كالهَـدِيـل
فسألتني لِتَعْـرِف مـن أَنـَا --- فَأَخبرتُـها بأَنَّنـي عـابـر لسبيـل
قالت اصدقني بربِّكَ ماذا تريد --- وابتعـد عـن مـا قـال وقيــل
فقلتُ لهـا , أُريدُ طلب ودِّكِ --- فَهَـل تقبليـنَ بِـي لـكِ كَحليـل
فانتفضت وثَارَت ثُـمَّ قالـت --- لا وألف لا , إنَّ هــذا مُسـتحيـل
ضَربت خُمْسًا بِسُدْسٍ وهي تهمس --- في سِرِّها,حسبيَ الله , ونعـم الوكيـل
فقالـت, إنْ قَبلـتُ أَنـا بهـذا --- أَترضى بِـهِ أَنـتَ ,يا عابـر السبيـل
فالعُمرُ قَد أَصبَحَ شتَّـان, بيننا --- وليـس هـذا الفـرقُ بيننـا بقليـل
فإنِّي قد خُلقت من عَهْـدٍ قَريبٍ --- وأَنتَ لقـد خُلقـتَ مـن غَيـرِ جَيـل
ألـم تَـرَ مـا أَنـتَ فيـهِ؟ --- مـن مَشيـبٍ أَيُـها الشـيخ الجليـل؟
شعرُكَ الأسود ببياضهِ قد تهادى --- وسَمْعُكَ المُرهَف قَـد أَصبـحَ ثَقيـل
والبَصَرُ الثَاقِبُ قَد بدأَ يتخافـت --- كَسِراجٍ للهُـدى هـل مـن دليـل؟
وظهركَ الناهض غدا كالقوسِ مَحْنِي --- "للخطى" يحتـاج عُكـَّازًا طـويـل
وثَغْرُكَ الباسمُ المُفتَّرُ أصبحَ باهِتـًا --- "ضُحْكه"ُ الـرنَّـان قـد
أَمسى عَويـل
والله لست أَنت بغبٍّي أَو سَفيـهٍ --- وأَنـتَ لسـت أَيضًا بضليــل
وما أنـت بلعـوبٍ أو غـوي --- ولكنَّـك تَبـدو من معـدن أَصيــل
فربَّما تبحث عن شبابٍ تفقده --- ضـاع منـك مـن زمـنٍ طويــل
أَو تُفتّش عن عطفٍ زاغ عنك --- ولم تَجِـدهُ عنـد صـديـقٍ أَو زميـل
وأَصحابك الكُثُر عنكَ قد تخلوا --- فغـدوتَ وحيـدًا بلا سميـرٍ وخليــل
ذَهَبَ الشباب منك ولم يَعُــد --- إليـك ولـو ربطتـه بحبـلٍ للغسيـل
فاقبل النصح منِّي وتراجع --- وارضِ مـن حيـاتـك بالقليـل
واتجه لله صومـًا وتَبتَّل … --- وتهجّــد , وأقـم الليـل الطـويـل
فعسى الرحمان منك يقبل توبةً --- ويهديـك ويلهمـك الصبـر الجميــل
فلم يَعُـد للعمـر عندك فسحة --- فتَـزوّد بالخيـر وتهيـأ للرحيــل
فتنهدت من أعماقي وإذا بي --- وقـد صَحَوْت, " آه " يا له من حلـم ثقيـل
عبد القادر اللبَّان (لندن) 03-09-1994