صيد الفوائد saaid.org
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







خطوات الريادة ومراحلها (2)

عبدالسلام بن سعيد الشمراني

 
خطوات الريادة ومراحلها (1) ..


6ـ صاحب قرار :
(إن التردد في أخذ القرارات ليس من صفات الرواد بل هو صفة ضعف ونقص واضطراب ، بل هو ناقض من نواقض الشجاعة والإقدام. الذي ينبغي فعله هو عدم التهور والتسرع ، وكذلك دراسة القرار "فإذا عزمت فتوكل على الله" دراسة وتخطيط ، مشورة واستخارة ثم سر على بركة الله فما جاءك فهو الخير ذاته والله يتولاك "والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين" ) 0

أما مصعب رضي الله عنه فقد اتخذ قراراً خسر معه رونقه ، خسر رفاهيته ، خسر تلك المكانة التي كان يتبوؤها من قريش " أعطر قريش " ، بل خسر حتى جلده الناعم واستبدله بجلد خشن ، "عن محمد بن كعب القرظي ، حدثني من سمع علي بن أبي طالب يقول : إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة وما هو فيه اليوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة ، وراح في حلة ووضعت بين يديه صحفة ، ورفعت أخرى وستَّرتم بيوتكم كما تُستر الكعبة ؟ " قالوا : يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم نتفرغ للعبادة ونُكفى المؤنة ، فقال صلى الله عليه وسلم " لأنتم اليوم خير منكم يومئذٍ " رواه الترمذي وقال إن هذا حديث حسن " 0

فلقد تحولت الحلة الناعمة الرقيقة إلى بردة مرقوعة بفرو وذلك في ذات الله 0

ويحدثنا أخوه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فيقول : " كنا قبل الهجرة يصيبنا ظلف العيش
وشدته فلا نصبر عليه فما هو إلا أن هاجرنا ، فأصابنا الجوع والشدة فاستضلعنا بهما ، وقوينا عليهما فأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلامٍ بمكة بين أبويه فيما بيننا ، فلما أصابه لم يقو على ذلك ، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ، ولقد رأيته ينقطع به ، فما يستطيع أن يمشي ، فتعرض له القسى ثم نحمله على عواتقنا "(1) 0 وتتمت الحديث " ولقد رأيتني مرة قمت أبول من الليل فسمعت تحت بولي شيئاً يجافيه فلمست بيدي فإذا قطعة من جلد بعير فأخذتها ، فغسلتها حتى أنعمتها ثم أحرقتها بالنار ، ثم رضضتها فشققت منها ثلاث شقات ، فاقتويت بها ثلاثاً "(2) .

أي قرار ذاك ؟
إنه قرار مَنْ نصب الجنة بأنهارها وحورها وجمالها بين عينه فشمَّر حتى استقر ، وقرار من امتلأ قلبه بحب ربه ورسوله حباً ملأ عليه جوانحه ولم يزاحمه في قلبه مزاحم ، جمع قلبه على همٍ واحد ، وحب واحد ، وهدفٍ واحد ، ورأى أن كل هدفٍ سوى هدفه لا يستحق أن يلتفت له التفاته صغيرة فكان القرار 0

إن قرار مشتت القلب ، ومتشعب الأهداف ، يتشتت ويتشعب ، لأنه يداري بين ضرتين الدنيا والآخرة وهل يتفق الضرتان ذلك لن يكون 0

" إن قرار كثير الالتفاتات إلى الدنيا وشهواتها وزينتها ومناصبها وحب الظهور فيها وحب الذكر والمحمدة مع ما في قلبه من حب الآخرة ونعيمها وتشميره لها في غير أوقات الالتفات فلن يكون قراره كما ينبغي أن يكون إلا فيما ندر وذلك لأن فيه شركاء متشاكسون يجذبونه ويتنافسون فيه وأيهم أشدُّ جذباً يكون في صالحه القرار أمّا مصعب فكان سلماً لله وحده فهل يستويان كلاّ ولكن أكثر الناس لا يعلمون " .
قال تعالى : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً ، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } .
يقول سيد رحمه الله : " وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك في جميع الأحوال فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى ، لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضر ، ومصدراً واحداً للمنح والمنع ، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ، يستمد منه وحده ، ويعلق يديه بحبل واحد يشدُّ عروته ، ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره . ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه .. وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد فينتج بكل طاقته وتتوحد فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء .... "(3) .
" قل لي بربك لو أن أمة القرآن كانت سلماً ولم يكن فيها شركاء متشاكسون أكان هذا المكان الذي هي فيه هو اللائق بها " .
" إنَّ تشتت القلب يشتت القرار لأنه قلبه يتردى في كل وادٍ فماله من قرار " .

7ـ وضوح في الرؤية :
" الرائد لا يصلح للريادة وفي رؤيته غبش ، كثير من يتحدث ، وكثير من يدعو ، كما أنه كثير من يحمل هم الدعوة والإصلاح ، ولله الحمد والمنة والكثرة هنا بالنسبة لأهل الخير والصلاح ، لا إلى مجموع الأمة ، ولكنك قد تتفاجأ عندما تتحدث مع هؤلاء الكثير في أهدافه البعيدة وأهدافه القريبة ، وما حقق منها ، وما تعسر وما يتغير ، وما هو ثابت ، وما البدائل ؟ وغير ذلك كثير. تتفاجأ فعلاً عندما تجد المحصلة من أولئك قليلة جداً ولا يحسب القارئ أنني أخرج نفسي بريئة من ذلك كلا ، فالجميع يفتقد إلى تلك الرؤية الواضحة التي سار عليها مصعب ومن معه .
تلك الرؤية التي استحوذت على العقل والقلب ، رؤية تجاوزت حدود الدنيا حتى أنه ومن كان معه يجدون ريح الجنة وهم أحياء ، وهذه الرؤية المحيطة بالمشاعر والأحاسيس والأماني جمعت فاتجهت كلها وجهة واحدة فلا يتعارض الطموح والهواية والمحبوب وهوى النفس ، ليس بين القلب والعقل حرب غبراء ، كتلك التي نراها اليوم ، فقناعات الكثير من الأخيار في طريق الاستقامة قوية، وهو متلبس بسربال الدين والاستقامه فيما يراه الناس ، ولكنك عندما تغوص في أعماقه في لقاءٍ حواري تجد أن قلبه يسير في اتجاه ، وعقله وقناعاته في اتجاه ، حتى أنك لتكاد تتهمه بالتناقض وعدم المصداقية .
اشتغال بالخلافات الفقهية ، وزهد في الورع ، ووقوع في رخص الفقهاء وإن شئت فقل التدين بأخطاء الفقهاء .
ليس ذلك فحسب بل الاهتمامات التافهة في الملبس والمأكل والمشرب حتى إنك لترى الكثير من الصالحين يقعون في الديون وهمها من أجل الترف والتنزه والمتعة فصار من يدعي أن همه الدين ونصرته في كل وادٍ يهيم لا هم له إلا نفسه ، لا نصيحة ، ولا كتابة ، ولا كلمة ، ولا جلوس في حلقات العلماء فإلى أين هؤلاء يذهبون ؟
وهل هؤلاء لأهدافهم يعرفون؟ وإليها خطاهم يحثون ؟
أم أنهم يكذبون ؟ .

إن غبش الرؤية لهو أحد الأمراض العسيرة على الحل يضاف إلى رصيد أمراض الأمة الأخرى .

شاب ترك الترف ، وإجلال المجتمع ، والشهرة والمجد ، والمال الوفير، وسار إلى الجنة معرضاً عن ذلك كله ، همه واحد قد جمع كل قلبه عليه ، ينام وهو يفكر فيه ، ويستيقظ وهو ينطوي عليه ، يسير به ، يسافر معه ، حبس نظره عن غيره ، وامتلأت جوانح قلبه به ، قلبه يغلي شوقاً متى يحطان عصا الترحال سوياً فيلتقيان ويتعانقان بعد طول سفر ووعورة طريق، وقد عانى الأمرين من أجله ، حتى صار يحمل على الأسهم والرماح من أجله ، قطع كل علاقة بذلك الماضي الذي سال لعاب كثير من الدعاة للوصول إليه ، حتى صار لا يلقي له فتات من تفكير، أو لفتة محاسبة ، سار إلى هدفه لأنه اجتمع عليه وحده ما يزيد على خمسة عشر عام وإذا به يحط رحله في الجنة والملائكة يدخلون عليه من كل باب سلام عليكم فنعم عقبى الدار .
صوّب نظره في اتجاه هدفه ، ولملم شمله، واجتمع شعثه ألبس فكره ثوب هدفه فسار يجره وقد غطى كلَّ ذرة فيه ، لم يدخل في الإيمان فحسب بل دخله الإيمان ، وفرقٌ أن تسير بإيمانك ، أو يسير بك إيمانك ، إذا سرت أنت به فقد تتعب من طول الطريق فترتاح قليلاً وتضعه حتى تحتاجه ، وقد يسلب ولا تجده أما إذا سار بك إيمانك فسوف تكون محمولاً لا حاملاً ، ولن يرضى الراحة بك إلا على سررٍ متقابلين .
حمله إيمانه فأوذي في مكة ، وسافر به إلى الحبشة ، وعاد إلى المدينة وإيمانه يحمله ، لم يترك له فرصة أن يرى معه غيره ، ينظر بالإيمان وينطق بالإيمان ويسير بالإيمان وينام بالإيمان فهو في أمان من كل شيطان ، ومن كل فاتنة وفتان ، حتى هربت الدنيا لما لاقت معه من الهجران . رضي بالله رباً فعرف حقه ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً فمات بين يديه وبالإسلام ديناً فملأ به جوانحه فما صار لغيره في قلبه متسعاً .

8ـ إقناع مسكت :
إن من أزمات الدعوة المزمنة الطرح السطحي ، وتناول الموضوعات الحساسة بأسلوب ساذج ، وكأن الداعية يظنّ ـ لأنه داعية ـ أن كلامه سيؤخذ بالتسليم بمجرد أنه داعية مشهور ، وكلمات جذابة ، وعبارات آسرة وكأنه نسي أو تناسى ، أو حتى لم يكلف نفسه عناء البحث في السنة ليعلم كيف كان محمد صلى الله عليه وسلم في إقناعه وفي أسلوبه ، حتى مع من تبلغ به الجرأة وعدم الحياء أن يقول يا رسول الله أأذن لي في الزنا !! فكيف كان الاستقبال وكيف كان الأسلوب ، وها هو التلميذ يسير على خطى أستاذه، بالطباع الهادئة، والأسلوب المقنع ، كان جالساً مع أسعد بن زرارة رضي الله عن الجميع في مزرعته ، فإذا بعظيم من عظماء الأوس والخزرج قادم وهو أسيد بن حضير ، فقال له أسعد : أحسن إليه وألن له في القول فإن يسلم يسلم من وراءه ، فتحدث أسيد غاضباً : ما الذي جاء بك إلى هنا؟ والذي نفسي بيده لولا مكانة أسعد لأخرجناك، أتيت تُسفِّه أحلامنا ، وتسبُّ آلهتنا ، وتحقر من شأن أبائنا وأجدادنا وأتيت بدين لا نعرفه لتقنعنا بأنه أفضل من دين العظماء والسابقين .
وبكل هدوء قال مصعب : وهل سمعت مني قبل اليوم يرحمك الله ؟
قال : لا . قال : فاسمع فإن أعجبك فاجلس وإن لم يعجبك تركناك وخرجنا . قال : قد أنصفت من نفسك قل نسمع .
فبدأ يغرف من رصيد عظيم في قلبه وفكره المملوء بكلام ربه وكلام رسوله وأي مصدر للإقناع لمن أراد الدعوة غير ذانك المصدرين .

سمع أسيد فدهش مما سمع وقال : والله ما قلت إلا حقاً . كيف يدخل في دينك من أراد أن يدخل قال : اذهب إلى النخل فاغتسل وعد إلينا ، اغتسل وعاد ونطق الشهادتين وصار من الرصيد الدائم في سجلات مصعب رضي الله عن الجميع : انضم أسيد إلى المجموعة الجالسة في المزرعة وتحلق مع المتطهرين ، وهكذا بفضل من الله وتوفيق أدخل الإقناع عظيماً من عظماء الجاهلية الذي كاد أن يكون شوكة ضد هذا الدين ، صار شوكة في حلوق أعدائه ، جلس يستمع بجميع حواسه ، وفجأة يكسر سكون الكون ، زئير ذلك الأسد من أسود الأوس والخزرج ، إنه سعد بن معاذ ، وعند سماع صوته جاء مصعب رسالة سريعة من أسيد ، نصيحة من خبير ، خبير بنفوس الرجال ومعادنهم ، أحسن إليه فإن يسلم فمن وراءه معه ، فقال سعد : ما قاله أسيد وقال مصعب ما قاله لأسيد وقال سعد : ما قاله أسيد لمصعب . والنتيجة واحدة ما هي إلا لحظات وسعد العظيم يتحلق مع الأطهار حتى تنقضي الجلسة ويذهب إلى قومه بني عبد الأشهل ويدخلون في الإسلام جملة واحدة ، عظيمان لولا توفيق الله أولاً ثم الاقناع في القول والشخصية والطرح والعمق والتأصيل لكان العظيمان حجر عثرة للإسلام ولكن الرائد عندما يكون مقنعاً استطاع استثمار الجميع ومن ثم السير بهم ليعينوه على تحقيق هدفه، فهل كان يستطيع مصعب رضي الله عنه أن يصل إلى بني عبد الأشهل دون المرور بسعد رضي الله عنه الذي لو أُغلق لما وجد مصعب الطريق إلى ما وراءه .

إن كثيراً من الرواد يشتكون من الواقع المؤلم والشر المستطير ، وانتفاش الباطل وهيمنته ، وكلُّ هذا صحيح ولكن الباطل يعجز من أن يقف شامخاً في وجه الحق ، ولكن أين من يحمل الحق بقوة ، قوة في التمسك به ،
وقوة في الطرح ، وقوة في الصبر ، وقوة في التضحية ، وقوة في القناعات، وقوة في الثبات عليه ، وقوة في إقناع الآخرين به ، وتنويع في الطرق مع تجديد في الشكل ، مع مراعاة للمكان والزمان ، ولا يكفي كون الرائد حاملاً للحق ألا يهتم بما يحيط بالحق من الأساليب والطرق والشكل ، والمداراة والمراعاة ، فيكون الهدف بدلاً من الشفقة والحرص على المدعوين ، كيف نصدح بالحق إقامة للحجة فقط وهذا في غاية الخطورة ، لأنه لا يكفي قوة الحق في انتشاره وبقائه إنما ينبغي أن نعلم أن الحق مبهر بنوره لمن يعيشون طوال حياتهم في الظلمة . فلا يكفي أن نشِّع بالحق في وجوه أهل الظلام فإن عيونهم إذا تألمت من قوة نوره وضوئه قد تأباه وترفضه ، لا لإنكارها أنه نور ولكن لظروف محيطة بالباطل كثيرة من شهوات ورياسات وأطماع وذوات وكذلك لبعد الهوة بين الظلمة والنور فيعجز عن النهوض ولو أجدنا الإضاءة بالحق بطريقة متدرجة صحيحة لكان في حساب الممكن عند أولئك الذين يمنعهم الإحساس بالعجز والانبهار .

إن أمتنا تمرُّ بأزمات كثيرة ، وإن من الأزمات الجوهرية نجاح الأعداء في الوصول إلى أبواب الثوابت ، بعد نجاحهم في تجاوز مفاوز كثيرة من الآداب والسنن والأخلاق . قبل أن يصلوا إلى قرع أبواب الثوابت ، والمصيبة الأعظم ليس في الوصول إلى الأبواب فحسب بل إن أسوار قلوب الحراس على الأبواب قد تهدمت وانشغل الحراس عن ترميمها وبنائها ، بالتفاتات كثيرة وملهيات أكثر ، من تحسين من أوضاع المعيشة إلى تجوال بكل وادٍ ، إلى أرصدة تضخمت ويحتاج الاهتمام بحسن إدارتها إلى أوقات وأزمان ، إلى تمتعٍ بزينة الدنيا الحلال منها والحرام . إذا كان كثرة التمتع بالحلال مقعد ومؤخر ، فكيف بالحرام المهلك الذي ترخص فيه بعض الحراس ولو قلنا الرواد لما بالغنا كثيراً . إن هذه هي الأزمة الكبرى لرواد أمتنا ، في مقدار بقائهم ونقائهم وصفائهم ، على قدر ذلك البقاء والصفاء والنقاء يكون اتصالهم بالسماء أو التصاقهم بالفناء ، فكم مقدار ما يحمل رواد اليوم من العلو لا أقول عن الحرام فحسب بل عن تهارش وتصارع وتآكل الناس على الدنيا والمباحات والشهوات والأرصدة والمناصب والرياسات عندما تُملأ بها القلوب .

إن الحل للأزمة أن نعود ونرى فيما تنافس المقنعون من سلف الأمة فيه ولا طريق إلى القمة إلا طريق واحد ، وإن كانت وسائل الوصول مختلفة الطريق إلى القمة يبدأ من القلب أوله هناك ، ثم تتشعب السبل ، فإن حاول الجمع تمزق شمله، وإن سار في واحدٍ منها فسيبلغ قمة ذلك الطريق الذي سار فيه وجمع شمله ، ووحد همه عليه ، فإن كان في الدنيا فلا نهاية لها ، ولا قناعة لمن سار في أوديتها بقممها ، لأنه ليس لها نهاية ولا قمم ، ومن سار إلى الله ، وجمع شمله ، وحد همه ، ولمَّ شعثه فلم يلتفت وراءه أبداً ، فمن ألتفت وراءه أدركه العدو المطارد ، أو لربما أدركه العذاب كما أدرك زوجة لوط، التفتت فهلكت ، لأنها ليست الالتفاتة الأولى ، وإنما اعتادت الالتفاتات من قبل فلم تثبت ، فاستدار قلبها ، ورأسها حتى أوقعاها في العذاب المهين ، فإنه سيبلغ القمة في كل شيء ، سيبلغ قلبه قمته في الحب والسعادة والهناء ، لأن القلب سار في طريقه الذي صنع له ، ولم يصنع لسواه ، وصدق الله عندما قال : { وأن إلى ربك المنتهى } .
لا ينتهي القلب إلى حدٍ أبداً إلا إذا عرف الطريق المحدد له منذ أخذ العهد والمثيق { وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } .

إذا بقي القلب ممزقاً فتشتت الهم والهمم ، شعثه غير ملموم ، لم يجتمع على هم واحد ، ولم يشمر إلى هدفه ، تضحيته من أجله ، وحزنه من أجله ، لا يتلفت إلى سواه ، عندما يعيش لا يعيش إلا به ولا يرضى بالصوارف عنه مهما بلغ به من الجهد ، ضحى بهواه ومزاجه ، وبكل غالٍ ونفيس في سبيله، وإن شئت فقل إن هدفه عاش فيه ، فلم يسر بهدفه ، بل سار به هدفه ، فلا يسأله أحد عن هدفه ، لأنه متمثل في شخصه وليس كما نراه اليوم من بعض الرواد الذي لا يدري من يراه إلى أين يسير ؟ لما يرى من كثرة ما يتنازعه ، أو يتنازع فيه ، فكيف يكون مؤثراً هذا ،وكيف يقنع غيره بأهدافه ، إذا كانت المعارك فيه قائمة ، وكما سبق " فيه شركاء متشاكسون " .
من لم يكن سلماً لهدفه أياً كان فلن يبلغ ما يرجوه { كلاً نُمدِّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظور } ولكن من علا ليس كمن دنا ، ومن تزكى ليس كمن أعرض وتولى { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ولا الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } .

أيها الرائد " كيف تريد إلباس الناس لباساً لم تُجد لبسه ، بل إنك كثير الاشمئزاز لذلك اللباس المشوه ، عندما قلبت اللباس وفصلته على ما تهواه ، بمعنى أن تفعل ما تحب ولا تفعل ما يجب .
من رأى مصعباً علم سر إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم له ويرجع ذلك لأمورٍ كثيرة جداً سبق ذكر بعضها وسيلحق ذكر بعضاً آخر منها ولكن الذي يهمنا هنا هو ما يتعلق بالقناعة والاقتناع فلو بحثت أنسب من مصعب أظنك قد تجد مشقة كبيرة في الدراسة والتنقيب وإعادة النظر والفحص

ومن ثَمَّ ينقلب عليك جهدك خاسئاً وهو حسير. وإليك بعض المميزات غير ذلك الجمال الأخاذ والنسب العريق ، والشخصية المستقرة ، والذكاء المتوقد وصفاء السريرة .
إن المميزات الأخرى والتي تتعلق بالإقناع المسكت ، الدنيا التي تتوسل إليه وهي صاغرة أن يلتفت إليها ، فلم يلتفت حتى التفاتة القانعين فضلاً عن التفافة العاشقين المتساقطين عند أقدامها فتركلهم تحت قدميها وترتقي عليهم لعلها تجد نظرة ممن عشقت وأعرض عنها وبعبارة مقنعة أين تجد في روادنا رجلاً عشقته الدنيا وأقبلت عليه تلثم قدمه وهو لا يجود عليها حتى بأن تلثم قدميه "فرق كبير بين من عشق الدنيا وبين من عشقته الدنيا" .
إن دنيا مصعب ما كانت تطمع في أكثر من أخذه لبعض مرطباتها حتى يرطب بها بشرته الممزقة في سبيل هدفه وغايته .
فمثل هذا هل يخشى عليه في غربته من يتسلل ليدغدغ مشاعره أو فكره فضلاً عن دغدغة شهواته ورغباته كما رأينا روادنا المستغربين الذين سلخوا دينهم على عتبات أسيادهم وعادوا إلى أمتهم مسخاً أو مسيخاً وإن شئت فقل "فسيخاً" تفسخوا من كل فضيلة خاصة بأهل الإسلام وساروا صدى ببغاوياً مشوهاً وليس طبق الأصل ولا مستقلاً ولو كان ذلك لكان أهون ، أعني أن تتكلم بما تقتنع به لا بما يقتنع به غيرك فتتكلم عنه بالنيابة تباً لكل فسيخ تباً .
إن صناعة الأشكال والصور لهي صنعة السذج البسطاء ، وإن صناعة القلوب والأرواح لهي صناعة الاله بأيدي الأنبياء . { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } .
فسمى الله القرآن روحاً ، وسماه نوراً ، فأضء أيها الرائد نورا ، واصنع روحاً ، وارحل قرير العين ، فقد ورثت البقاء والخلود لأن الله متم نوره ، مهما تضجرت الديدان والخفافيش ، وهل تغير الديدان والخفافيش من قرار الله شيئاً { تعالى الله علواً كبيرا } .
إذا امتطيت هدفك وسار بك فسيذهل من يراك ويركب معك وسيغار آخرون ويقعدون فارفع صوتك وقل " اركب معنا" فإن أبى فدعه وسر فليس عليك هداهم ، ولا تقل لم لا يركب ، ولم لم يهتدٍ مع وضوح الحق ونصاعته ولا يكبر عليك ذلك وتذكر " وإن كان كبر عليكم اعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين "
((وإن كان كبر عليك إعراضهم))
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة ...وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر إلا حين يستحضر في كيانه كله:أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم...النبي الصابر من أولي العزم من الرسل...الذي لقي ما لقي من قومه صابراً محتسباً، لم يدعُ عليهم دعوة نوح عليه السلام وقد لقي منهم سنوات طويلة، ما يذهب بحلم الحليم!

تلك سنتنا يا محمد فإن كان قد كبر عليك إعراضهم، وشق عليك تكذيبهم، وكنت ترغب في إتيانهم بآية..إذن..فإن استطعت فابتغ لك نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فأتهم بآية!إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية. فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول ولو شاء الله لجمعهم على الهدى:إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى كالملائكة.وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه.و إما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعاً.وإما بغير هذه الوسائل وكلها يقدر الله عليها. ولكنه سبحانه لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان،لوظيفة معينة تقتضي ـ في تدبيره العلوي الشامل ـ أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة. من بينها التنوع في الاستعدادات،والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات. في حدود من القدرة على الاتجاه، بالقدر الذي يكون عدلاً معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال...... لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية وتلقى الجزاء العادل في نهاية المطاف.... فاعلم ذلك ولا تكن ممن يجهلونه.
((ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين)) يالهول الكلمة!! ويالحسم التوجيه!! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه...)) (4)
إذا كنت كذلك بنيت جيلاً بعد جيل ، وأصبحت مصدراً للإلهام والدراسة والتحقيق إلى قيام الساعة ، بل حتى أعداؤك ستراهم بين معجب يتمنى لو غسل قدميك وشرب مرقتها ، وبين حاسد قطّعه ألمه وقهره أن يرى حياتك السارة أو وفاتك القاهرة .
وإليك مثالان :
الأول : هرقل لن يدخل في الدين بل اشترى الدنيا بالآخرة وحارب جند الحق حتى هلك ومع ذلك يتمنى لو لاقى محمداً صلى الله عليه وسلم وغسلَّ قدميه التي تقله. إن الإجلال والتعظيم لمن عاش فيه وترعرع إيمانه ،
وعاش هو وترعرع بين أنهار الجنة وحورها وهو يسير في الدنيا فهل يلتفت للعفنات النجسات .
الثاني : قائد النصارى عندما سمع أن أحد أمراء بلاد الشام سجن "العز بن عبدالسلام" فسأله "لم سجنته ؟" فقال " لأنه يُحرم بيع السلاح على أصدقائنا من النصارى" فقال : والله لو أنه من قساوستنا لغسلنا قدميه وشربنا مرقتها" .
واليوم صار الساجن والمسجون من أخبار التاريخ وشتان بين الساجن والمسجون "فياليت قومي يعملون" وياليتهم للتاريخ يقرأون !!

9ـ إقدام مدروس :
في أحيان كثيرة لا تنقص كثيراً من الرواد الشجاعة والاقدام ، بل إن أمتنا لا ينقصها الأشاوس الذين يرفعون أرواحهم فوق أكفهم ليلقوا بها في مهاوي الردى فقائلهم هو الذي يقول :

سأحمل روحي على راحتي *** وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسرُّ الصديــق *** وإما ممات يغيظ العـــدا

ولكن الذي ينقصنا كثيراً هو الإقدام المدروس الذي يحقق أكبر المصالح ويدرأ المفاسد كلها أو جلها وإن لم يكن فلا أقل من تقليلها وارتكاب أخفها وأهونها فديننا كله ما أتى إلا ليجلب لنا أكمل المصالح ويدرأ عنا المفاسد ولكن كثيراً منّا لا يفقهون .
إن الإقدام الذي لا يحمل لصاحبه إلا الهلاك ولا يحقق مصلحة في العاجلة والآجلة حتى ولو كان من أجل دينه ومبدأه فإن ذلك ليس من الدين في شيء 0
أما الإقدام الذي يفتح لصاحبه باباً على النصر ، أو باباً على الجنة ، فذلك هو إقدام مصعب ومن معه من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
كثيرة هي الصفات العليا التي لا يفصل بينها وبين ضدها إلا شعرة رفيعة لا يراها إلا ذوو البصيرة التي تفوق كل ما توصل إليه العلم الحديث من الأشعة فوق الحمراء والصفراء والبنفسجية بل وجميع الألوان التي لا زال أهل زماننا يكتشفونها ولكنها لا تهديهم إلى ما ينفعهم بل جلها تهديهم إلى هلاكهم ودمارهم ذلك مبلغهم من العلم .
لا تسود أمة مترددة بلا إقدام ، ولكنها أيضاً لا تسود وهي متهورة بلا إقدام مدروس .
ولو نظرنا لسيرة مصعب وحللنا شخصيته وهو ينتقل من حياة يتساقط لها لعاب الطموح إلى حياة يتساقط منها جلده ، ويفقد نضرته وجماله ، بل وأسرته ، كيف اتخذ القرار ؟ وما تلك النفس التي كانت وراء ذلك القرار ؟ وكيف نظر إلى واقعه ؟ وما المستقبل الذي كان يستشرفه ؟ بل كيف صاغ هدفه ابتداء ؟

قبل أن أقرأ ذلك كله في عصر قراءة الأقوال والأحداث والتي أصبحت تلك القراءات وقفاً لكل أحد وهو ما شجعني لأقرأ كما قرأوا والذي أدعيه أنني لست بأفضلهم قراءة ولست بأقلهم والذي دفعني لهذا الإدعاء ما أراه من القراءات المسفة والساقطة لكثير من أحداث العصر من أولئك الرويبضات الذين يتكلمون في أمر العامة وأستجير بربي أن أهبط إلى ذلك المستوى الدوني السحيق .
إن القرار الذي اتخذه ذلك البطل السامق ، والنجم البراق ، قرار مصيري في الدنيا والآخرة ، ليس قرار ترددٍ وتجربة ، كما يفعل كثير من قادة اليوم ، يلبس قميص الاستقامة متى راقت له ، ثم يخلعه متى ضاق عليه، أو قل إذا ضاق به . مثل هذا القرار لا يأتي أولاً إلا بعد توفيق من الله واختبار واصطفاء ، ولكن سنة الله في خلقه تأبى أن يكون التوفيق والاصطفاء هو الوحيد في المسألة لأن دين الله أصلاً لا يقوم فقط على التدخل الرباني فحسب بل على جهد أهله وبذلهم أقصى ما يملكون وهناك يكون النصر . حتى لا يتكئ متكئٌ وينتظر ذلك التوفيق والاصطفاء يأتي فجأة فإذا هو في مصاف الأولياء ، إن الاصطفاء والاختيار والتمكين والنصر كل ذلك من الله لا شك ويؤتيه الله من يشاء ولكن الله جعل ذلك سبباً ، فمن أتبع سبباً ، وسار على هدى أولئك وصل بإذن الله { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } فلنقف قليلاً مع الخطوات التي سلكها مصعب رضي الله عنه :
أولها : وضوح الرؤية ، فعندما قرر سلوك الطريق فهو يعرفه ، وقد درسه ، ورأى ما يلقاه أهله من ويلات وعناء ، فأم عمار وياسر زوجها وبلال وصهيب كل أولئك لا تفارق آهاتهم وأصواتهم أذنيه ، ولكنه يعلم أيضاً نهايتهم ومصيرهم ومصير من مات من جلاديهم على كفره وشركه أين مصيره مهما كان ثراؤه ونسبه وقبيلته .
فليس له خيار إذاً فبداية الطريق شديدة الوضوح ونهايته والعاقبة معروفة أيضاً بما لا يدع سؤالاً يتردد ، ولا شك يعتمل في النفوس حول الطريق والعاقبة ، وتعدد الخيارات غير وارد .
حقارة الدنيا في قلبه بلغت منتهاها حتى أنها لا تستحق منه أن يحافظ حتى على جلده وهو يتساقط فلا يستحق ذلك كله أن يوليه التفاتة مباحة فكيف بمن أعطاها القلب كله فالتف إليها والتفت عليه فتضخمت الدنيا في قلبه فنظر لها بنظرة الإجلال والإكبار والاهتمام لأنها غطت قلبه فلم ير غيرها ومن وضع كفه الصغير على عينيه حجب عينيه عن كل شيء حتى لكأن هذا الكف هو الكون بأسره لأنه لا يرى إلا هو ، وكذلك الدنيا مع ضألتها وحقارتها إذا غطت القلب لم يبصر إلا هي ولم يبصر ما وراءها فعظمت في قلبه فانشغل بها عمّا سواها فإذا رفع الحجاب قال " ياليتني قدمت لحياتي " لأنه خرج منها وزال حجابها فعرف حقيقتها وحقارتها ، فاتضحت عنده الرؤية ولكن بعد فوات الأوان فاتخذ القرار على رؤية واضحة وروية ناضجة ولا يكفي ذلك في وضوح الرؤية فإذا كنت أترك هذه الدنيا ولا أعرف لماذا أتركها ؟ فذلك هو الغبش في رؤية ما وراء الدنيا والذي يستحق أن تترك الدنيا من أجله ، أمّا العظماء فإن وضوح ما وراء الدنيا عندهم أوضح من حقارة الدنيا عندهم ، ولو علم أولئك ، بل لو صحت واتضحت رؤى أولئك الذين ينظرون إلى شهوات الدنيا بقلوب مفطرة ، ولعاب سائل ، لو اتضح عندهم ورأوا بقلوبهم وبيقينهم حور الجنة ونعيم الجنة ، وحميم النار، وصديد النار ، لو اتضح بما لا يدع مجالاً للتساؤل والشك والاستبطاء ما وصف صلى الله عليه وسلم به الحوريات من أن نصيف أحدهنَّ خير من الدنيا وما فيها ، وما فيها من جمالها ونسائها وشهواتها " ولو أن إحداهن بصقت في بحار الدنيا المالحة لتحلت " لو اتضح هذا كله وضوحاً لا مجال فيه للريب هل تستحق الدنيا أن يضرب لها أكباد الطائرات والسيارات للوصول إلى أولئك المائلات المميلات والضائعات الذين تلوثن ولوثن كل تافه وساقط ثم تتبذل لها الأنظار والأسفار والأعمار ذلك كله لا يأتي إلا إذا تضخم الكف ليغطي البصر الذي لولا الكف لرأى رحابة الأفق كله إن العظماء خرجوا من ذلك الضيق كله إلى سعة في القلوب والدروب والدنيا والآخرة واتضحت الرؤية وزال الغبش ، وأسفر الطريق ، فامتطاه السائرون إلى الله أما أولئك فهم في تيههم يترددون . فياله من شقاء ، وما أطول طريق التائهين، فلم يعرفوا البداية من أين ؟ ولا النهاية إلى أين ؟ فهم السكارى بحق لا أصحاب الكؤوس فحسب .

ثم إن اتضاح الرؤية فيما بعد الدنيا ليس إلى النعيم فقط بل إلى الجحيم الذي يُسجرُ لمن حادَ وأبى ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس فيها غمسة واحدة فقط ثم يقال له : هل رأيت نعيماً قط ؟ فيقول : لا والله ما رأيت نعيماً قط ... الحديث " نسي الدنيا كلها ونعيمها في غمسة فهل تستحق أن يصرف لها شيء من الاهتمام والحديث حول هذا كله له شجون .
ولكن اتضاح الرؤية لا يشمل هذا أيضاً كله فحسب ، بل اتضاح الرؤية حتى في النعيم المقيم الذي يعيشه بلال ومن معه في الرمضاء ويعيشه من سار على دروبهم في قيودهم ومعتكفهم وسجونهم وفي جميع أحوالهم فالله القائل { فلنحيينه حياة طيبة } فقال حياة ولم يقل في الآخرة فحسب مع أن الله يعلم ماذا يلاقي من سار على هذا الطريق أليس هو القائل : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذي آمنوا معه متى نصر الله إلا أن نصر الله قريب } بل إن اتضاح الرؤية في هذا هو أول الاتضاح المحسوس الملموس الذي رآه مصعب ومن معه رأوا أولئك الذين تثعب دماؤهم من صدورهم فيلطخون بها وجوههم ويقولون " الله أكبر فزت ورب الكعبة " وكل ذلك ليس الخطوة الأولى لأن مصعب لو عاش سعيداً مستقر القلب غير مضطرب مع ذلك النعيم المقيم وفي ظل ذلك السؤدد لما وصل به التفكير إلى أولئك المعذبين السعداء أو إلى أن يحتاج فكره المترف إلى تجوال في كلام ذلك النبي وفي ما وراء الدنيا ، لأن صاحب القلب المستقر يستغني عن التفكير فيما يزيل استقراره وهناءه ، ولكن مصعباً وكل من عاش شقاء الترف الفارغ الموهوم السعادة ، البراق في لونه ، المميت للعقول والقلوب والهمم ، الخالي من الحمد والإيمان بمن رزقه وأعطاه ، كل من عاش في ذلك يعتادون اللذائذ حتى تنقلب إلى جحيم فيبقى رونقها وتزول لذتها ، وذلك لأن من خلق النعيم في الدنيا كتب فيه الهم والحزن والشقاء والأمراض الفتاكة ما لم يلهم أصحابه السير إليه ، فالخطوة الأولى لمصعب كانت من النعيم الذي كان فيه لم يرو طموحه ولا عقله وقلبه ، بل لبى حاجة بطنه وجسمه فقط ، فالجانب الطيني هو هدف الديدان التي تتصارع فيه ، أما الجانب الروحي ، وما يملأ القلب والروح والعقل فهو الذي يحتفل به خلفاء الله في الأرض من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقا ، ومن هنا شعَّ النور وبدأ يتسلل إلى فؤاد العملاق المتململ في نعيمه يبحث عن نعيم روحه وعقله وقلبه وفي الآخرة ذلك كله ومعها جسمه ونظرته ورونقه وبهاؤه ، فجمع كلَّ ما سبق فاكتملت رؤيته وبدأت المقارنة .

.... ثانيها : المقارنة الدقيقة :
" غنم المسلمون بساطاً من حرير أو كساءً ، فعجب من عجب ودهش من دهش ، وصاحب القلب المملوء بنعيم الآخرة ، ونعيم المناجاة ، صلى الله عليه وسلم ينظر إلى أصحابه وهم ينظرون إلى بهاء هذا الكساء ، وأراد صلى الله عليه وسلم ، أن يثقب لهم ثقباً ، أو أن يفتح لهم روزنة على الجنة ليقارنوا وهم الحكم ، وهم أصحاب القرار بعد ذلك فقال صلى الله عليه وسلم " أتعجبون من هذا ؟ والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منه " وهنا سمت الرؤوس وعلت الأعناق وارتفعت الأبصار لتتأمل ليس في المناديل التي لسعد رضي الله عنه بل للمقارنة بين ما في الدنيا كلها وبين المناديل ثم إذا كانت المناديل كذلك فكيف اللباس ؟ وكيف الفراش ؟ وكيف البيت كله ؟ بل كيف من يناول سعداً المناديل من الحور والولدان ؟ بل كيف؟ وكيف ؟ وكيف ؟ أسئلة في المقارنة لا تنتهي عندما تسمو النفوس وتصير كباراً تستطيع أن تطول تلك النوافذ التي ينظر أصحابه منها لما في الجنة من نعيم مقيم وهم لا يزالون في الحياة الدنيا لم تأخذ هذه المقارنة من مصعبٍ وقتاً طويلاً ليتخذ قراره لأنه قد شبع من الدنيا ونعيمها ولم يتحقق له ما يتوقعه من لا يزال يتسلق الأشواك فتمزقه وهو لا يصل إلى ما وصل مصعب منها ثم إذا وصل وتركها علم كما علم مصعب أنه لم يكن يسعى إلا ليطرد سراب فإذا لقيه ارتفع لها سراب آخر حتى ينخرط ويقتحم هوة كبيرة من سقط فيها لم يخرج أبداً ليعاود الكرة ويسير بعد ذلك على بصيرة بل هي فرصة واحدة من لم يهتبلها فسيرفع صوته كثيراً في ظلمة تلك الهوة وهو يقول " رب ارجعون " ولكن الجواب "كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " فمن إحسان الله إلى أولئك الذين تربعوا وأمسكوا زمام الثراء أن قرارهم بترك ذلك كله ليس صعباً على من قارن النعيم بالنعيم والحال بالمآل ، وسمع من وراء حجاب بقلبه وعقله وفكره أصوات من خلفوا لهم الثراء وهم ينادون ولا ييأسون " رب ارجعون " ويأتيهم الجواب "كلا" فيتخذوا قرارا قبل النداء بالرجعة ويرجعون وهم قادرون قبل أن ينادوا وهم" حائرون ، ولا يحتار في اتخاذ القرار عند الاضطراب وحتمية الاختيار إلا من دسوا أنوفهم في طين المال فأنِسوا به ، وأدمنوا على رائحته ، فهم يعبون منها ولا يشبعون وتزداد النفوس سعاراً فكأن رائحة الموجود لا تأتي إلا بالمعدوم فلا يزالون يلهثون وراءه ليجلبوه ، فيشقون بفواته ويشقون بجمعه ، ويشقون بالمحافظة عليه ، ويشقون بالخوف عليه ، ويشقون بطلبه ويشقون بالسؤال عنه وهم ينادون "رب ارجعون" ، أما من اتخذ القرار كمصعب وغيره من أصحاب القرار ، فهم على قسمين :
قسم حاول المال أن يقف في وجهه صاداً له عن الجنة وهو أمام خيارين أما أن يدس أنفه في ماله ويبقى هناك مدسوساً حتى يدسه في التراب وإما أن يركله ويتجاوزه لثراء القلب والعقل والفكر ونعيمها واستقرارها .
وقسم صالحه المال ،فليس بينه وبينه محادة ولا مفاصلة بل مكّنه من صهوته فامتطاها إلى الجنة 0
فأما مصعب فكان من القسم الأول وأما ابن عوف وعثمان فمن القسم الثاني فاتخذ كلٌ القرار المناسب اللائق بحاله وجمعهم الطريق في نقطة واحدة على حوض واحد وكان المكرِم لهم صاحب الحوض المورود ، افترقوا في القرار واجتمعوا في دار القرار { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم فنعم عقبى الدار } .
قارن مصعب بين اضطراب قلبه في النعيم ، وتيهه في الحياة ، وبين سعادة أولئك في القيود ، وهناء قلوبهم المتحررة من التيه والعبودية لغير خالقها ، فوجد أن ما هم فيه أعلى وأغلى ، وأسنا مما هو فيه ، فكيف وهو لا يزال ينتظرهم من المناديل فقط خير من جمع أهل الدنيا بأسرها فكيف ما عدا المناديل من حورٍ عُرب ، ومن أقبية اللؤلؤ والقصب ؟ ومن لباس الفضة والذهب ؟ إن شامخ الأنف الذي لم يدسه في طين المال ، ونجا من رائحته القاتلة لا يتعب ولا يصعب عليه اتخاذ القرار الصائب ، ولا يأتي ذلك إلا بيقين لا شك فيه وثقة لا زعزعة فيها ، وقدوة سامية ماثلة أمام عينيه رآها وهي تتكئ على المال بقدميها وتسمو عليه وترتقي وكأنها تتسلق جدار الغيب لتنظر إلى نعيم الجنة ، فاستفادت من المال ليرفعها فامتطته وما امتطاها المال فأركسها ، وفرق كبير بين عابد المال ، ومستعبد له ، إن المُثل تموت إذا لم تجد من يحولها إلى واقع ، وإن ماتت فلا تزال النفوس تهفو إليها ولا تطيقها حتى يأتي القدوات فيبثون فيها الروح بالتطبيق والتمثل فتحيا ما دامت تلقى من ينفخ فيها الروح ، فهي لا تموت ولا تنتهي ولكنها تبقى حية في الضمائر يتوارثها الأجيال في أقوالهم حتى يبعث الله من يحييها في أعماله ، ومن تلك المثل (استخدام الدنيا مطية للآخرة) بقيت هذه القيمة حبيسة النفوس والضمائر ومتمثلة في أفراد تمثلاً جزئياً إلى أن بعث الله قدوة عاش المثل عملاً وقولاً وتتابع وراءه الاصحاب والاتباع كلما ضعفت في نفوسهم استلهموا سيرة القدوة العظيم .

..... ثالثها : القدوة السامية
" أتى عتبة بن ربيعة بعد أن خسر المعركة في الرمضاء وكان أهلها الضعفاء من الموالي والآماء ووقودها جلودهم الضعيفة السوداء ، تلك الجلود التي تغطي تلك القلوب الناصعة البيضاء ، أتوا بعد أن خسروا المعركة إلى صانع العظماء على عين الله وبقوله ، فقال يا محمد : والله ما رأيت بأشقى منك على قومك ، فرقت جماعتهم ، وسفهت أحلامهم وسببت آلهتهم ، يا محمد : إذا كنت تريد ملكاً ملكناك ؟ وإن كنت تريد زواجاً طلبنا لك أجمل نسائنا وزوجناك ؟ وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً حتى تكون أغنى هذا الوادي ؟ ا هـ ...

وإني أرى أنه يتوجب عليَّ أن أقف مع هذا العرض وقفات :
أولها : هذا السخاء العظيم الذي نراه ، ما الذي دفع قريشاً إلى أن تجود بهذا العرض الذي يسيل له لعاب كل طالب دنيا ، ليس لذلك تبرير ولا جواب، إلا إجابة واحدة إنها الهزيمة الذريعة هزيمة الشرك أمام التوحيد ، ففعلوا ذلك حفاظاً على ماء وجوههم وكبريائهم ، ومحافظة على سيادتهم ورياستهم التي أصبحت تترنح أمام قوة قذف الحق وسطوته .

ثانيها : لِمَ هذا التنازل ، وهذا الخلق الذي يبدو مذهلاً من أهل الزيغ والشرك والطغيان والكبرياء إن الذي له سلطان في النفوس يضمحل ويتلاشى كجبال الجليد أمام جذوة نار صغيرة أو أشعة شمس لطيفة لا تلمس وليس لها
جرم ولا هيلمان ، وإن الشرك في النفوس كذلك ليس له سلطان ، وإن الحق ليستمد سلطانه وبقاءه من سلطان الله ودوامه فهو الحي الدائم ، وهو الحق سبحانه ، فسلطان الحق إذا ظهر تتجاوب معه النفوس السليمة وتذوب فيها جبال الباطل المتراكمة مع الزمن ومع التشويه والتأجير والتنكيل تشويه الحق، واستئجار العقول ، والتنكيل بمن نجا من التشويه والتأجير ، وهنا اضطرت قريش أن تتنازل هذا التنازل المهين لها والمعز لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن معه حفاظاً على البقية الباقية من الباطل في نفوس الاتباع ، وكذلك ثمناً لوقوف زحف الحق من محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه ، وهكذا فإيقاف الحق عند أهل الباطل يستحق ذلك كله وأكثر والمدافعة عن الباطل ثمنها قد يكون نفيساً وغالياً ، لا لحب الباطل ذاته ، ولا للشك في بطلانه أو التردد في ذلك ، بل لما يحققه الباطل من مطامع وشهوات ورياسات وسلطة لأهله ، وإلا الباطل أعجز من أن يقتنع به أحد ، أو يشك في بطلانه أحد ، ولكنه مغرٍ لأصحابه بالرياسات والشهوات واللمعان والصولجان ولكنه في الحقيقة زبد طائش لا حقيقة له في الأعمال " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " .

ثالثهما: ما هذا الضعف الرهيب للباطل وأهله أمام الحق وأهله ؟ ما هذا الهوان الذي حل بقريش وهي تحمل السلاح والنار والجبروت والكبرياء حتى أنها لتستجدي المستضعفين العزل الذين لا يملكون حتى ما يأكلون فضلاً عن السلاح الذي به عن أنفسهم يدافعون ؟ إن هذا الضعف وهذا الهوان وهذه الذلة وهذا الاستجداء هو المصير المحتوم للباطل وأهله وإنما إذا واجه الحق وأهله ، ولن يصل الباطل إلى هذا التردي وهذا الهوان ، إلا إذا وصل أهل الحق إلى ذلك السمو والارتفاع الذي لا يصل إليه رذاذ الباطل وقذارته ذلك السمو الذي وصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه العظماء ، وذلك السمو الذي وصل إليه المعذبون في رمضاء مكة يجرجرون وهم في الرمضاء يعذبون ويسحبون يُعرض عليهم ملك قريش ليتنازلوا تنازلاً بسيطاً ويلتقوا مع جلاديهم في منتصف الطريق ، ومع ذلك ينظر المعذبون المحتقرون إلى جلاديهم باعتزاز وعلو ، وكأنهم ينظرون من جبال الحق السامقة الشاهقة إلى أصحاب الباطل وهم في أوديته السحيقة ، وكأنهم يقولون بلسان الحال والمقال " أتريدون أن ننزل من هذا السمو إليكم في مستنقعات دنياكم ـ المبهرة لكم ـ حتى ننافسكم في هذه المستنقعات ، الذي لا يتنافس فيها إلا الديدان " لن يهزم الباطل هذه الهزيمة المزرية وهذا الصغار العظيم إلا إذا بلغ أهل الحق هذا السمو الكريم ، وهذه النظرة الصحيحة للدنيا وما فيها حتى ولو كان ملك الدنيا بأسرها .

رابعها : لِمَ لم يتربع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه على القمة ثم يبدأون الإصلاح من هناك ؟ إن هذه النظرة السطحية هي ما يحاول أن يفعله كثير من المصلحين الساعين إلى سدة الرياسة ثم الاصلاح من هناك وإن هذا مع استحالته أو صعوبته بلا تنازلات ليس أقلها "تمييع القضايا الأساسية في الدين " وخصوصاً في الأوضاع الراهنة ، فإنه ليس الطريق الصحيح للمبادئ والقيم . إذ كيف تتربع على هرمٍ رأسه من حديد وأدناه من ورق أو ثلج أو زجاج ، فإذا هززته بأمرٍ ، أو هزته ريح الفتن والمحن والمصائب انهار ثم ينسب الانهيار إلى الحق وأهله ويقال للناس "هؤلاء هم لا يصلحون أن يقودوا الناس ولا يصلح منهجهم لقيادة الدنيا ، لا يصلح إلا للآخرة ، إنهم متخلفون لا يصلحون للشيء ، والناس يصدقون لما يرون من انهيارات أمام الأعين " وما ذلك إلا لأن البناء بدأ من الأعلى ولا يصلح بناء من الأعلى إلى الأدنى إذ ليس له قاعدة متينة فكلما بنيت بناء سقط لأنك خالفت السنة الكونية للأشياء " (وما تجربة المجاهدين الأفغان عنا ببعيد) إن الحق إذا لم تكن قاعدته في المجتمع راسخة وعميقة حتى تبنى في كل نفسٍ دولة إسلامية راسخة القواعد والبناء ، فإن بقاءه واستمراره أماني . إن الحق إذا لم يبنِ في النفوس لبنة لبنة بناء مرصوصاً متماسكاً فإنه يكون على شفا جرف هار. إن المحاولات المستعجلة المستبطئة للنصر لن تجدي شيئاً ولن تحقق إلا رصيداً من اليأس المتراكم في نفوس كثير من الجيل .
إن السنن الإلهيئة لا تحابي أحداً لحرصه ولا لصلاحه ، ولا تستعجل لعجلة مستعجل ، إن سنة البناء متى تخلفت تخلفت النتيجة ، فمن وضع لبنة فوق ، ولبنة تحت ، ولم تكن مرصوصة من الأساس إلى الرأس متماسكة مترابطة ، فإن النتيجة معروفة ركام من لبنات غير مثبتات ، قد يكون ضررها أكثر من نفعها ، لما يجمع الركام من اللبنات ، من الحيات والعقارب والحشرات .

فمن أراد نصراً كنصر محمد صلى الله عليه وسلم فليسلك نفس الطريق الشاق الذي سلكه ، وإن سلك غيره فستكون النتيجة غير النتيجة . "ولن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها " .

فماذا كان جواب القدوة العظيم على هذا العرض المغري لمن لم يعرف خصائص وطبيعة الطريق . ورد عنه صلى الله عليه وسلم جوابان :
الأول : "أنه قرأ عليه سورة فصلت والأرجح أنها ليست مع عتبة وإنما مع الوليد " .
الثاني : وكان هذا مع عمه أبي طالب أنه قال " والله يا عم لو صعدوا إلي هذا وأشار إلى الشمس فأشعلوا منها جذوة ما أنا بتارك ما أنا فيه " وفي رواية وإن كان فيها ضعف " والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا ما تركته " .
هذه القدوة تتجلى أمام مصعب ، هذه النظرة السامية للدنيا وما فيها يراها مصعب رأي العين ، يرى هذا العلو بالروح وبالنفس وبالفكر ويرى التحليق بها هناك في أرجاء الجنة وهو بأقدامه وبجسمه يسير مع الناس ويمشي في الأسواق ويأكل الطعام ، ويرى هذا السمو فيتمثله هو سلوكاً عملياً حياً واقعاً مع دنياه ومع نعيمه ومع ماله ومع رفاهيته عندما وقفت عقبة أمام قراره الدخول في هذا الدين العظيم .

رابعاً : فراغ القلب لم يملأه الثراء :
عندما أراد مصعب الإقدام وترك ما هو فيه من النعيم نظر للثراء وماذا حقق له من الاستقرار ؟ فإذا بقلبه كلما ازداد تنعماً زاد شقاء وفراغاً ثم ينظر بعين أخرى إلى أولئك المعذبين الذين تركوا الحياة ومن فيها وما فيها وأحدهم يقول "مزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فتغلبت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب فصبرت " فعلم أن أولئك المعذبين يملكون من استقرار النفس ومن هناءة العيش ما لا يملكه هو ، وينتظرهم من المصير على لسان الصادق الأمين ما لا ينتظره إن استمر في ثرائه مع شقائه ، فقارن فإذا به لا يتميز عليهم إلا بالجلد الناعم والثوب الفاره والبطن المملوء والقلب الفارغ من معاني الراحة والسعادة وإذا به هو يشقى في الدنيا في نعيمه ويشقى في الآخرة في جحيمه إن لم يتخذ قرار الانضمام إلى قافلة السعداء المعذبين . فاتخذ القرار .

خامسها : (سمو المكتسب وضآلة الخسارة)
من فكر فيما يكسبه أصحاب الحق وجد أموراً لا يتركها إلا أحمق ثمنها على سبيل المثال لا الحصر :
1/ العاقبة في الدنيا والآخرة { والعاقبة للمتقين } .
2/ الحياة الطيبة { فلنحيينه حياة طيبة } .
3/ الفلاح { واتقوا الله لعلكم تفلحون } .
4/ الطمأنينة وراحة البال { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .
5/ النصر والتمكين { وإن جندنا لهم الغالبون } .
6/ الاستخلاف في الأرض { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض ..... الآية } .
7/ ولاية الله { والله ولي المتقين }
8/ محبة الله { إن الله يحب المحسنين } .
9/ الجنة والفوز في الآخرة { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } .

ثم فكر ما الخسارة التي يمكن أن يخسرها من قرر سلوك طريق الحق وجد حقارتها وضآلتها حتى ولو كانت الدنيا بأكملها في سبيل النعيم المقيم ، ومن هنا يتضح لنا سرعة القرار وصوابه عند من اتضح عنده المكسب والخسارة وضوحاً لا يخالطه غبش ومن أولئك سحرة فرعون الذين غدو إلى المعركة والدنيا تملأ اسماعهم وأبصارهم فكان همهم الأجرة والثمن { وإن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين } وبعد أن دخلهم الحق فغير ما بداخلهم صاروا في المساء يقولون في وجه الطاغية بلا خوف ولا تردد " فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " وصدق الله القائل { بل نقذف بالحق على الباطـل فيدمغه فإذا هو زاهق } إن الباطل إذا قُذف بالحق لا يكاد يلتقط أنفاسه .

إذا وفق العبد أن يرى الحق بوضوح بلا غبش ولا تشويه لا يكاد يستطيع أن يتردد لحظة في قبوله وأخذه مهما كلفه الثمن لأن جذور الحق في أصل الفطر ، فكل الفطر ترى الحق ، ولكن قد يعلو كثيراً في الفطر من الموانع والصوارف من الحق ما يجعله ثقيلاً عليها فتأباه لا يقينها في صحة الباطل أو شكها في بطلانه ، بل لصعوبة التضحيات بالشهوات صعب على النفوس فراقه ، وكذلك لنقل الحق على النفوس الهزيلة ، وطول الطريق ، مع خفة الباطل وسهولة حمله ولمعانه وكثرة سالكيه ، لذلك كله يتعثر الكثير ممن يسيرون بالحق وإلى الحق مما يجعل أهله قلة يشعرون بالوحشة ما لم يكتمل أنسهم بربهم فتأنس ضمائرهم بربهم ، ويتلذذون بالعقبات لأنها الدليل على أنهم على الطريق الصحيح ، والعلامات الفارقة بين أصحاب الجنة المحفوفة بالمكاره ، وأصحاب الجحيم المحفوفة بالشهوات .

إن أصحاب الغايات لا تلهيهم الأهداف عن الغايات ، وهذه معضلة أحياناً حتى عند أصحاب الحق الصادقين أعني "تنازع الغايات مع الأهداف" بل لا أبالغ عندما أقول "إنَّ من أحوج ما نحتاجه في هذا العصر التفريق بين الغايات والأهداف ودعونا نأخذ على ذلك ثلاثة أمثلة ، مثالاً من حياة مصعب رضي الله عنه ومثالين من واقعنا اليوم :

المثال الأول : حدد مصعب غاية عظمى وهو الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة مهما كلف الأمر . وكان له أهداف يشترك فيها كل الناس ويسعون إلى تحقيقها ومنها الحياة الطيبة بشموليتها من رغد العيش وسعة الرزق وحسن الدخل وراحة البال والسعادة في الحياة فتعارض جزءٌ من هذا الهدف مع متطلبات الغاية الكبرى ، فاستصحب مصعب الغاية كلها وجعلها نصب عينيه ولم يلتفت إلى فوات الهدف كله أو بعض أجزائه وهذا هو الفقه الأكبر الذي يتفاوت فيه العظماء فضلاً عمن دونهم من الناس ، إن عدم استصحاب الغايات عند اتخاذ القرارات يفرز داءً عضالاً يعاني منه الفرد ويعاني تبعاً للأفراد الأمم . وهذا الداء هو تضخيم الأهداف ورفعها أعلى مما تستحق حتى تصبح الأهداف هي الغايات . ولك أن تتأمل ما حققه مصعب عندما استصحب الغايات وما خسره عندما حقق الغاية الكبرى التي يهون مع تحقيقها كل مفقود . ثم حقق من الأهداف طمأنينة البال ، والسعادة في الدنيا ، وعلو المكانة وعلو الحياة ، وعلو الممات ، بل أصبح ممن يتكلم عنه التاريخ وهو محفوظ للأجيال في صوره ، وإنه من السهل أن نتكلم عن التاريخ ومن العسير أن يتكلم التاريخ عنا ، وما الذي خسر من أهدافه إذا ؟ إنه قد خسر شيئاً جوهرياً عند أصحاب الأهداف المضخمة ، وشيئاً زهيداً عند أصحاب الغايات ، خسر الرفاهية ورغد العيش والثوب الجميل واللون الجميل ، وكم هو الفرق بين أن تكون في التاريخ جميلاً ، وبين أن تكون في الشكل جميلاً .

المثال الثاني : طالب التفوق ، إذا قلنا بأن غايته رضا الله ، وهدفه التفوق ثم لم يستصحب الغاية وضخم الهدف فإنه سيحصل على هدفه بأي طريقة سواء كانت ترضي الله أم لا ، ومن أجل ذلك نرى من طلاب التفوق من يحصل عليه بالغش أو الرشوة أو أي وسيلة غير مشروعة ولو استصحب
الغاية لما حصل على تفوقه إلا بما يخدم غايته ويوصله إليها . فبدلاً من أن يوصـل أصحاب الأهداف المضخمة هدفهم إلى الغايات تصبح حائلاً بينهم وبينها .

والمثال الثالث : من ساحات الجهاد المفتوحة فلو تأملنا الغاية التي يجاهد أهل الإسلام من أجلها ولا شيء يفوقها "هي تعبيد الناس لله " والتي لخصها ربعي بن عامر قديماً في قوله : " إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " إذا كانت تلك الغاية فنعمت الغاية لدى كل مجاهد وإن كان غير ذلك فقد ضخمت الأهداف على حساب الغايات ، فعندما يصعب تبليغ دين الله للناس ويكثر القتل والتفجير والتدمير أليس ذلك من تضخيم الأهداف وتحجيم الغايات .
هل نسينا إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي إلى اليهود عندما أمر أن يدعوهم قبل أن يقاتلهم وقال " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " إن الهداية أولاً فمن أباها ووقف دونها أزيح .
بل قصة علي ذاته مع عمرو بن ود وغيرها وغيرها بل جميع الفتوحات الإسلامية وأعجبها فتح سمرقند عندما لم يعرضوا عليهم الإسلام أولاً ثم الجزية ثانياً ثم القتال ثالثاً تمّ إخراجهم لأنهم قدموا الهدف على الغاية وإليك القصة باختصار : " دخل المسلمون إلى سمرقند فجأة لأنهم أرادوا أن يفاجئوا أهلها قبل استعدادهم وعلم أحبار النصارى أن هذا يخالف تعاليم الإسلام فأرسلوا من يشتكي لعمربن عبدالعزيز- يشتكي جنده إليه!!- أين هذا في عرف اليوم ؟ " وعندما وصل إليه والعجيب أن الرسول لم يصل إليه إلا وقد أعلن إسلامه ـ اشتكى جيش المسلمين إلى عمر بن عبدالعزيز وأخبره أنهم لم يخيروهم في إحدى ثلاث . فما كان من عمر إلا أن أرسل ورقة إلى قاضي الجيش ليحكم بين قائد الجيش وأهل سمرقند ، وصل الرسول إلى الأحبار بالورقة فقالوا : وما عساه أن يفعل القاضي بقائده ، ولكن ليس أمامنا إلا ذاك ، وصلت الورقة إلى القاضي فجمع قائد المسلمين مع قائد سمرقند وسمع الشكوى وأقر قائد المسلمين بذلك فما كان من قاضي المسلمين إلا أن حكم على قائد المسلمين بالخروج وتخييرهم فخرج القائد وجيشه فخيروهم فاختاروا الجزية وانبهروا من هذا الدين العظيم فدخلوا في دين الله أفواجاً وأصبحوا من جنود الإسلام " .

والحاصل أن قائد المسلمين في البداية قدم الهدف على الغاية فكاد يصرف الناس بذلك عن الدين وبعد التصحيح اعتنقوا الدين. إن الهدف الأول للإسلام فتح النفوس بالحق لا فتح الحصون ، وتحرير العباد من الضلال قبل تحرير البلاد .
(وفرق كبير بين من يفتح البلاد لتحرير أهلها وبين من يفتحها لاستعباد أهلها)
وباختصار((بين فتح التحرير وفتح الاستعباد))


--------------------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 1/48 وقال المحقق عنه أرجاله ثقات إلا أن صالح بن كيسان مؤدب عمر بن عبدالعزيز لم يدرك سعد بن مالك فهو منقطع 0
(2) التربية القيادية " منير محمد العضبان " ج1 ص64-265 0
وسير أعلام النبلاء ج1 ص148
(3) الظلال ج5 ص3049 .
(4) في ظلال القرآن سورة الأنعام .
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 عبدالسلام الشمراني
  • مقالات تربوية
  • ثمرات الأوراق
  • مسائل فقهية
  • خواطر
  • دروس تربوية
  • دروس ومحاضرات
  • عروض بوربوينت
  • السيرة
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية