قبس من نور النبوة

الصدق

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ا لله ... وبعد
مستمعى الكرام .. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته .. وأهلاً بكم فى حلقة جديدة من برنامج (قبس من نور النبوة)...

روى البخارى ومسلم من حديث ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا. وإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".

أخى الكريم .. المسلم صادق يحب الصدق ويلتزمه ظاهرًا وباطنًا فى أقواله وفى أفعاله، إذ الصدق يُرشد ويوصل إلى البر وهو العمل الصالح، والبر يهدى صاحبه إلى الجنة، والجنة أسمى الغايات، وأقصى الأمانى عند المسلم.

ولا ينظر المسلم إلى الصدق باعتباره فضيلة ينبغى التخلق بها فحسْب ، بل يذهب إلى أبعدَ من هذا ، يذهب إلى أن الصدق من متممات إيمانه، ومكملات إسلامه إذ أمر الله تعالى به، وأثنى على المتصفين به ، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) وقال تعالى فى الثناء على أهل الصدق (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
وحثَّ عليه النبى صلى الله عليه وسلم فى غير ما حديث كما فى قوله صلى الله عليه وسلم :"إن تصدقِ اللهَ يصدقْكَ" وقولهِ " أفلح إن صدق " صدق الله فصدقه اللهُ"
أخى الكريم .. إن الصدق يكون فى الأقوال والأعمال والأحوال .

أما فى الأقوال فهو استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.
وأما فى الأعمال فهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق فى الأحوال استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق.
وإذا الأمور تزاوجت *** فالصدق أكرمهـا نِتاجـا
الصدق يعـقد فـوق *** رأس حليفه بالصدق تاجا
والصدق يقدَح زَنْـدُه *** فى كل ناحية سـراجـا

وللصدق مظاهر يتجلى فيها فى حياة المسلم، منها:
فى صدق الحديث، لأن المسلم إذا حدّث لا يُحَدِّثُ بغير الحق والصدق، وإذا أخبر لا يخبر بخلاف الواقع. ومن كان الصدق وسيلته، كان الرضا من الله جائزته
فى صدق المعاملة، لأنه إذا عامل أحدًا صدقه فى معاملته، لا يَغُشُّ ولا يخادع، ولا يزوِّر ولا يغرِّر.
فى صدق عزمه، إذ لا يتردد فى فعل ما ينبغى فعلُه ، بل يمضى حتى ينجز عمله على ما يحب ربنا ويرضى.
فى صدق الوعد، إذ إن المسلم إذا وعد أنجز وعده.
فى صدق الحال، فهو لا يظهر فى غير مظهره، ولا يُظهر خلاف ما يبطنه، فلا يلبس ثوب زور، لا يرائى ولا يتكلف ما ليس له، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور" رواه مسلم
ومعنى هذا أن المتزين والمتجمل بما لا يملك ليُرى أنه غنى يكون كمن يلبس ثوبين خَلَقين ليتظاهر بالزهد، وهو ليس بزاهد ولا متقشف.

والصدق ـ أخى المستمع الكريم ـ يكون فى مقامات الدين، التى منها المحاسبة والمجاهدة والتوبة، وقصةُ قاتلِ المائةِ نفسٍ دليلٌ على صدق صاحبها فى توبته إلى الله عز وجل.
وقدومُ ماعزٍ والغامدية إلى النبى صلى الله عليه وسلم واعترافُ كلٍ منهما على نفسه بالزنا، وطلبُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليه الحد ليطهره دليل على صدق توبتهما. واعترافُ كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك دون عذر دليل على صدق توبته كذلك. ويكون الصدق فى التوكل على الله، وفى الخوف منه، وفى الرضا بقضائه، وفى الاستقامة على أمره، وفى الدعاء، وفى تعظيم الحرمات، وفى الحياء والحب والشوق إلى الله.

وقد علمنا النبى صلى الله عليه وسلم أن نكون صادقين مع أولادنا حتى نزرع فيهم شجرة الصدق فتثمر فى حياتهم أحلى الثمار وأشهاها.
فعن عبد الله بن عامر رضى الله عنه قال:
دعتنى أمى يومًا ـ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فى بيتنا ـ فقالت : تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أردت أن تعطيه ؟ قالت : أردت أن أعطيه تمرًا. فقال لها: "أما إنك لو لم تعطه شيئًا كُتبَ عليك كِذبة"
انظر معى أخى المستمع الكريم وتأمل كيف ظل هذا الموقف فى صدر هذا الغلام حتى كبر ورواه لتلاميذه لينقل إلينا.
إن الصادق مع الله يورثه الله الصدق مع أهله ومع الناس، لأن الصدق جرى فى دمه وخالط اللحم والعظم، ولذا فهو ما زال يصدق ويتحرى الصدق حتى تفيض شهرته بالصدق فى الأرض، ثم تنطلق إلى السماء فيكتب عند الله صديقًا.

وللصدق أخى المستمع الكريم ثمرات طيبة يجنيها الصادقون:
منها راحة الضمير، وطمأنينة النفس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصدق طمأنينة .
ومنها البركة فى الكسب، وزيادة الخير، لقوله عليه الصلاة والسلام: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما فى بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
ومنها الفوز بمنزلة الشهداء لقوله صلى الله عليه وسلم : من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.
ومنها النجاة من المكروه، لأن الصدق منجاة. وقد حُكى أن هاربًا لجأ إلى أحد الصالحين وقال له : أخْفِنى عن طالبى. فقال له:نم هنا، وألقى عليه حزمة من خوص، فلما جاء طالبوه وسألوه عنه قال لهم: هو ذا تحت الخوص، فظنوا أنه يسخر منهم فتركوه، ونجا ببركة الصدق.

أخى الكريم ... كل ما مضى لأجل الفوز بالجنة حين يصدق المرء مع الله تعالى ومع نفسه ومع الناس ليهديه الصدق إلى البر وصالح العمل، ومن ثَمَّ الجنة.
ثم حذر النبى صلى الله عليه وسلم من الكذب الذى يسوق صاحبه إلى الفجور والعصيان وبدوره يسوق صاحبه إلى النار، ويكذب المرء ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا.
والكذب جماع كل شر، وأصل كل ذم ! لسوء عواقبه وخُبث نتائجه، لأنه ينتج النميمة، والنميمة تنتج البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمنٌ ولا راحة .... وقد قيل : مَنْ قَلَّ صِدْقُه، قلَّ صديقُه.
عوّد لسانك قول الصدق تحظ به *** إن اللسـان لمـا عـوّدت معتـادُ
مُوَكَّلٌ بتقاضـى ما سَنَنْـتَ لـه *** فى الخير والشر فانظر كيف ترتادُ

واعلم أخى الكريم أن الصدق يُنجى صاحبه وإن خافه، وأن الكذب يُردى صاحبه وإن أَمِنه. ونُسب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لأنْ يَضَعنِى الصدق ـ وقلما يفعل ـ أحبُّ إلىّ من أن يرفعنى الكذب وقلما يفعل.
وقيل : من استحلى رضاع الكذب عَسِر فطامُه.
ألا ... فلنصدق إخوانى الكرام فى حياتنا كلها، ولنعلِّم أبناءنا الصدق، ونجنب أنفسنا وأبناءنا الكذب ...

وفقنا الله تعالى للتى هى أقوم ، وهدانا وإياكم سواء السبيل
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته